
تساؤلات الحياة المشتركة بحلوها ومرها في 'اعترافات زوجية'
يتميز الروائي و الكاتب المسرحي والمخرج الفرنسي من أصول بلجيكية إيريك إيمانويل شميت بتعدد مواهبه وغزارة إنتاجه في مجالات الرواية والقصة القصيرة، كما كتب عددا من مسرحيات الفصل الواحد والمسرحيات متعددة الفصول، علاوة على قيامه بالاقتباس من أعمال أدبية وفنية مشهورة لمبدعين من أمثال نويل كوارد وإلكسندر دوماس ووليم شكسبير، كما مارس الإخراج وكتابة السيناريو لعدد من الأفلام وكتابة الدراسات والمقالات.
وهو في هذه المسرحية "اعترافات زوجية" يتجلى فيلسوفا حيث يطرح سلسلة من الأسئلة الفلسفية عن الزواج والعلاقات الحميمة والحياة المشتركة بين الزوجين بحلوها ومرها.
المسرحية التي ترجمها أحمد الويزي وراجعها د.محمود المقداد، وصدرت سلسلة المسرح العالمي، قدم لها د.محمد شيحة بدراسة حول حياة وتجربة شميث الروائية والمسرحية والسينمائية، وفي موضع آخر قام بتحليل المسرحية فنيا.. لافتا إلى إنها كوميديا تحمل الكثير من المفاجآت من خلال عدة مواقف بين الطرفين تحدث بالتبادل، والتي تحدث انقلابا يحول مجرى الحدث مرة بعد أخرى حتى نهاية المسرحية، وقد عرضت هذه المسرحية في معظم أنحاء أوروبا تقريبا، كما عرضت في أمريكا اللاتينية، حيث حصلت على جائزة أفضل عرض سنة 2005 فكيف عالج شميت هذا الموضوع على مستوى الشكل والمضمون؟.
ويقول "جيل بطل المسرحية يعاني من فقدان الذاكرة نتيجة حادث غامض، وهو يشعر أنه قد أصبح غريبا بالنسبة لنفسه وبالنسبة للمكان عندما تقوده زوجته "ليزا" إلى عش الزوجية.. من هو "جيل" ومن هي "ليزا"؟ كيف كانت حياتهما المزدوجة، وكيف حاول أن يعيد تشكيل أو توليف وجوده من خلال ما ترويه "ليزا" له، ولكن ماذا لو كانت "ليزا" تكذب؟ هل هو كما تصفه؟ هل هي زوجته حقيقة؟ إنه.. أي المؤلف يستخدم نوعا من التشويق المدهش في عرض حكاية زوجين يبحثان عن الحقيقة..تبدأ أحداث المسرحية بدخول "جيل" و"ليزا" شقتهما ليلا.. تدلف هي للداخل بينما يتخلف "جيل" حيث يقف عند عتبة الباب وفي يده حقيبة، ويبدو كأنه لا يعرف هذا المكان كما يبدو مترددا في الدخول وما يلبث أن يجيل النظر إلى كل أركان الشقة وكل قطعة أثاث بعد أن تغمر المكان أضواء المصابيح.. ثمة شيء غامض يتعلق بارتباط "جيل" بالمكان لذلك فإنه لا يكف عن طرح الأسئلة عن بعض مفردات الأثاث ولا تكف هي عن تأكيد ارتباطه بهذه الأشياء التي كان يصر دائما على الاحتفاظ بها وعدم استبدالها أو تجديدها تأكيدا لنظريته "لا شيء ينبغي القيام به في بيت ما".
ويضيف شيحة "هل العيش معي جحيم لا يطاق؟! قد يبدو السؤال الذي يطرحه على "ليزا" مفاجئا لقارئ المسرحية أو مشاهدها، ولكنه ليس مفاجئا لتلك المرأة التي تؤكد له أنها تعاشره منذ خمسة عشر عاما وتكون إجابتها عن سؤاله بعد فترة صمت: "هو دون شك جحيم لا يطاق.. إلا أنني بشكل ما أتمسك به". هذا المشهد الافتتاحي في المسرحية يحدد الموقف الذي سيبني "إريك شميت" عليه الحدث الدرامي بأكمله، كما يهدف إلى تركيز انتباه المتلقي على أشياء محددة مع احتفاظه في الوقت نفسه بأصول حرفية الكتابة، فالمشهد وإن كان يوحي بمركز الاهتمام في المسرحية والذي ينحصر في شكل العلاقة بين "جيل سوبيري" و"ليزا"، إلا أن طبيعة هذا الاهتمام لا يمكن تحديدها بوضوح أو فهمها فهما كاملا قبل أن يكتمل الحدث في نهاية المسرحية، وتكمن براعة المؤلف هنا في أنه يجعل المتلقي بعد صفحات يمسك بأول الخيوط فمنذ خمسة عشر يوما استيقظ "جيل" ذات صباح ليجد نفسه طريح الفراش في أحد المستشفيات وانتبه على صوت إحدى الممرضات تعرب له عن فرحتها باستفاقته منادية إياه باسم "السيد سوبيري" فأحس بغرابة الاسم وظن أن هناك خطأ ما في التسمية وقعت فيه إدارة المستشفى، وعندما أجهد ذاكرته في البحث عن هوية أخرى غير تلك التي يريدون إلصاقها به ليكتشف أنه لا يعرف من يكون لأنه فقد الذاكرة، ثم تزوره امرأة أخرى ظن من طريقة ملاطفتها له أن مسعفة من صنف خاص جدا أنيطت بها مهمة مميزة، ويكفي لتأكيد ذلك أنها أشعرته بأنها زوجته وخاصة أنها لم تكن ترتدي زي الممرضات، لذا فقد ظل يخاطب "ليزا" زوجته بتحفظ شديد وبصيغة الجمع التي تدل على الاحترام.. لقد أكدت له أنها زوجته وأنهما في بيتهما، وتحت تأثير كلماتها يسلم بالأمر الواقع.. هو إذن فاقد للذاكرة وهذه زوجته وذاك بيته ولكن ما الذي سوف يفعله إن لم يستعدالذاكرة؟ هذا هو السؤال الرئيس الذي ألح على ذهنه خاصة وأن كثيرا من الأشياء التي تحيط به ما عادت تحمل أي معنى بالنسبة له لأن هناك خارج هذا الذهن كونا بأكمله مملوءا جدا ومتماسكا، ولكنه أصبح كالمتاهة بالنسبة له فقد شعر بأنه غير قادر على أن يعثر لنفسه على الدور الذي يمكن أن يلائمه في ذلك الكون الغريب!.

ويتابع "وبعد حوار كتب بعناية شديدة يسترسل فيه "جيل" في التعبير عن مبلغ الحيرة التي وقع فيها من جراء انزعاجه من احتمال استمرار حالة فقدان الذاكرة، والتي لن تزول إلا إذا حدثت له صدمة ولعل هذه الحالة هي إحدى بوادرها، والتي يتمثل فيها رغبته في محاولة التعرف على نفسه وعلى تلك المرأة التي تؤكد له أنها زوجته، ومع ذلك يعتقد أنها لن تستمر في العيش مع فاقد للذاكرة.. مع قرد يشبهه أو على الأقل مع توأمه الذي لم يعد سوى مظهر منه.. لقد ظل يطرح المزيد من الأسئلة المتلاحقة على "ليزا" في تيار متدفق من التفكير بصوت مسموع: هل كانت حقا تحبه؟ وإذا لم تكن تحبه فقد آن الأوان أن تحاول التخلص منه على الأقل لأنه لم يعد هو نفسه، وهل كانت بينهما معاشرة حميمية طبيعية أم كانت متكررة وفيها كثير من الاندفاع؟.
وعندما يهم بتقبيلها بعد أن حركت مشاعره تجاهها بتأكيدها له على مدى شدة تقبل كل منهما للآخر تتملص منه وتبعده عنها معتبرة أن ذلك أمر سابق لأوانه الآن بالذات فما يهمها في المقام الأول هو أن تدعه يتعرف على نفسه وعلى الماضي القريب على الأقل وإن كانت قد أدركت من خلال بعض العبارات التي بدأ يرددها أنها نفس عباراته السابقة حرفيا لأنه كان مولعا بنحتها في صورة مقولات نظرية مكثفة يكررها ارتباطا بمناسبات معينة، ولكنه لا يبدي أي نوع من التفاؤل، فبعد أن صدته بشكل حاسم يعود إلى الشرود مرة أخرى ويصبح مبلبل الخاطر وتخطر على باله فجأة فكرة الرحيل ويصر على ذلك ولكنها تستوقفه سائلة: إلى أين؟. أنت لا تستطيع المضي إلى أي مكان.. إنك هنا في بيتك، هنا بيتك وأنا زوجتك يا "جيل" وعندما يستسلم وينزل حقيبته على الأرض يطلب من "ليزا" أن تساعده في رحلة البحث عن ذاته، ومن ثم أصبح يتعين عليه أن يصدق كل ما تقوله من أنه كان رساما فهو الفنان الذي قام برسم تلك اللوحات المعلقة على الحائط، وأنه لم يكن يتكسب عن طريق الرسم، وإنما عن طريق كتابة الروايات البوليسية، كما أنه لم يكن زوجا غيورا بل وفيا مخلصا في حدود ما تعلم على الأقل، فقد كان لا يبرح البيت تقريبا لعكوفه على الكتابة والقراءة وتزجية الوقت في ممارسة هوايته للرسم..
ويرى شيحة أن هذه الجزئيات من حياة "جيل" تجعله يتمسك بالحاضر وقد لا يخشى المستقبل بدرجة أقل بكثير من خوفه من الماضي، فقد يكون مثقال وتقوده تلك الحالة الطارئة للسؤال عن عيوبه وليس عن مهنته أو بعض جوانب سلوكه الإيجابية و"ليزا" تخبره بأن أبرز عيوبه هو التسرع وخوفا من أن تجره هذه الاستدعاءات إلى الوقوف على المزيد من المعلومات التي قد تسبب له بعض الإزعاج يتمنى "جيل" أن ينتظر عودة ذاكرته دون خوف مما سوف تحمله من نتائج، ولكن الهواجس مازالت تطارده فقد يكون ما حدث له مجرد نوع من الحيل الهروبية أوصلته لتلك الحالة من عدم المعرفة متسلحا بالجهل فرارا من مواجهة حقيقة ما مجهولة، وأن ما حدث له هو مجرد صدمة نفسية.. تلك الوساوس المجانية التي استبدت به، تؤدي به إلى الوقوع فريسة للمخاوف التي يجري توزيعها بينه وبين "ليزا" رغم محاولتها تلافي حدوث ذلك عندما أجبرها على أن تقسم له بأن الكشف عن سبب الصدمة التي أدت إلى فقدانه للذاكرة لن تؤدي إلى عدم ارتياحه بأي حال من الأحوال. لم يكن في قول "جيل" بعد ذلك لزوجته حدثيني عن نفسي فقد صارت نفسي موضوعي المفضل أي تجاوز للحقيقة؛ لأنه نفسه كانت كذلك على الدوام وبامتياز، فقد كان دائم التودد لنفسه إلى الدرجة التي كان يوقع بها كتاباته الخاصة بعبارة "إليّ أهدي هذا الكتاب، كتابي الخاص مع كامل الصدق والوفاء" والتوقيع "جيل"!.
ويؤكد شيحة أن القارئ يمكنه ملاحظة أن إيريك شميت يبدو حريصا من خلال الإرشادات المسرحية على الاستعاضة عن السرد بوصف الحالة النفسية المعبرة عن الجو العام للموقف، فيبدو الأمر وكأننا أمام "سيناريو" يتحول في ذهن المتلقي إلى مجموعة من الصور تسهم في تحقيق دفعة للحدث، وهذا ما ندركه عندما نقرأ هذه الإرشادة "بشزر ينظران في اتجاه بعضهما البعض مرة أخرى وكأنهما عدوان لدودان يود كل منهما لو أنه يتفوه بأكثر مما تفوه به الآخر غير أن أيا منهما لا يجرؤ على ذلك". يزداد توتر "ليزا" إذ ترى أنه في حالة ذهنية جيدة ومن الصعب أن تقتنع بأنه لم يستعد ذاكرته، فالطريقة التي يفكر بها تبدو منطقية والأسئلة التي يطرحها تبدو ذكية وهو في حالة من الهياج مبعثها الخوف من ماضيه الذي يتصوره على نحو بشع وتحاول "ليزا" إقناعه بعكس ما يقول باعتبار أن ذلك نوع من إعادة تأهيله مستغلة في ذلك ما يعانيه من التباس ذهني فتسخر منه مؤمنة على كلامه، فلا شك أنها بذلك سوف تحقق حلم كل امرأة ترغب في ترويض زوجها بعد مرور زمن على حياتهما الزوجية المشتركة، وتختم كالمها بقولها "انظر جيدا، إن من تقف أمامك الآن ليست مسعفة طبية وإنما مروضة!".
ويشير إلى أن إيريك شميت يشعرنا في أعماله بصفة عامة، وفي ذلك النص بصفة خاصة أنه في رحلة بحث عن إطار جديد لفنه الدرامي وعن صيغة متطورة تناسب العصر، وقد كان المفهوم التقليدي للتحول يعني تغير الأحداث أو المواقف من النقيض إلى النقيض وفقا لقانون الاحتمال أو الضرورة، أما الاكتشاف فيعني الخروج من حالة عدم المعرفة إلى المعرفة أو يعتبر معرفة يقينية لحقيقة كانت مجهولة على أن يكون ذلك نابعا من الأحداث ومرتبطا بالموضوع، وبهذا المعنى يعتبر الاكتشاف قائما بين طرفين من البشر، ويتم على مرحلتين في الأولى يعرف الطرف الأول شيئا عن الطرف الثاني وفي الثانية تتم المواجهة بين الطرفين، هذا المفهوم التقليدي يقفز إلى الذهن عندما يشعر المتلقي أن سلوك "جيل" فيه شيء من الصلف الذي يستولي على الإنسان نتيجة اعتقاده في تملكه للمعرفة وانفراده بذلك في استعلاء كبير يقوده إلى ذلك الشطط في السلوك الذي يخرجه عن سمة الاعتدال وفي حالته لم يتحقق الاكتشاف عن طريق التذكر عند الشخص فاقد الذاكرة، وإنما كان مناورة كبرى قامت على ادعاء فقدانها ثم تسريب بعض المعلومات التي تدل على اقتراب استعادتها سعيا لتحقيق المواجهة الأخيرة نتيجة الاعترافات المتبادلة بين الزوجين المتصارعين وكشف ما ارتكبه كل منهما في حق الآخر من جرائم زوجية صغيرة!.