الهم الوجودي يلف رؤى العبدلي في مجموعته الشعرية
يستعد الشاعر العربي-الدنماركي د.سليم العبدلي لإصدار مجموعته الشعرية الجديدة باللغة الدنماركية بعنوان يمكن أن يترجم إلى العربية بـ "هي كما هي". والعبدلي الذي يكتب بالعربية والدنماركية، قدم حتى الآن أربعة مجموعات بالعربية وثلاث الدنماركية، "من رائحة الفراق"، و"الأمكنة مقابر الوقت"، و"همس المرآة.. أسرار الجسد"، "لا لغة للحب". كما وأنه يترجم من وإلى اللغتين، ونشرت له بعض القصائد في مواقع أدبية باللغة الانكليزية، أخرها في "أنطولوجيا الحرب" مع أكثر من أربعين شاعرة وشاعر من مختلف بلدان العالم، ودعي هذا العام للمشاركة في مهرجان الشعر العالمي الذي يقام في نيروبي كل عام. ويذكر أيضاأن العبدلي أكاديمي، عمل كباحث ومحاضر في جامعات بلدان عديدة إلى جانب الجامعات الدنماركية، منها أمريكا وألمانيا وهولندا وبنغلادش، وأخيرا الصين، حيث لا يزال بروفسور منتدب في إحدى جامعات بكين.
تمثل مجموعته هذه بتيمتها الجديدة منحى جديداً في كتابات العبدلي بالدنماركية، وذلك ـ وفقا له ـ لما تضمنته من قصائد يطغي عليها الطابع الرومانسي، والذي لا يشغل مكانًا واسعًا في الأدب الدنماركي، بل على العكس، فان المادية العالية هي سمة الأدب الدنماركي بشكل عام، بينما تعتبر الرومانسية، خاصة تلك التي تتناول حالات العشق، غير مرغوب فيها من قبل النقاد.
يعكس العبدلي تيمته الرومانسية في المجموعة هذه في مواضيع الحنين والفقدان والشوق والاشتياق من خلال الآخر.. وما يمت ذلك إلى الحالة الوجودية، بشقيها الجمالي والذاتي. ويجد القارئ تيماتها موجهة للمرأة في فصل وللوطن والانتماء في فصل آخر. وقد كُتبت معظم قصائد هذا الديوان خلال فترة جائحة الكوفيد، حيث ساد الهم الوجودي بوضوح ـ كما يقول الشاعر ـ ولكن وللاسف، تجسد فقط في النضال من أجل "البقاء الذاتي"، ومهما كلف ذلك الأمر من تضحيات مادية ومعنوية، وفي بعض الاحيان انسانية، حيث تجلت نزعة ”البقاء لي وإن هَلكَ الجميع“ في معظم تصرفات الناس، ناهيك عن القرارات السياسية التي صاغتها نزعة "نحن أولاً وليذهب العالم إلى الجحيم" في معظم البرلمانات الغربية والدول الغنية، ذلك الجزء من العالم الذي يتواجد فيه العبدلي. وهنا ظهرت وبوضوح هيمنة رأس المال وانتصاراته لنفسه. كذلك تجلى الجانب البدائي، أو ما يسمى بالغريزي، والذي ظن العقل الانساني المتطور أنه سيخبو، وربما سيزول من الذات الانسانية بتطور المعرفة والعلم والرقي، أي من خلال التطور الحضاري الذي تمر به المجتمعات.
وأوضح العبدلي "أثناء فترة الجائحة، والتي دامت لما يقارب العامين، عام طغى على المواطن الانعزال والرعب والخوف من الاختلاط بالآخر، وعام ثان أقل صرامة في القيود والعزلة، ولكنه لم يخلو من آثار الخوف والتحفظ في التعامل مع الآخر. وقد سادت في البداية نزعة الاستحواذ على المنتجات الغذائية والانعزال في البيوت أو الابتعاد عن المدينة والعمل والاصدقاء وحتى العائلة. وقد ساعدت الحكومات في شيوع هذه الحالة بعد أن أُغلقت معظم الدوائر والمؤسسات الرسمية والخاصة وكافة أماكن الراحة والترفيه والاستجمام، ونالت الجوانب الثقافية الجزء الأكبر، حيث أُغلقت السينمات والنوادي والمقاهي والمسارح والكاليريهات لفترات طويلة وكانت أخر ما تم رفع الحظر عنها.. فتحولت المدن التي كانت تعج بالناس إلى مدن أشباح. أما الجانب الأكثر قسوة فقد ظهر في استحواذ الدول الغنية، لقدرتها الشرائية، على اللقاح المضاد لفيروس كورونا، حتى قبل التوصل إلى انتاجه. وقد دفعت حكومات هذه البلدان المليارات من الدولارات لشركات الادوية ثمن اللقاح مقدمًا، لكي تضم الكمية الكافية لمواطنيها. وهنا في الدنمارك، دفعت الحكومة الدنماركية لشراء اللقاح قبل انتاجه، وبكميات تفوق عدد سكان البلد باكثر من خمسة اضعاف! وفجأة ظهرت الملياردات من الدولارات في خزينة الدولة، بعدما كان سائداً عدم قدرة الدول على الصرف، عندما يتعلق الأمر بمحاربة ظاهرة الاحتباس الحراري أو تطوير الطاقة الخضراء من أجل إنقاذ الكوكب الأرضي، أو عندما يتم أقرار ميزانية الدعم لدول العالم الفقيرة.
وقال "ما لبثت الجائحة أن تنتهي ويعود العالم إلى ما يشبه حاله قبل هذه الأزمة، حتى أجتاحت روسيا الاراضي الاوكرانية لتبدأ الحرب الروسية-الغربية، والتي هي الاخرى فضحت سياسة المعيار بمكيالين من قبل الغرب. وأنشق العالم إلى معسكر تقوده الولايات المتحدة بكل قوتها العسكرية وهيمنتها السياسية، التي حاولت بها جر دول العالم جميعاً إلى صفها، ولكنها لم تفلح في ذلك هذه المرة. ومعسكر آخر غير متجانس يضم من انحاز في صف روسيا تماماً ومن وقف موقف حياد من الطرفين وآخر متردد بين التنديد بالاجتياح الروسي والتعاون مع الحكومة الروسية في نفس الوقت. وهنا ظهرت ملياردات الدولارات الاخرى لتصعيد التسليح العسكري ودعم الحرب، بل واستمرارها. ولنا أن نتساءل حميعاً، لم كل هذا التسلح في بلدان تملك قوة عسكرية تفوق باكثر من عشرات المرات قوة العدو، أي روسيا؟ ولأول مرة يتم استقبال اللاجئين بترحاب غير مشهود ودون شروط وتمحيص كما كان سائداً سابقاً خلال الحروب الأخرى التي كانت تعصف بدول غير اوروبية بين الحين والآخر. وفي كلتا الحالتين لم تُسأل الحكومات، من أين جاءوا بهذه الأموال الخيالية؟ أو كيف لهم أو للأجيال القادمة أن تسددها؟ لقد اتضح تماماً أن الانسان الغربي لا يأبه كثيراً بما يحل بشعوب العالم الثاني أو الثالث أو.. عندما تسعى حكوماته لزيادة ترف العيش له، رغم أن هذا الترف ليس إلا حصيلة سرقات وانتهاكات لموارد وثروات الآخرين. ويمكن يوماً أن يفقده لعدم وقوفه في الصف الانساني.
في كلتا الفترتين الزمنيتين، فترة الجائحة وفترة الحرب التي لا تزال مستمرة، كما لفت العبدلي "وجدت نفسي في مواجهة عالم يتغنى فقط بالشعارات الانسانية، ولكنه في الحقيقة لا يكترث بحقوق الانسان أو الحفاظ على الطبيعة وانقاذ البشرية أو اشاعة السلام وازالة حدة التوترات بين الدول والنهوض بالبشرية من اجل عالم مشترك للجميع. بل على العكس، اخذت الاصوات تتعالى، حتى المثقفون، وتتسابق على تنفيذ العقاب وفرض العقوبات الاقتصادية التي عادة تصيب شعوب دول العالم لا حكوماتها. عندما يكرر الجميع نفس الكلام، فهذا لا يعني إلا غياب العقل، أو بالأحرى أن هناك عقل واحد فقط يفكر، بينما الآخرون يرددون ما يفكر به ذلك العقل.
تتضمن المجموعة خمسة وثلاثين قصيدة تتوزع في خمسة فصول غير متساوية في عذب القصائد، ومعنونة تباعاً "الحب الصامت يمكن أن يكون هو الحب الحقيقي" و"البعد خالق التوق" و"الوجود الصامت ليس بوجود" و"عندما يكرر الجميع القول، يعيش العقل في منفاه" و"ما الوطن إن لم يكن وطني"، ورغم هذه العناوين، فان حالة الحب هي السائدة.
في عمر الوقت
وعندما يشيخ كل شئ
يبقى الحب
شاباً..