عادل مصطفى يبحث في 'دلالة الشكل' عبر دراسة في الإستطيقا الشكلية

الكاتب والفيلسوف المصري يرى في كتابه ان أمة تطرح للنقاش في القرن الحادي والعشرين حول مسألة مشروعية الفن هي أمةٌ محمومةٌ تهذي.

يرى الكاتب والفيلسوف المصري د.عادل مصطفى أن الفن ليس حراما وليس جائزا، الفن لازم، والأمة التي تطرح للنقاش، في القرن الحادي والعشرين، مسألة مشروعية الفن هي أمةٌ محمومةٌ تهذي، مؤكدا في كتابه "دلالة الشكل دراسة في الإستطيقا الشكلية" أن الجمال هو ظل الله على الخليقة، والنفس تعرف ذلك بالسليقة وتقول "الله" (بجميع اللغات) كلما صادفت الجمال، والروح ترى "الحق" منعكسًا في الرائعة الفنية انعكاس الشمس على وجه القمر، وترى الأبدي في "الأشكال الدالة" كأنها فتوقٌ في الزمن. التلقِّي الإستطيقي عرفانٌ هائلٌ ولقاءٌ جلل، وإلا لما كان مصحوبًا بهذا الانفعال الفريد وهذا الوجد الشديد وهذه النشوة المستبدة. أمر الجمال جِدٌّ لا يصحُّ أن نسف به أو نَبتذله بحديثٍ عن المجون أو الخلاعة أو الانحلال، ونقد الفن لا يكون إلا بِلُغتِه وعلى ارتفاعه، فلنصبر على الفن في هذه الحقبة المُلتبسة، لنَصبِر على الرائين وعلى العميان معًا، ريثما تَسترد الروح شيئًا من عافيتِها المهدرة، وتعود ترى الفن على وجهه، وتضع أمره في نصابه.

ويتابعد.عادل مصطفى في كتابه الصادر عن مؤسسة هنداوي أن الفن شكل قبل كل شيء، والأثر الفني هو أثر فني لأنه شكل كلي متَّسق مع نفسه وقابل للإدراك، وكأنما هو موجود طبيعي له وحدته العضوية واكتفاؤه الذاتي وحقيقته الفردية، فليس العمل الفني تعليقًا على شيء يمتدُّ فيما وراءه في صميم العالم، ولا قرينة تذكرنا بأشياء أخرى قائمة في الواقع الخارجي، إنما الآثار الفنية "رموز" تنطوي على معانٍ، لا مجرد "علامات" تدل على أشياء، والتعبير الفني ليس مجرد استجابة لموقف حاضر أو لمؤثرٍ واقعي، بل هو "شكل رمزي" يوسع من دائرة معرفتنا ويمتد بها إلى ما وراء مجال خبرتنا الواقعية أو دائرة تجربتنا الحالية.

ويبين ما هو الفن، ولماذا هو لازمٌ لكل إنسان ولكل أمة. وقد توسَّمت دراسته جوابًا ما عن هذين السؤالين، رغم أنها دراسةٌ في علم الجمال "الإستطيقا" ناقش فيها الفن من وجهاتعدة: المحاكاة والتمثِيل والأَعمال الأَدبية، والبعد الأَخلاقي للفن كذلك. بالإضافة لقراءةٌ في كتاب "الفن" لكلايف بِل؛ يقول "ذلك أننا لو علمنا ما هو الفن، ومم يتكون، وإلام يرمي، وكيف يُتلقى؛ لأدركنا من فورنا لماذا هو ضرورةٌ في ذاته وبمعزلٍ عن أي عوارض ثانويةٍ وعن أي عواقب لاحقة".

ويضيف "لكل عملٍ فني وجود فيزيائي أو مثول مادي، فالفنان دائما يُجسِّد عمله في مادةٍ معينة أو واسطةٍ ينتقل بها العمل إلى الآخرين، وتتفاوَت هذه الواسطة المادية "أو الفيزيائية" بين فن وآخر، فهي ألوانٌ وخطوط في فن التصوير، وأحجام من حجارة أو خشب أو معادن في فنَّي النحت والعمارة، وأصوات آلاتٍ في الموسيقى، وصوت بشَري في الغناء، وحركات جسَدية في الرقص، وكلماتلغوية في الشعر والدراما، وأضواء ومرئيات وغيرها في السينما، هذه الوسائط الحِسِّية هي خامة الفنان الأولية التي يَجبُل بها عمله، وهي لغته التي يُخاطب بها جمهوره، إنها مادة تَنتمي إلى عالم الطبيعة وتَخضع لقوانين الطبيعة؛ ومن ثم فهي تُملي على الفنان شروطها، وتتحكَّم في حريته وإمكانات تعبيره، فمِن شأن مادة الخشب أو الرخام مثلًا أن تَرمي بالفنان في عالم يَختلف عن عالم الزيوت والماء والقماش، وتُفرض عليه قوانينُ غير قوانين الصوت أو الحركة، وعلى الفنَّان أن يُذعن لقوانين المادة ويَفي بمتطلباتها، وهو ما عبَّر عنه كثيرٌ من الفنانين واتَّخذوه شعارًا لهم: "احترم مادَّتكrespect your medium".ولعلَّ طريق الإبداع الفني هو قصة حب طويلة بين الفنان ومادته، مليئةٌ بالصراع والولوع، والترويض والتمرُّد، والقسوة والحنان، والجفاء والأُلفة بين المصوِّر والألوان، بين الشاعر والكلمات، بين الموسيقى والنغمات، بين الراقص وجسمه، بين المطرب وصوته، إنه عِشقٌ أبدي، وزواجٌ كاثوليكي، إنه الحب الأول والأخير لدى الفنان الحق، أما شئون الحياة وشجونها، وأما القضايا والمُشاهدات والمُلهمات، فما هي في حقيقة الأمر وصميمه إلا وسيلةٌ إلى الفن وحُجةٌ وذريعة!.

ويلفت إلى أن الفنان في نهاية المطاف وآخر الجدل ليس هو الشخص العميق الفكر، ولا هو الشخص المشبوب الانفعال ولا الثري التجارب، فكل هذه صفاتٌ توجد في أناسٍ بعدد الحصى دون أن تتخايل في أحدهم بارقة فنٍّ واحدة، إنما الفنان هو ذلك الشخص الذي "يُفكِّر ويحسُّ من خلال وسيطٍ فني معين، وأيًّا ما كانت انفعالاته وأفكاره، مُلتهبة أو باردة، عميقة أو سطحية، فإنها تتمثَّل لذهنه متجسدةً في وسيطه الخاص". ويعلم كل مزاولٍ للفن أن العملية الفنية في عامة الأحوال ليست حالةً أو فكرةً مجرَّدة يبلغ إليها في مرحلة منفصلة ثم يُحاول الاهتداء إلى صوبٍ فني يكسوها به في مرحلة ثانية، إنها مُلتحمةٌ بالوسيط منذ البداية، وكثيرًا ما تكون العملية الفنية هي عملية تنمية لحن أو التوسع في تصميم بصري أو تعقب تركيبةٍ لفظية ورؤية ما تُسفر عنه.

ويرى أن المادة تُبدي تمردًا ومقاومةً يعرفها كل فنانٍ، ولا سيما المعماري والمثال، وكأنها تقف حائلًا بينه وبين تحقيق الرؤية القابعة في خياله، "روي عن ميكلانجلو أنه كان يصنع تماثيله في سَورةٍ من العنف والغضب والهياج، حتى إنه كان يقول لسائليه عن سر هذا الهياج: إنني لأُبغض تلك الحجارة التي تفصلني عن تمثالي". على أنه غضب طفولي أبتر، فالفنان يَعرف بالسليقة أن لا نجاة من المادة إلا إليها، الفنان يَعرف الوجد، ويعرف أنه لا يجيء إلا كاسيا، إلا متسربلًا بالوسيط.

ويلاحظ مصطفى أن علاقة الفنان بوسيطه الفني ليست دائمًا علاقة صراع وتوتر، فالمادة ليست قيدا وتحديا على طول المدى، إنها إلهام أيضا وتيسير، فالوسائط المادية غنية بالقيم الترابطية والتعبيرية التي يُمكن للفنان أن يستغلها، يُروى عن المثال بيلي R. A. Baillie قوله "إنك كلما مضيت قدما في النحت، أوحى إليك الحجر ذاته بتحسيناتٍ تدخلها على تخطيطك الأول". فكل وسيط مادي يَمتلك من الخصائص الجمالية والإمكانات التعبيرية ما يلهم الفنان ويُشير عليه ويقود انفعاله في مجرى معين ويحقق له ما كان يودُّ أن يُحققه، فقد يعثر الموسيقي في نغمةٍ معينة أو في مزاوَجةٍ نغميةٍ عفوية على مفتاح سِحري إلى أفقٍ موسيقيٍّ جديد لم يكن يَحلم به، وقد تزور الشاعر لفظةٌ معيَّنة أو اقترانٌ لفظي عابر فيرى فيه تجسُّدًا لما كان يَعتلِج في صدره زمنًا ولا يَعرف ما هو، وقد يجد المثال في مادة البرونز المعدنية بقابليَّتها للصهر والتجويف وخفَّة وزنها إلهامات إلى طرائق معينة من التجريب والتعبير، بل إن التقنيات الحديثة قد تُمد الفنان بوسائط تخليقية غير مبذولة في الطبيعة تَمنحه إمكاناتٍ تشكيليةً لا عهد له بها، فتفتح له طرقًا غير مطروقة وتُسكره بوعودٍ تعبيريةٍ جديدة، إن المادة تُسعف الفنان وتأخذ بيده وتعلمه وترشده.

ويعتقد إن الإنسان، كما بيّن إرنست كاسيررE. Cassirer، هو حيوان رامز قبل كل شيء، أي حيوان يصنع الرموز ويعيش في عالم من الرموز، والفن هو مظهر من مظاهر حضارة الإنسان إلى جانب الأسطورة والدين واللغة والتاريخ والعلم. وليست الرموز البشرية مجرد مجموعة من العلامات التي تشير إلى بعض المعاني أو الأفكار أو التصورات، بل هي شبكة معقَّدة من الأشكال التي تُعبر عن مشاعر الإنسان وانفعالاته وأهوائه ومعتقداته، "إن فطرة الإنسان أوسع من دائرة العقل الخالص". ومكانة الفن في مضمار الحياة الإنسانية إنما تَرجع إلى كونه لغةً من اللغات الرمزية العديدة التي حاول الإنسان أن يَصطنعها في فهمه للعالم،٢ فالفن ليس مجرَّد تكرار لحقيقةٍ جاهزة أو ترديد لواقعٍ قائمٍ سلفًا، بل هو كشف لحقيقة جديدة وتعبير عنها بلغة رمزية.والفن شكلٌ قبل كل شيء، والأثر الفني هو أثر فني لأنه شكل كلي متَّسق مع نفسه وقابل للإدراك، وكأنما هو موجود طبيعي له وحدته العضوية واكتفاؤه الذاتي وحقيقته الفردية، فليس العمل الفني تعليقًا على شيء يمتدُّ فيما وراءه في صميم العالم، ولا قرينة تذكرنا بأشياء أخرى قائمة في الواقع الخارجي، إنما الآثار الفنية "رموز" تنطوي على معانٍ، لا مجرد "علامات" تدل على أشياء، والتعبير الفني ليس مجرد استجابة لموقف حاضر أو لمؤثرٍ واقعي، بل هو "شكل رمزي" يوسع من دائرة معرفتنا ويمتد بها إلى ما وراء مجال خبرتنا الواقعية أو دائرة تجربتنا الحالية.

ويضيف "ما دام الفن يقدم معرفةً حقيقية ـ ويقول (يقرر) قضايا حقيقية، فهو من ثم خاضعٌ لمعياري الاتساق والتطابق، على طريقته أيضًا، والاتساق في العمل الفني هو أن يستغل العمل إمكانات الوسيط الحسي ويحترم مبادئ المعالجة الخاصة بقالبه الفني، وأن تخلو قضاياه التي يعبر عنها من التناقض فيما بينها ومن المزج الاعتباطي بين أساليب متباينة، وأن يكون في مجموعه كلًّا متكاملًا وتعليقًا معقدًا متماسكًا على موضوعه الذي يعمد إلى التعبير عنه، أما التطابق في العمل الفني فهو، ببساطة، تطابقه مع العالم "الخارجي أو الوجداني" شريطة اتخاذ الإطار المرجعي للفنان، والمثل الذي يضربه جرين هو تصوير سيزان للأشجار، فطريقة معالجة سيزان لهذا الموضوع تؤكد سمات معينة يتجاهلها بقية الفنانين؛ ذلك لأن سيزان يؤكد "صلابتها الثلاثية الأبعاد"، "وفي استطاعتنا أن نذهب مباشرةً إلى الطبيعة، ونختبر دقة ملاحظاته المسجلة على أساس اهتمام سيزان المعرفي الخاص، فإذا اختبر الناقد ملاحظات سيزان على هذا النحو، لما تمالك نفسه من الإعجاب بموضوعية بصيرة سيزان، ولأدرك أننا بدورنا نستطيع أن نرى ما رآه سيزان".