نور مصالحة يقارب من زوايا متعددة تاريخ فلسطين عبر الزمان
كانت فلسطین محوریة في التاریخ الإقلیمي والعالمي لعدة آلاف من السنین، أيضا في هذا اليوم وهذا العصر الذي تواجه فیه فلسطین والفلسطینیون تھدیدات وجودیة.. فلسطين الذي ظهر اسمها موثقا أول مرة في العصر البرونزي المتأخر، قبل نحو 3200 سنة (باليونانية Παλαιστίνη)، هو الاسم المصطلح عليه بين 450 ق.م و1948م لوصف منطقة جغرافية بين البحر المتوسط ونهر الأردن وأرض مجاورة مختلفة. وهذا الكتاب الأكاديميوالمؤرخ الفلسطيني - البريطاني نور مصالحة "فلسطين أربعة آلاف عام في التاريخ" يدخل بنا إلى التاریخ والتراث والجذور العمیقة للفلسطینیین والسكان العرب الأصلیین في فلسطین. مستكشفا تطور مفهوم فلسطين تطور لا على أنه التاريخ الفلسطيني أو تاريخ شعب متحديا المقاربة الاستعمارية لفلسطين والخرافة الخبيثة أرض بلا شعب. سعيا لتفسیر البدایات المتعددة ومراحل تطور مفھوم فلسطین، ووضعھا في السیاقات، الجغرافیة، والثقافیة، والسیاسیة، والإداریة.
يستخدم مصالحة في الكتاب الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية طيفا واسعا من الأدلة، والشهادات والمصادر المعاصرة، حيث يعتمد مقاربة من زوايا نظر متعددة لتاريخ فلسطين عبر الزمان مع عدم الإشاحة عن حقائق البلد وشعبه الأصلي. والكتاب، فوق ھذا، یرى أن التطور في خطوط متوازیة للتجربة المفھومية لفلسطين مع انعطافاتھا وتحولاتھا غیر المنتظرة في الزمان والمكان، يتركز على أفكار عامة وملموسة، تمثل الخصائص التاریخیّة والأساسیّة والتجارب المعیشة ِ لفلَسطین وشعبھا الأصلي.
ويؤكد إن وحدة فِلَسطین من حیث الجغرافیا - السیاسیة، وتمثلاتھا في السیاقات (والتأطیر المحلي لھا)عمیقة الجذور في الوعي الجماعي، والتجارب الیومیّة لدى شعب فِلَسطین الأصلي، بثقافاته المتعددة وماضیه القدیم المشترك. ويقول "اسم فلسطین ھو الأكثر شیوعا في الاستخدام، منذ العصر البرونزي المتأخر (منذ 1300 ق.م)حتى الیوم. والاسم واضح في ما لا یحصى من التواریخ، "الكتابات العباسیة من ولایة جند، والنقود الإسلامیة والخرائط القدیمة (بما فیھا خرائط العالم بدءا من العصور فِلَسطین الكلاسیكیّة القدیمة) والنقود الفلستیّة من العصر الحدیدي والعصر القدیم، والمقادیر الھائلة من نقود فلسطین الأمویة والعباسیة التي تحمل اسم فلسطین. وكما أشارت مخطوطات الجنیزة . ومنذ العصر في الفُسطاط (القاھرة القدیمة)، إلى ولایة فلسطین العربیة الإسلامیة. ومنذ العصر البرونزي المتأخر، كانت تطلق على المنطقة أسماء دجاھي، وریتینو، وكنعان، ومھدت جمیعھا اسم فلسطین. وعبر العصور القدیمة الكلاسیكیّة والمتأخرة - وھي عبارة یطلقھا المؤرخون لوصف الحقبة بین القرنین الثالث والثامن المیلادیین، أي الحقبة الانتقالیة بین العصور القدیمة الكلاسیكیة والعصور الوسطى في عالم البحر الأبیض المتوسط، أوروبا والشرق الأدنى - ظل اسم فلسطین ھو الأكثر شیوعا. وحتى في العصور الرومانیة والبیزنطیة والإسلامیة، اكتسب مفھوم فلسطین وجغرافیتھا السیاسیة وضعا إداریا رسمیا.
يرمي مصالحة إلى أن یثبت كیف أن اسم "فلسطین" كان الأكثر شیوعا واستخداما في الإدارات الرسمیّة، في التاریخ القدیم. ویناقش أن أسطورة غزو "الإسرائیلیّین" أرض كنعان، والروایات الأساسیّة الأخرى في العھد القدیم (أو "التوراة العبریّة") - وھي مجموعة كتب وضعت عبر قرون متعددة - ھي روایات خرافیّة غرضھا التأسیس لوعي خاطئ، ولیست ً تاریخا مؤسسا على أدلة تخدم الحقیقة وفھم الوقائع. والكتاب یرى ً أیضا أن مناھج التاریخ الأكادیمیّة والمدرسیّة یجب أن َّ تؤسس على وقائع تاریخیّة موضوعة في سیاقھا، وأدلة ملموسة، ومكتشفات أثریة وعلمیة، لا على آراء تقلیدیة أو سردیات خیالیة من العھد القدیم، والعقائد الدینیة - السیاسیة التي یتكرر سردھا لأجل مصلحة النخب ذات النفوذ.
ويقول مصالحة "یُنشئ بعض الكتاب والفنانین العرب الذین ینافحون في قضیة فِلَسطین السیاسیّة والوطنیّة أو في العروبة، سردیات شاملة لرسم صورة الھویة الوطنیّة ِ الفلَسطینیّة، أو القومیّة العربیّة، على أنھما أقدم مما ھما فعـلا. علاوة على ھذا، كان شعب فِلَسطین، حتى مجيء الصھیونیّة السیاسیّة الأوروبیّة، من خارج السیاق الزمني، في بدایة القرن العشرین، یضم عربا مسلمین، وعربا مسیحیّین، وعربا یھودا. ومن الناحیة التاریخیّة، القول بثنائیّة العرب مقابل الیھود في فِلَسطین، بوصفه استدعاء للصراع الفلسطیني - الإسرائیلي الصھیوني، ھو أمر مضلل جدا. ِ فالفلَسطینیّون یمارسون انتماءھم لبلدھم فِلَسطین، إفرادیًا وجماعیًا. وعلى الرغم من أن الاستعمار الاستیطاني الصھیوني انتھك حقھم الأصیل لتقریر مصیرھم في وطنھم التاریخي، ومن أنھم یعیشون إما تحت احتلال استیطاني – استعماري، أو منفیون ونادرا ما یسمح لھم أن یعبروا عن أنفسھم، فإنھم واظبوا، على الحدیث عن بلادنا فِلَسطین؛ أو فلسطیننا، وحتى الفلَسطینیين الذین حصلوا على جنسیة إسرائیلیة في أراضي 1948 یتحدثون غالبا عن البلاد أو بلادنا، تعبیرا عن عقلیّة وطنیّة أو تجنبًا لكلمة إسرائیل، وربطا بفلَسطین التاریخیة والشعب الفلسطیني ككل. إن كلمتي "بلاد أو بلادنا"، ھما تعبیران عربیان من القرون الوسطى، وكانتا شائعتین في الاستعمال قرونا متعددة وھما متجذرتان عمیقا في حیاة الناس الیومیّة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تأثرت لفظة وطن بالكلمة الأوروبیّة Patria، وصارت لفظة وطن أقرب ارتباطا بظھور الأشكال العصریة من مفھوم الوطن القومي (الوطنیّة) في فِلَسطین، وكل العالم العربي.
ويرى أن ردود الفعل الفلسطینیة على التھجیر بالقوة، والتطھیر العرقي من قراھم ومدنھم "استطرادیة بكثرة، ومعقّدة، ومتقلّبة" في العقود الأخیرة، جرى ویجري إنتاج الكثیر من الروایات، والقصائد، والأفلام، والمسرحیات، والتوثیق الإثنوغرافي والفوتوغرافي، والخرائط، ومحفوظات التاریخ المحكیة، والمواقع الإلكترونیّة، وطیف واسع من الأنشطة في المجتمعات المنفية والمھجرة داخلیا، والكثیر منھا یرمي إلى مواجھة الإنكار الإسرائیلي، وتصحیح تشوھات الإھمال والتفویض التي تلغي الوجود الفلسطیني في البلاد. كذلك ألف الكثیر من الكتب، في داخل إسرائیل، وفي جامعة بیر زیت، جمیعھا مكرسة لقرى أخليت من سكانھا، ودمرت.ويمثل هذا جزءا من أدبیات تاریخیة وتخیلیة یعاد فیھا إحیاء القرى الفلسطینیة المدمرة، ويحتفل بوجودها في مرحلة ما بعد 1948احتفظ الفلسطینیون بالمعاني المتعددة لأسمائھم العربیة، وھویتھم الفلسطینیة المتعددة الشرائح، المغروسة في الأسماء القدیمة.
يؤكد مصالحة أن القومیّة الفلسطینیة (في خطیھا العلماني والدیني) - مثل كل القومیات الحدیثة الأخرىـببنائھا الوعي الوطني، ھي ظاھرة معاصرة، لكن ھذا ینبغي ألا یخلَط آلیا بالھویات الفلسطینیة الاجتماعیة، والثقافیة، والدینیة، التي ھي عمیقة الجذور في الأرض، وكذلك في التاریخ القدیم، وذاكرة الأسماء الجغرافیة في فلسطین. فوق ھذا، كان الفلسطینیون، حتى نكبة 1948 معظمھم مزارعین، مغروسین بعمق في المواقع الفلسطینیة الطبیعیة والثقافیة. فاللھجة المحلیة، وأسماء قراھم ومدنھم، حفظت تراث البلاد المتعدد الشرائح، والمتنوع الثقافة.
ويلفت إلى أن الوطنیة الفلسطینیة في العقود الماضیة أحدثت الكثیر من الوعي بعلم الآثار النقدي، والكتابة التاریخیة المؤسسة على الدراسات التوراتیة النقدیة، ومسألة المیراث التاریخي المشترك لفلسطین والفلسطینیین، كذلك یثیر الاھتمام أن الباحث الفلسطیني مازن قمصیة ارتأى، في "التشارك في أرض كنعان"، مقاربة أكثر واقعیة وأقل انقساما للجدال بین كنعانیّین وإسرائیلیّین. ودعا إلى تعایش في فلسطین - إسرائیل، مبني على التراث التاریخي المشترك، والتشابه بین "الشعب الكنعاني" الیھود المزراحیین والفلسطینیّین المسیحیّین والمسلمین". الواقع أنه لن یكون بعیدا من المنطق، القول إن الفلسطینیّین المعاصرین ھم على الأغلب حفدة الفلستیّین (والإسرائیلیّین) القدماء، أكثر من الیھود الأشكینازیّین، الذین كثیر منھم كانوا أوروبیّین اعتنقوا الیھودیّة. وبالتأكید، تاریخیا وخلافا أسطورة "الشتات والعودة"، كثیر من سكان فلسطین القدیمة الیھود، ظلوا فیھا لكنھم تقبّلوا المسیحیّة والإسلام، بعد أجیال متعددة. لكن الیوم - على نقیض العلوم التاریخیّة الأشكینازیّة الصھیونیّة المؤسطرة"Mythologised"والقومیة العربیة - یتزاید أكثر فأكثر عدد علماء الآثار والباحثین التوراتیّین المقتنعین بأن أجداد الإسرائیلیّین ما كانوا یوما في مصر، وأن ھذا النمط التوراتي من الغزو العسكري لكنعان كان "خیالا " محضا. والحقیقة أن الأدلة الأثریة تنسف، على الأخص، سفر یشوع. فإذا كان الخروج من مصر والتیه أربعین عاما في سیناء لم یحدثا، والغزوات العسكریة على "المدن الحصینة" في فلسطین "وفق سفر التثنیة مدنًا عظیمة ومحصنة إلى السماء". قد دحضتھا تماما علوم الآثار، فمن كان إذا هؤلاء الإسرائیلیون، أو الفلستیّون، أو الكنعانیون؟".
ويوضح مصالحة"برزت التواریخ الفلسطینیّة الشفاھیّة وذاكرة التسمیات الجغرافیّة "المؤرشفة" رقمیا، عن مئات القرى والمدن المدمرة، برزت في العقود الأخیرة، بوصفھا منھجیة مھمة، لا في تكوین تاريخ بدیل للنكبة الفلسطینیّة وذكریات فلسطین التاریخیة الضائعة فقط، بل في الحیاة المحلیة المستمرة أیضا، والممارسات المعیشیّة الفلسطینیّة، والحفاظ على بیئة بشریة حیة. وعلى النقیض من نمط صناعة التراث الاستیطاني الاستعماري الإسرائیلي، وأركیولوجیا التفوق التوراتیّة، بما فیھا من ھوس السردیات الأسطوریة، وتجمیع النتف الأثرية فإن الفلسطینیین الأصیلیین كرسوا الكثیر من انتباھھم للرواسب الشدیدة الثراء من تاریخ القرى، والتقالید المحكیة، تذكرةً لتواصل الحیاة المحلیّة والممارسات المعیشیة إن نزع بصمات الاستعمار عن التاریخ، واستعادة التراث القدیم والثقافة المادیة لدى الفلسطینیّین وفي فلسطین، وحفظھما، ھما أمران حیویّان. وثمة حاجة عاجلة إلى تعلیم تاریخ فلسطین القدیم وتاریخ الفلسطینیّین المحلیّین (مسلمین، ومسیحیّین، وسامریّین، ویھود)، بما في ذلك إنتاج كتب تعلیم فلسطینیّة جدیدة ونقدیة، للمدارس، والمعاھد، والجامعات، وكذلك لملایین اللاجئین الفلسطینیّین المنفیّین. ولا بد لھذا الفھم وھذا التعلیم، من أن یشملا مادة علم الآثار النقدي الجدید في فلسطین، والفھم النقدي الجدید للتاریخ القدیم، وذكریات ھذه البلاد".