مسرحية 'لعنة بيضاء' فصام الذات وغياب الهوية

النص المسرحي يحيل إلى تصور سياقي للمفاهيم القارة في العالم الخارجي لاسيما انفصام الذات عن التسلسل الزمني لجماليات الأخلاق وتعارضها مع الهوية الثقافية.
د. ميثم فاضل عبد الأمير
بغداد

مآل السؤال الوجودي المخيف الذي طرحه المخرج: "ماذا تصْنَع وأنتَ تكتشف أنْ لا شيء سوى دخان الفضيلة؟" في مسرحية "لعنة بيضاء" التي قُدِّمت يوم الخميس الموافق لـ29 فبراير/شباط الماضي على بساط قاعة رياضية، تأليف أحمد عباس وإخراج د. محمد حسين حبيب وإنتاج نقابة الفنانين العراقيين فرع بابل بالتعاون مع مديرية شباب ورياضة بابل. يتسلل العرض المسرحي إلى حُزمة من القيم المضادة التي تنهش بجسد المجتمع عبر سرد تشريحي للنظام المديني الشائه: (السطو، الكذب، اللا دين)، والمُقنَّن داخل حقل ثقافي هجين شديد الصرامة وجد المخرج الأمكنة المُغايِرَة فضاءً جماليا معادلاً لها. 

فكرة النص اقتباس من قصة قصيرة تحمل عنوان "شاة سوداء" للكاتب الإيطالي ايتاليو كالفينو اشتغل المؤلف على مسرحتها ومزْج ثيمتها بالأفكار الفلسفية التي تطلَّع إليها الفارابي في كتابه "آراء أهل المدينة الفاضلة" مستخرجا منها مدينته "الضالة" السمجة الأخلاق والأعراف والعقائد، ليشكل بنية الحدث الدرامي الذي يبدأ وقْعه في مساء موحش مضطرب يسود أجواء تلك المدينة التي يغزوها السُرَّاق والمحتالون، فالجميع يسرق بيوت الجميع وفق نظام مُشَرْعَن ومتفق عليه في الذاكرة الجمعية ويعد الخروج عن النظام إخلالاً في اللا توازن الذي يقضي أن يكون الجميع أغنياء بفعل السرقة، بعكس ما جُبِلَ عليه الكون القائم على مَسْرد من الثنائيات المتقابلة حيث الخير والشر، والجميل والقبيح، والحياة والموت، والفقير والغني، التي ينتظم في إطارها توازن العالم، وتسود في أجوائها العدالة السماوية، ولأنَّ اللانظام هو شِرْعة صنعتها السلطة المادية في هذه المدينة، فقد وجد المؤلف معادلاً فيزيقيا "زائفا" للسلطة السماوية ممثلاً بشخصيات من قبيل (المختار، رجل النظام)، وهم معلِّمون سفسطائيون "يعتقدون في الله عز وجل وفي العقل النيِّر آراء فاسدة لا يصلح عليها حتى وإنْ أُخِذَت على أنها تمثيلات وتخيلات لها"، وتمثل هذه الثيمة مدار الحدث الدرامي والمنطلق الأساس لظهور الاتجاه المعاكس ممَثلَّاً بشخصية "الغريب" الساكن الجديد الذي يقف على تخوم المدينة مفكرا متأملاً كيف يمكن أنْ يسكن في بيوت لم تتطهر من الدنس وهو مُلْزَم في الوقت ذاته أنْ يصير مثلهم يَسرق ويُسرَق كما الجميع، ولأنه لا يشبه إلا ذاته يعلن تمرده على سكان المدينة ويقرر تخطي الجسر والعبور إلى الضفة الأخرى حيث الخلاص، ولكن ثمن العبور لم يكن زهيدا إذ يُصار إلى إصدار أمر بحرقه ليختفي عنوانه من الوجود وتبقى المدينة ترعى أدرانها. 

يحيل النص المسرحي إلى تصور سياقي للمفاهيم القارة في العالم الخارجي ولاسيما انفصام الذات عن التسلسل الزمني لجماليات الأخلاق وتعارضها مع الهوية الثقافية، ومن ثمَّ غياب الهوية، وقد شكَّل العرض برُمَّته علامة توافقية متماهية مع المرجع المفاهيمي للنص فكانت الرؤية الإخراجية ذات مزاج حاد انعطف مع قُبْحيات الواقع الذي تشوبه فرضية المدينة بقسوة لا فكاك منها، فلم يعد مسرح العلبة التصور المثالي لإنشاء بيئة جمالية متوائمة مع فلسفة المدينة "الضالة" التي تشح فيها الطمأنينة وتزهو نشوة الفصام الديني والأخلاقي، فتأتي المفارقة وكسر أفق التوقع في المغايرة المكانية (القاعة الرياضية) المسوَّرة باللا نظام معادلاً جماليا لمادة العرض، وقد احتشدت فيها سينوغرافيا غير ساكنة: "هياكل البيوت الملتحمة مع الممثلين ودِلَاء النقود" تميزت بكثافتها البصرية وعمقها الدال، وهي علامة إخبارية عن عمارة المدينة المتشابهة في الشكل والمضمون وعلامة في الوقت ذاته تشير إلى وحدة الرأي وتطابق الأفكار الضالة التي تغذى عليها سكان المدينة، ولعل وحدة اللون في الأزياء تشي بهذه الخاصية الجمالية، فالجميع يرتدون البذلات السوداء إذ لا فرق بين كبير وصغير طالما أنَّ العقول فاسدة.

أما الأداء التمثيلي فقد غلب عليه الطابع الكوميدي الساخر والنغمة التراجيدية الحزينة الناقدة للواقع الاجتماعي الفج والذوات المُقنَّعة، وقد أبدع الممثل مخلد جايد دور المختار الذي تزيَّا بزي الدين وتخلَّق بدخان الفضيلة، والطبيب المكيافلي الممثل فقدان طاهر الذي الْتَحَف المهنة لباسا وتقوَّت على فتات المعرفة الضالة بدعوى التكتل على الذات لا على الله، والممثل الجدلي علي الطائي مُشرِّع النظام واللانظام في الوقت ذاته، والسارق المتمرس صانع الفكاهة السوداء الممثل علي عدنان الذي يبذر عُقدة الحدث الدرامي بتأليب سكَّان المدينة على "الغريب" بأسلوب فني جمالي متناغم في الصوت والحركة، والرجل الأعمى ذو القناع النزق الذي يلعب دوره ظفار فلاح بانسيابية عالية وروح فكاهية دالة.

لم يفلت الإيقاع من مرمى العرض، إذ ظل الممثل أحمد عباس ماسكا بزمامه رغم التقشف في الحركة وسكون الأداء الذي تفرضه الشخصية المناطة به، ولاسيما مشهد حرق الغريب الذي تسوده الفوضى العارمة بإيقاع سيمتري منضبط متوائم مع لوحة اللَّهَب التي بثَّها الداتاشو، وهي رجْعٌ تاريخيٌ للأحداث الكبرى التي شهدها الأنبياء ورثاءٌ للتجليات الإلهية في طبيعتهم التكوينية: (محرقة النبي إبراهيم، ذبح يوحنا المعمدان، صلب المسيح، مجزرة كربلاء). وقد أضافت مشاهد الكيروكراف بعدا جماليا ودلاليا لثيمة العرض، وأحسب أنَّ هذه التجربة الإبداعية إنصافٌ لفن الرقص الإيمائي لامتلاكه معجما حركيا زاخرا بلغة الجسد وشيفراتها الدلالية التي يتعذر تجاوزها في عملية التلقي.

مسرحية "لعنة بيضاء" مُسائلة قائمة لا يفلت من عقابها صُنَّاع دخان الفضيلة.