لوركا: لا أنا ولا أنت ولا أي شاعر آخر نعرف للشعر ماهية

قصائد الحب والموت والإثارة والألم تشكل النواة الرئيسية لـ 'ديوان الثماريت' للشاعر والكاتب المسرحي الإسباني فدريكو غارثيا لوركا المنشور بعد وفاته.

تشكل قصائد الحب والموت والإثارة والألم، النواة الرئيسية لديوان "ديوان الثماريت" للشاعر والكاتب المسرحي الإسباني فدريكو غارثيا لوركا (غرناطة ، 1898-1936) والتي نشرت بعد وفاته في عام 1940، وقد جاءت على قسمين الأول "الغزليات" والثاني "قصائد". في الغزليات نجد حضور الحب على شكل رغبة أو ذكرى أو حلم.

 وفي القصائد تظهر العناصر المُشخصة لاستعارات الموت والألم التي تتخلل جميع أعمال لوركا: البئر، الطفل الذي أصيب بالماء، الصرخة المُجسدة، الفتاة الغارقة... تصبح الأبيات أرق وأرق حين تعود إلى الطفولة، إلى صدى فلكلور الأطفال، للطفل الذي يسأل عن قبره.

الديوان الصادر عن دار خطوط وظِلال بترجمة وتقديم الشاعر والمترجِم المغربي رشيد وحتي، جاء مزدوج اللغة ليضم النص المترجم للعربية جنبا إلى جنب النص الإسباني الأصلي. يقول وحتي في مقدمته "تأسطر لوركا (1898 ــــ 1936)، بسيرته المنشقة حيّاً، وزاده موته المأساوي أسطرة، حتى صار مرجعية شعرية ومسرحية عالمية معروفة، حتى من دون قراءته، حتى من دون معرفة الخطوط العريضة لهذه السيرة. ولكن هذا الديوان بالذات يحتاج إلى تقديم وجيز يبسط حوافز تأليفه ويشرح عنوانه باقتضاب.

ويضيف "ورد كثيراً في حكايات لوركا إلى أصدقائه، شفاها وكتابة، أنه حدثهم مرارا، بين عامَي 1931 و1935، سنين تأليف الديوان، عن عمل شعري، تحية إلى قدامى الشعراء العرب في إمارة غرناطة، أسماه "ديوان الثماريت"، تيمّناً باسم بيت قروي وسط بستان في ملكية أسرته، حيث كتب أغلب غزليات الكتاب وقصائده. وقد احتفظ الشاعر عنوانا للمؤلف وأبوابه، بكلمات تعود كلها إلى أصول عربية من ديوان (تجميع مبوب للقصائد؛ مكان لإدارة الدولة، في البلاط الملكي أو في جواراته)؛ وثماريت: صيغة مبالغة للبستان المعطاء بالثمار؛ "قصيدة" و"غزليّة": شكلان شعريان عربيان وفارسيان".

ويلفت وحتي إلى أن الديوان لم ينشر إلا بعد اغتيال لوركا، رغم أن البروفات الأولى للمطبعة كانت جاهزة عند اندلاع الحرب الأهلية. ويتناول فيه الشاعر في لغة حسية/ شهوانية/ ملتهبة، الثيمات الأثيرة لدى الشعراء الأندلسيين العرب (وينسحب ذلك أيضا على الشعراء العرفانيين لبلاد فارس بين القرنين 11 و14)، والتي صارت بفضله وفضلهم ثيمات كونية: الجب الزائل، الحب المستحيل، لوعة الحب والوجود، بشاعة الموت، طقوس الماء، مديح الوردة والزهرة والطير، مقاربة باقي مواطن الجمال الحسي.

ويؤكد أنه يقوة الكرونولوجيا وبنضج الصنعة، هذا الديوان وصية لوركا الشعرية.

يفتتح وحتي ترجمته للديوان بمقتطف كاشفة لرؤية لوركا للشعرية، هذا المقتطف الذي نشر لأول مرة كحديث مع خيراردو دييكو لمنتخباته: "الشعر الأسباني: منتخبات، 1915 ـ 1932، مدريد 1932".. يقول لوركا "ما عساي أن أقول لك عن الشعر؟ ما عساي أن أقول لك عن هذه الغيمات، عن هذه السماء؟ رؤيتها، رؤيتها، رؤيتها.. ولا شيء آخر. ستستوعب أن الشاعر لا يستطيع قول شيء عن الشعر، لنترك هذه المهمة للنقاد والأساتذة، فلا أنا ولا أنت ولا أي شاعر آخر نعرف للشعر ماهية. ها هو؛ انظر النار بين يديّ. أدركها وأشتغل عليها بكمال، ولكني لا أستطيع الحديث عنها بمعزل عن الآداب. أدرك كل الشعريات؛ وكان بوسعي الحديث عنها، لو لم أكن أغير رأيي كل خمس دقائق. ما أدراني؟ قديحدث لي، يوما، أن أنهمك في حب الشعر الرديء، مثلما أهيم (مثلما نهيم)، اليوم، بالموسيقى الردئية. سأحرق، ذات ليلة، البارثنون؛ كي أشيده، في الغد، من جديد، دون أن أفرغ منه أبدا.

ويضيف "حدث لي، في ندواتي، أن تحدثت عن الشعر، لكن الشيء الوحيد الذي لن أستطيع أن أقول عنه شيئا، هو شعري. لا لأني لا أعي ما أصنع. على العكس، فإن كان حقيقا أنني شاعر، فأنا شاعر بحمد الطريقة الفنية والمجهود والمعرفة التامة بما تكونه القصيدة.

غزليّة الحبّ المباغت

لم يكن أحد يدرك العطر

المانيوليا المعتمة لبطنك.

لم يكن أحد يعلم أنّك كنت تعذّبين

عصفور حبّ بين الأسنان.

كانت ألف خيل فارسيّة تنام

في الباحة مع قمر جبينك

بينما كنت لأربع ليال أشدّ

خاصرتك، عدوّة الثّلج.

بين الجبس والياسمين، كانت نظرتك

غصناً شاحباً من البذور.

كنت أفتّش، كي أمنحك إيّاها، في صدري

عن رسائل العاج التي تقول دوماً.

دوماً، دوماً: حديقة احتضاري،

جسدك الهارب دوماً،

دم شرايينك في فمي،

وها فمك بلا ألق لموتي.

غزليّة الحب الرّهيب

أريد للماء أن يبقى بلا مهد،

أريد للرّيح أن تبقى بلا أودية.

أريد للّيل أن يبقى بلا عينين

وقلبي بلا زهرة الذّهب؛

للثّيران أن تحادث الأوراق الكبيرة

ولديدان الأرض أن تموت من الظّلّ؛

لأسنان الجمجمة أن تلمع

وللاصفرارات أن تغمر الحرير.

باستطاعتي أن أرى مبارزة اللّيل الجريح

يصارع ملتصقاً بالظّهيرة.

أقاوم غروب السّمّ الأخضر

والقسيّ المتكسّرة حيث يقاسي الزّمان.

لكن لا تضيئي عريك الصّافي

كصبّار أسود مفتوح في الأسل.

دعيني في قلق من الكواكب الغامضة

لكن لا تلقّنيني خاصرتك الطّريّة.

غزلية الحب الخائب

الليل لا يريد القدوم

كي لا تأتي،

ولا كي أذهب.

لكنّي، أنا، سأذهب،

ولو أنّ شمس عقارب تأكل صدغي.

لكنّك، أنت، ستأتين

بلسان أحرقه مطر الملح.

النّهار لا يريد القدوم

كي لا تأتي،

ولا كي أذهب.

لكنّي، أنا، سأذهب،

مسلماً العلاجيم قرنفلتي المعضعضة.

لكنّك، أنت، ستأتين

من خلال المجارير العكرة للعتمة.

لا اللّيل يريد القدوم ولا النّهار

كي أموت من أجلك

وكي تموتي من أجلي.

غزليّة الجذر المرّ

ثمّة جذر مرّ

وعالم بألف بلاط.

وحتّى اليد الأكثر صغراً لا

تستطيع تحطيم باب الماء.

إلى أين أنت ذاهبة، إلى أين، إلى أين؟

ثمّة سماء بألف نافذة

ـ معركة نحلات داكنات ـ

فثمّة جدر مرّ.

مرّ.

يؤذي بباطن القدم

داخل الرّأس،

كما يؤذي جذع اللّيل

الطّريّ الذي قطع تواً.

أيّها الحبّ، أي عدوّي،

إنّه يعضعض جذرك المرّ!

قصيدة طفل جرحه الماء

أريد النزول حتى البئر،

أريد تسلق أسوار غرناطة

كي أرى القلب وقد اخترقته

مسلّة المياه المعتمة.

كان الطّفل الجريح يئنّ

بإكليله الجليد.

كانت البرك، الخزّانات والفسقيّات

تشهر في الرّيح سيوفها.

أيّ، أيّ هياج للحبّ، أيّ حافّة جارحة،

أيّ وشوشة ليليّة، أيّ موت أبيض!

أيّ صحارى ألق كانت تحفر

كثبان رمل الفجر!

كان الطّفل وحيداً

مع المدينة الرّاقدة في حنجرته.

انبثاق كان نابعاً من الحلم

كان يحميه من جوع الطّحالب.

الطّفل واحتضاره، وجهاً لوجه،

كانا مطرين أخضرين متشابكين.

كان الطّفل يتمدّد على الأرض

وكان احتضاره يتموّج.

أريد النّزول حتّى البئر،

أريد الموت موتتي نفحة نفحة،

أريد ملء قلبي زبداً،

 كي أرى الطّفل الّذي جرّحه الماء.

قصيدة الدّمع

أوصدت شرفتي

لأني لا أريد سماع الدّمع

لكن خلف الأسوار الرّماديّة

لا نسمع شيئاً آخر عدا الدّمع.

ثمّة ملائكة قليلون ينشدون،

ثمّة كلاب قليلون ينبحون،

ألف كمان طوع راحة يدي.

لكنّ الدّمع كلب عملاق،

الدّمع ملاك عملاق،

ألدّمع كمان عملاق،

العبرات تشكم الرّيح،

ولا نسمع شيئاً آخر عدا الدّمع.

قصيدة الأفنان

تحت أشجار ثماريت

أتت كلاب رصاص

ترتجي سقوط الأفنان،

ترتجي أن تتكسّر لوحدها.

لثماريت شجرة تفّاح

بتفّاحة من نحيب.

بلبل يخمد زفرات

يبعدها تدرج بالغبار.

لكنّ للأفنان بهجتها،

الأفنان شبيهتنا.

لا تفكّر في المطر فتنام،

كما تفعل الأشجار، سريعاً.

جالسان والماء حتّى ركبهما

واديان ينتظران الخريف.

ظلّ باهت بخطوات فيل

كان يدفع الأفنان والجذوع.

تحت أشجار ثماريت

ثمّة أطفال كثر مقنّعو الوجه

ترتجي سقوط أفناني،

ترتجي أن تتكسّر لوحدها.

قصيدة المرأة المضطجعة

أن أراك عارية، يعني: أن أتذكر الأرض.

الأرض الناعمة، المنظفة من الخيول،

الأرض دون أسل، شكلاً نقيا

مقفلا في المستقبل: تخوم فضة.

أن أراك عارية، يعني: أن أستوعب قلق

المطر بحثا عن ساق هشة،

حمى البحر ذي الوجه الهائل

دون ملاقاة ألق وجنته.

سيرن الدم عبر المضاجع

وسيأتي ممتشقا سيفه الملتمع،

ولكنك لن تعرفي أين يختبئ

قلب العلجوم ولا البنفسجة

بطنك صراع جذور،

شفتاك فجر بلا استدارة،

تحت الورود الدافئة للفراش

يئن الموتى منتظرين دورهم.