عواطف منصور تستحضر تاريخ فن النسيج في تونس

الفنانة التشكيلية التونسية تتناول في كتاب بحثي تجارب فنانين تونسيين من أجيال مختلفة أبدعوا كثيرا في النسيج الفني.

استطاعت الباحثة والأكاديمية والفنانة التشكيلية التونسية الدكتورة عواطف منصور، تتبٌع مسار حركة فن النسيج ببلاده، كما سلطت الضوء على نشأة وتطور فن النسيج عبر الحضارات ووظائفه والتوجهات الفنية التي ميزته، وكذا مصطلحات النسيج والمفاهيم المرتبطة به، وذلك في كتاب بحثي حمل عنوان "فن النسيج في تونس من خلال قراءة في تجارب الفنّانين النسّاجين"، وصدر عن دار خريف للنشر بتونس، بدعم وتشجيع من الصندوق التونسي للتشجيع على الإبداع الأدبي والفني.

جاء الكتاب في 7 فصول، وتناول تجارب فنانين تونسيين من أجيال مختلفة أبدعوا كثيرا في النسيج الفني باعتماد التحويرات واستعمال خامات من البيئة المحلية، كالصوف والخيوط والمساحيق اللونية المستخلصة من النباتات والأحجار، إلى جانب التعبير عن مواضيع حكائية وأخرى تجريدية مقسمة الأشكال المختزلة والرموز المبسطة المأخوذة من المأثورات الشعبية.

واحتوى مجموعة متنوعة من الدراسات حول الإبداعات التشكيلية التي استوحت خصوصيتها وهويتها من المنسوجات التي أبدعها الصناع التقليديون المحليون بمهارة يدوية عالية برزت في شكل إبداعات معاصرة نهلت من المعارف التقنية وجسدها في إبداعات نسيجية بهية ذات أبعاد فنية وثقافية تعايشت فيها الصيغ الحرفية التقليدية الموروثة والأساليب الفدية والتعبيرية المعاصرة.

واشتمل كذلك، على استعراض لتجربة النسيج الحائطي في تونس، واعتمد مقاربة نقدية تأويلية لبصمات نخبة من النساجين التونسيين الذين افتتنوا كغيرهم من الفنانين بالمشغولات النسيجية اليدوية مسطحة مجسمة التي شكلت مصدر إلهام لأعمال رواد الفن التشكيلي في العالم، لذلك جاءت إبداعاتهم حبلى بمعجم مفاهيمي بصري ثري يتناغم مع التيارات الفنية الحديثة، لتتحول إلى سندات تشكيلية مبصومة بالمراوحة بين الخبرة الحرفية والرؤية الإبداعية المتجددة، لاسيما في ظل ما أصبحت توفره التكنولوجيا والبرامج الحاسوبية والرقمية من أدوات وتقنيات تعبيرية منحت المنسوجة الفنية أبعادا جمالية مغايرة وغير مألوفة يمكن إدراجها ضمن "الفن النسيجي".

وقد تمكنت مؤلفة الكتاب الدكتورة عواطف منصور عبر فصول ودراسات كتابها، من تفكيك الإشكاليات التي تحيط بفن النسيج في تونس، مثل التراث والحداثة والهوية الثقافية، وأسلبة العلامة الحرفي والفني، إضافة إلى الإضاءة على أغلب التجارب الفنية الريادية التي لمعت في هذا المجال.

وتدلنا صفحات "فن النسيج في تونس من خلال قراءة في تجارب الفنّانين النسّاجين" على أن فن النسيج مثل فنون الخزف والفسيفساء، من الفنون التشكيلية التي تحتمل الكثير من اللبس المفاهيمي والغموض الإشكالي على مستوى الإنجاز ومدى تمثله لقيم الإبداع، مثلما على مستوى القراءة ذلك لأن بين النسيج وبين الممارسات العرقية في تراثنا الشعبي الثري، خيط رفيع يحتاج إلى تمييز وتمحيص، والمسألة رهينة تداخل وتعالق بين شكلين على الأقل، من أشكال الإنتاج الأول من طبيعة شبه نمطية ويراهن على وظيفة النسيج، والثاني من طبيعة إبداعية خالصة ويراهن على قيم جمالية في سياق ثقافة الفن الحديث، بصفة خاصة.

كما ترصد فصول وصفحات الكتاب، مواطن الإبداع في النسيج الذي يعتبر أحد فنون التراث والتأصيل، سيما أنه يعكس الأبعاد الدلالية والجمالية والتنوع والثراء لهذا الجنس الفني.

ويقترب بنا الكتاب من مناطق الجمال في فن النسيج التونسي، باعتباره تخصصا أو حقلاً من حقول الفنون التشكيلية، كما تتنقّل المؤلفة من خلال صفحات كتابها بين محطات تاريخية للنسيج منذ اكتشافه في القرن الثالث الميلادي وحتى اليوم.

كما تطرّق من خلال صفحاته وفصوله إلى فن النسيج في مناطق مختلفة من العالم، خاصة في ظل انتشاره الذي زاد بشكل واسع في القرن الماضي والحالي، حيث عمل النساجون أينما كانوا على تسجيل المشهد التراثي كقيمة تاريخية في محاولة منهم لحفظها كوثيقة فنية من الاندثار والضياع.

وتوقفت المؤلفة عند رحلة اليد الأنثوية إلى جانب الرجل في نسيجها المتمهل المتناغم لشيء لصيق بإيقاع الحياة اليومية والمعبر عن الحب والمودة، حيث ضمّنت كتابها موضوعات حول أعمال الفنانات: هدى رجب، وإيمان الطهاري، وبسمة منصور، ومنى خصوصي، وفاطمة بلغيث معتوق.

وتوسّعت في تناولها لتاريخ ونشأة النسيج وتطوره في التراث العربي والتراث الغربي والنسيج التقليدي في التراث التونسي وكشفت عن الكثير من عوالمه الثريّة بالإبداع بصفته وثيقة أثرية فدية، وقدمت لنا وجبة دسمة ومثيرة، في مصطلحات النسيج والمفاهيم المرتبطة به لغة واصطلاحا، وحرفة يدوية تقليدية - فن شعبي - فن دافع وجميل له علاقة بالهوية والأصالة، وبينت العلاقة ما بين الحرفي والفدان.

وعرضت لتاريخ ميلاد النسيج الفني من البدايات إلى التأسيس والتوجهات الفنية، وتداولت في الباب الثالث النسيج التقليدي، الرحم الأول للنسيج الحائطي الفني، ودور الأكاديميات الفدية في نشأته الفنية، ودور مدرسة ألـ"باوهاوس" في إزالة الحواجز بين الحرف والفنون، ثم عرجت على الحداثة الفدية في تطور مسار النسيج الفني وتوجهاته.

وجاء الفصل الأول من الكتاب بعنوان "نشأة النسيج وتطور مساره من النفعي إلى الفني"، وتناولت فيه المؤلفة موضوعات عدة منها: النسيج في التراث العربي وجماليات السجّاد المزخرف، والنسيج في التراث الغربي وفن لسجّاد المعلّقْ، والنسيج اليدوي في التراث التونسي "إبداعية حرفية مُلهمة".

وتناول الفصل الثاني من الكتاب موضوع اصطلاحات النسيج والمفاهيم المرتبطة به، وتناولت فيه المؤلفة عددا من الموضوعات منها: تعريف النسيج وأغراضه الفنية، والنسيج باعتباره حرفة وفن يجمع بين النفعي والجمالي، وعلاقة النسيج بمفهوم الهويّة والأصالة، وإمضاء الفنان على المنسوجة وجدلية ملكية الأثر المنسوج.

وفي الفصل الثالث سلّطت المؤلفة الضوء على ميلاد النسيج الفني وبداياته وتوجهاته الفنية، ودور المدارس الفنية في إزالة الحواجز بين الحرف والفنون، ودور الحداثة الفنية في تطوّر مسار النسيج الفني وتوجهاته.

ودارت موضوعات الفصل الرابع من الكتاب حول نشأة النسيج الحائطي التشكيلي في تونس "البدايات والتأثير"، وجاء من بين موضوعاته: مسار الفن التشكيلي في تونس من الرسم إلى النسيج، وكيف يتخطى النسيج التشكيلي صرامة التقنية من أجل التعبير الحر.

وتمحورت موضوعات الفصل الخامس من الكتاب حول تجارب جيل لروّاد من الإبداعية الحرفية إلى الجمالية التشكيلية، حيث تناولت المؤلفة في هذا الفصل أعمال الفنانين: حميدة وحاّدة، وإمحمد مطيمط، وصفيّة فرحات، وعلي الناصف الطرابلسي، ومحمد نجاح وغيرهم.

وفي الفصل السادس، استعرض الكتاب تجارب الجيل الثاني من فناني النسيج "من إبداعية الحرفة إلى إبداعية الفكر المنسوج"، حيث جرى التوقف بالدراسة والتحليل لمنسوجات الفنانين: فاطمة الصامت، وعمر العيفة كريّم، وفدوى طقطوق، ورناتا الدليمي، وكريستين بن سالم، وأمينة سعدودي، وزهور الزردي، وأما الفصل السابع فتناول أعمال الجيل الثالث من فناني النسيج التونسي.

وقد تصدرت صفحات الكتاب كلمة للناشر، وتصدير، وتقديم، ومقدمة بأقلام الناقد والفنان التشكيلي المغربي إبراهيم الحَيْسن، والباحث والأكاديمي والفنان التشكيلي التونسي الدكتور خليل قويعة، والفنان التشكيلي الأردني غازي النعيم، حيث قدّموا قراءة شاملة لما احتواه الكتاب من فصول ودراسات، وتوقفوا عند جهود مؤلفة الكتاب ومنجزاتها حول تاريخ وحاضر ومستقبل المشهد التشكيلي العربي بوجه عام، وفن النسيج بوجه خاص.