لكي لا ننسى ونحن ننسى

كم طوينا من الصفحات خلال العقود الماضية ونحن أمة مصابة بداء التلفت والنظر إلى الوراء.

كان العرب يخشون النسيان لذلك رفعوا شعار "لكي لا ننسى". ولكن ذلك الشعار كان أشبه بـ"وذكر إن نفعت الذكرى". كانوا يتذكرون من أجل أن لا تغيب فلسطين وهو حق مشروع. هل تكفي الذكرى لكي يكون المرء حيا؟

واقعيا نسيت الشعوب العربية أن الأهوال التي عاشتها على مستوى إنسداد الأفق السياسي هي التي أدت إلى إنهيارات سياسية واقتصادية واجتماعية وهو ما عطل إمكانية الاتصال بالعالم الخارجي بحيث تحولت الدول العربية إلى جزر تقع خارج العصر.

قبل أن يُحتل كان العراق غائبا ومغيبا عن الخارطة السياسية. كانت سوريا منفية في عزلة وجد فيها الأسد ملاذا مترفا له قبل أن تقوم الحرب الأهلية. صار لبنان بمرور الزمن أصغر من حجمه الجغرافي ومحيت حريته المغناج. أما ليبيا فقد ظن عقيدها أن دفع تعويضات لوكربي هو قارب نجاته وستظل البلاد التي يحكمها نائمة تحت عباءته. غُدرت مصر بكثرة أهلها قبل أن يغدر بها عجز العالم عن مد يد العون لها. ظل السودان ينتقل من حرب عبثية إلى أخرى أكثر عبثا وسلة الغذاء مثقوبة.

عبر سنوات كل ذلك الخراب واللهو الكئيب لم ينس اليمنيون والعراقيون والسوريون واللبنانيون وسواهم من العرب حريصين على عدم نسيان فلسطين. ولكن ما كانوا يفعلونه هو أشبه بلعبة الكلمات المتقاطعة.

لا فائدة إذاً من عدم نسيان فلسطين والفشل يحيط بالمحاولة من كل جانب. في كل مرة يخطئ اللاعب فيها في وضع الكلمة المناسبة في مكانها تتنهي اللعبة بالخسارة.

نتذكر مذبحة دير ياسين فيما تشق "صور من المعركة" العقول قبل العيون بجثث القتلى المنسيين في حرب ثمانينات العراق. في مدرسة بحر البقر قتل الطيران الإسرائيلي أطفالا مصريين فيما تمتلئ الشوارع العربية بالأطفال المشردين الذين ستكون الجريمة مستقبلهم بعد أن تسربوا من المدارس التي هي غبر موجودة أصلا. نفزع إذ نرى صور آرييل شارون وهو يتبختر بين شوارع بيروت في الوقت الذي كان فلسطينيو صبرا وشاتيلا فيه يُذبحون بسكاكين عربية. لا أحد يتذكر أهل دارفور فيما صار عمر البشير جزءا من الماضي الذي طُويت صفحته.

كم طوينا من الصفحات خلال العقود الماضية ونحن أمة مصابة بداء التلفت والنظر إلى الوراء. خطوة إلى الخلف وأخرى إلى الخلف أيضا. سيضحك الباندا الصيني والحمار الأميركي والكنغر الاسترالي والدب الصيني كما لو أننا نستعيد رواية جورج أورويل "مزرعة الحيوانات".  

وصلتني قبل أيام دعوة للتوقيع على بيان يعبر الموقعون فيه وكلهم عرب والبعض منهم فلسطينيون عن وقوفهم إلى جانب الشعب الفلسطيني وتأييدهم لحقه في إقامة دولته المستقلة على أرضه التاريخية في فلسطين. شعرت بالإهانة، بل بالخزي. لقد نسي كتبة البيان المناضلون أنني عربي وأن قضية فلسطين هي قضيتي وأن الحق في بناء دولة فلسطين هو حقي.

لم يكن شعار "لكي لا ننسى" نافعا إذن.

لولا أننا نسى لما حدث لنا كل ما حدث عبر أكثر من سبعين سنة وهي عمر إسرائيل. منذ ذلك اليوم المشؤوم الذي أُعلن فيه عن قيام دولة إسرائيل ولا شيء في العالم العربي يتقدم إلى الأمام. كنا دائما على استعداد للإرتداد على أنفسنا. العودة إلى الوراء كانت ممكنة دائما. لا نفعت الملكيات ولا الجمهوريات ولا مجالس النواب المنتخبة ولا الانفتاح على الأسواق العالمية ولا بورصات الأسهم ولا الاشتركية ولا عبادة الفرد ولا إسقاط تمثاله ولا الشعر والمسرح الحديثان ولا الأناشيد الوطنية التي لم تقلق الجيران في إيقاف إصرارنا على التراجع.

حتى مثقفونا يصرون على استغفالنا حين يزايدون على قلوبنا ويسرقون عقولنا. أهو سباق على غسل العقول بعد أن صار غسيل الأموال السوداء مهنة رائجة؟

يخشى المثقف العربي لو أنه لم يوقع على البيان المذكور أن يُتهم بالتخاذل والتطبيع أي بالخيانة. لعبة ماكرة. ولكنها لا تنطوي على ذكاء. ذلك لأن المهمة الحقيقية للمثقف لا تكمن في ارتجال مواقف آنية يفرضها الظرف السياسي المتغير. المثقف هو إبن ثوابته في الحرية والحق والكرامة الإنسانية في كل زمان ومكان.

ما الذي يفكر فيه الآخرون البعيدون الذين يقفون مع الحق الفلسطيني حين يجدون اني صرت مثلهم أوقع بيانات من أجل نصرة قضيتي؟

رفضت أن أكون ذلك المجنون. ولكنني في الوقت نفسه أدعو إلى رفض تلك البيانات التي يؤكد موقعوها أننا أمة تنسى.