جميل كتاني يتتبع 'الحضور الكنعاني في روايات فحماوي'

التاريخ الكنعاني يظهر في أعمال صبحي فحماوي كمرآة للقضايا الفلسطينية والعربية المعاصرة.

صدر حديثا كتاب نقدي للدكتور جميل كتاني من فلسطين 1948 بعنوان "الحضور الكنعاني في روايات صبحي فحماوي" الذي صدر له أربع روايات كنعانية هي: "رواية قصة عشق كنعانية"، "أخناتون ونيفرتيتي الكنعانية"، "هاني بعل الكنعاني، و"كليوبترا الكنعانية" وهي رواية تحت الطبع.

وكتاب د. جميل كتاني صدر عن دار جليس الزمان- عمان 2024، وذلك في 154 صفحة من القطع الكبير، وفي الصفحة الأولى نقرأ: الإهداء: إلى الحفريات التي أُسكتت آثارها الكنعانية وتم تزويرها لتكون آثارا يهودية في فلسطين.

وتتقصّى هذه الدراسة مسألة توظيف التاريخ الكنعاني في روايات الكاتب صبحي فحماوي، فالقارئ لأعمال فحماوي الروائية والقصصية يلاحظ مدى تأثّر الكاتب بالتاريخ الكنعاني بكلّ ما يشتمل عليه من حضارة ورقيٍّ وازدهار، إذ شكّلت الحضارة الكنعانية في أدبه موتيفًا واضحًا، فلا تكاد رواية من رواياته تخلو من العودة إلى التاريخ الكنعاني، والكشف عن عظمة هذه الحضارة وازدهارها قبل آلاف السنين، حيث امتدّت رقعتها الجغرافية لتغطّي مساحات شاسعة من بلاد الشام وأفريقيا وأوروبا. كما ألهمت الحضارة الكنعانية الشعوب والحضارات الأخرى في التحضر والتقدم في مجالات التجارة، والكتابة، والصناعة، والزراعة.

ويكتب المؤلف د. جميل كتاني: سعت هذه الدراسة للكشف عن الحضارة الكنعانية بكل أبعادها وتجلياتها كما ظهرت عند الكاتب صبحي فحماوي. وقد سلطت الدراسة الضوء على ثلاث روايات هي: "قصة عشق كنعانية" (2009)، و"أخناتون ونفرتيتي الكنعانية" (2020)، و"هاني بعل الكنعاني" (2022). كان المُسوّغ لاختيار هذه الروايات تحديدًا أنها سلّطت الضوء على الحياة الكنعانية، فكشفت عن حضارتها العظيمة، وعن وسائل العيش التي ميّزت الكنعانيين، وعن معتقداتهم الدينية من خلال آلهتهم التي عبدوها وآمنوا بها. كما أبرزت هذه الروايات التقدّم والازدهار والرقيّ الذي وصل إليه الكنعانيون في مجالات التجارة، والصناعة، والفن المعماري، والزراعة، وغيرها من ضروب الفنّ والحضارة.

من هنا، جاءت الروايات الثلاث نابضةً بكل معالم الحياة، والرقيّ، والحضارة، التي عاشها الشعب الكنعاني منذ آلاف السنين في فلسطين، وبلاد الشام، وشمال أفريقيا، وسواحل البحر المتوسط، لاسيما في أعقاب إنشاء مدينة قرطاجنة عام 814 ق.م، على يد الملكة "أليسار" التي هربت من صور إلى الساحل الأفريقي، لتنشئ مدينة قرطاجنة العظيمة على الساحل الأفريقي. كلّ ذلك أدى إلى سيطرة الكنعانيين/ القرطاجيين على الطرق التجارية، فوصلت تجارتهم إلى الكثير من الدول الأوروبية عن طريق البحر. كما أصبحت قرطاجنة مثالاً يُحتذى في التعليم، والنظام السياسي، والتجارة، وفن العمارة.

هدف الكاتب من خلال رواياته الثلاث إلى الكشف عن أنماط الحياة الكنعانية بكل تفاصيلها وأساليبها، فبيّن مزايا هذا المجتمع الذي تحلّى بمكارم الأخلاق، من تسامح، ومحبّة، وخير، وحبٍّ للأرض والوطن. لقد قام الكاتب بالربط بين الماضي والحاضر باقتدار ليخلقَ تناغُمًا وتواصلاً بين واقع الإنسان الفلسطيني المعاصر وبين تاريخ أجداده الكنعانيين، وليُظهِرَ مدى تعلق هذا الإنسان بترابه وأرضه، إضافةً إلى إماطةِ اللثام عن الغبن، والتعتيم، ومحاولات إسكات التاريخ الفلسطيني، فقد تصدّى الكاتب، من خلال الرواية، للدعاية الصهيونية وللمؤرخين التوراتيين الذين أنكروا وجود تاريخ وحضارة كنعانية - فلسطينية على أرض فلسطين، زاعمين أنَّ أرض فلسطين مُلْكٌ للشعب اليهودي منذ أقدم العُصور، كلُّ ذلك من أجل شرعنة اغتصابهم لأرض فلسطين منذ أواسط القرن العشرين.

تطرق الفصل الأول إلى الملامح العامة للحضارة الكنعانية، فأبرز تفوّق الكنعانيين في مجالات الصناعة والزراعة والتجارة والبناء، فقد برعوا في التعدين، وصناعة الخزف والزجاج، والنسيج وصناعة الثياب. كما برعوا في فن العمارة، وصنعوا المواد الثمينة وتاجروا بها، فكانوا يشترون المواد الخام، وخاصة الذهب، ويُنتجون منها مختلف التُّحَف للتجارة، وكانت لديهم بصورة خاصة مهارة في صنع الحليّ المفرغة التي قد تكون من أوراق الذهب أو من فتائل معدنية. وهذا النوع من الحليّ وُجد في مختلف الأماكن الساحلية التي عرفها الكنعانيون. كما استورد الكنعانيون النحاس من جزيرة قبرص وصنعوا منه أدوات منزلية مختلفة. وفي مجال التعدين والتسليح الحربي، قاموا بصنع أسلحة من الحديد والفولاذ، كصنع السيوف، والرماح، والنّبال، والسهام، والدروع الحديدية، والخوذ الفولاذية، واستخدموا العربات والمراكب والخيول في معاركهم البرية والبحرية. وشكّل هذا التفوق عقدة عند العبرانيين الذين لم يتمكنوا من تقليد الكنعانيين، فظلّوا تحت رحمة الحضارة الفلسطينية، حيث نقلوا عنهم وقلّدوهم في طريقة معيشتهم. وبعد تأسيس مدينة قرطاجنة، سيطر الكنعانيون على المَواطن الفينيقية في المتوسط، وشمال أفريقيا، وشبه جزيرة أيبيريا (إسبانيا)، واستمر ذلك حتى القرن الثالث قبل الميلاد إلى أن سقطت عبر سلسلة حروب مع الرومان، بعد أن كانت في أوجها، وشكّلت مفصلًا تجاريًّا رئيسيًّا وتأثيرًا سياسيًّا على معظم غرب المتوسط.

القارئ لأعمال فحماوي الروائية والقصصية يلاحظ مدى تأثّر الكاتب بالتاريخ الكنعاني بكلّ ما يشتمل عليه من حضارة ورقيٍّ وازدهار

استعرض الفصل الثاني عتبات النص في الروايات الثلاث، كوسيلة للدخول إلى مضامين هذه الروايات وأبعادها المختلفة. وعتبات النص هي كل ما يمتّ بصلة إلى النصّ المدروس كالعنوان، والهوامش، والغلاف، والإهداء، والمقدّمات، والتصديرات، وغيرها. في الروايات الثلاث، موضوع البحث، اهتمّ صبحي فحماوي بتصديرها بالعديد من الأقوال التي جاءت على شكل إهداءات، واقتباسات مختلفة لشعراء وفلاسفة ومؤرّخين، أو مقولات موحِية لأبطال الرواية، تصبُّ جميعها في الأغراض التي أراد الكاتب إيصالها للمتلقي، بحيث شكّلت عتبات النصّ هذه عناوينَ دالّةً على أفكار الكاتب ورسائله التي أراد إيصالها من خلال هذه الروايات. هدف الكاتب، من خلال عتبات النص المختلفة، إلى إعادة تدوين التاريخ الكنعاني من وجهة نظر كنعانية، وليس من وجهة نظر توراتية أو غربية، كلّ ذلك من أجل التعريف بهذه الحضارة التي لاقت التهميش والتشويه من قبل الأعداء. فعلى سبيل المثال، حملت الروايات الثلاث في عناوينها كلمة "كنعان" كدلالة على تمسك الكاتب بهذه الكلمة، من أجل التعريف بما تحمله من معانٍ كثيرة ومتعددة، وما تحمله من تاريخ زاهر ومشرق، رغم محاولات إسكات هذا التاريخ العريق.

أمّا الفصل الثالث، فقد تطرق إلى التوظيف الأسطوري في الروايات الثلاث، فقد وظّف الكاتب الخصائص الكامنة في الأسطورة، المبنيّة على التغيّر، والخيال الجامح، وتجاوز الواقع، وأنسنة الجماد ومظاهر الطبيعة. فقد استطاع صبحي فحماوي أن يستغل الأسطورة بوعي تام، وأن يضفيَ الطبيعة الأسطورية على أحداث رواياته، مبرِزًا الصراع بين الخير والشر، والموت والحياة، وعلاقة الإنسان الفلسطيني بالمكان. كما استحضر الماضي الأسطوري من أجل التعبير عن معاناة الإنسان الفلسطيني المعاصر في صراعه مع أعدائه الغزاة لأرضه. وقام بتوظيف الأسطورة للكشف عن الحضارة الكنعانية، وعن الرقيّ والتقدم الذي وصل إليه الكنعانيون من خلال عقائدهم ومعتقداتهم بما يخص الحياة والموت والوجود من جهة، وبما يخص علاقتهم بأرضهم ووطنهم ومعيشتهم اليومية من جهة أخرى. كما كشفت الأساطير عن طبيعة الشعب الكنعاني، المُحبّ للسلام والتسامح واحترام الآخر، فهو بذلك قد سعى إلى البحث عن صدىً للقيم الإنسانية الخالدة من خلال بعث الأساطير، في ظلّ غياب هذه القيم في العصر الراهن، وفي ظلِّ تداعي أسس الحضارة المعاصرة التي غالت في تغليب الجانب الماديّ على ما عداه من الجوانب الإنسانية الأخرى، ممّا أنتجَ شعورًا بالاغتراب والقلق. لذلك، لجأ الكاتب إلى الأسطورة للتعبير عن بكارة التجربة البشرية وصفائها.

أما الفصل الرابع، فقد تطرق إلى جماليات المكان الفلسطيني، حيث شكّل المكان ركيزة من ركائز العمل الفني في الروايات الثلاث. وتعود أهمية المكان فيها إلى محاولات الكاتب إحياء الفضاء الكنعاني - الفلسطيني، بكل ما يحمله ويجسّده من حضارة، ورقيٍّ، وعمران، ونشاط صناعيٍّ وتجاريٍّ، كلّ ذلك بهدف استحضار هذا الماضي العريق للحضارة الكنعانية التي برزت من بين الحضارات المشرقية القديمة، فقدّمت صورة ناصعة من صور الفن المعماري، والنشاط الإنساني المليء بالحركة والنشاط. كما هدف الكاتب إلى تأكيد تواجد الفلسطينيين في هذه البلاد كورثة طبيعيين لأجدادهم الكنعانيين، خلافًا للمزاعم الصهيونية والتوراتية التي تجاهلت وجود الحضارة الكنعانية، فقامت بتزييف الحقائق التاريخية من أجل التسويغ للمشروع الصهيوني - التوراتي الاستيطاني، المتمثّل في طرد الفلسطينيين من أرضهم ووطنهم. كنموذج ساطع لحضور المكان، قام الكاتب بتسليط الضوء على مدينة يبوس أو أورسالم (القدس)، باعتبارها أهم الممالك الكنعانية في ذلك الوقت، حيث وصف الفنّ المعماري الجميل، والحركة التجارية النّشطة، ومعالم التسامح والمحبة والأمن المنتشرة فيها. فأورسالم-القدس هي بؤرة الصراع بين الفلسطينيين وبين اليهود، حيث تمّ تهويد القدس بعد نكبة عام 1948، وذلك بسبب مكانتها الدينية ورمزيّتها التاريخية. من هنا، جاء إبراز المكان في الروايات الثلاث للتأكيد على الطابع الكنعاني للمدن الفلسطينية، وذلك خلافًا للمزاعم الصهيونية والتوراتية.

وجاء الفصل الخامس ليُبرز الجوانب الحضارية للشعب الكنعاني، بما تشتمل عليه من أخلاق، وثقافة، وفنٍّ معماري، وتقدُّم تجاري وزراعي. جاء ذلك ردًّا على المزاعم التوراتية التي شوّهت صورة الإنسان الفلسطيني قديمًا، ولا تزال تشوّه صورته في الزمن المعاصر. ونفيًا لهذه الافتراءات الصهيونية، التي سعت إلى إسكات الصوت الفلسطيني، وإلغاء وجوده التاريخي في أرض فلسطين، قام الكاتب بالتوكيد على أنَّ الكنعانيين هم "شعب الله المختار"، وليس اليهود، كما روّجت لذلك التعاليمُ التوراتية. لقد قام الكاتب بإبراز الجوانب الحضارية التي تزخر بها الروايات الثلاث، في مقدمتها قِيَم المحبة والتسامح ونبذ الحرب والعنف، فالمجتمع الكنعاني مجتمع مسالِم، لا يحبُّ الحرب والقتل إلاّ دفاعًا عن النّفس والوطن. كما أنه مشهور بكرمه وحُسن ضيافته، فهو يرحّب بالغرباء، ويستضيف القادمين إلى بلاده من أجل العيش أو التجارة. لقد قام الشعب الكنعاني بتأسيس حضارة عظيمة، كان لها أثر واضح على سُبُل العيش التي انتشرت في بلاد كنعان. كما أنَّ هذه الحضارة أثّرت على العبرانيين الذين عاشوا بين الكنعانيين، فقاموا بتقليدهم في كلّ شيء. إضافة لذلك، أثّرت الحضارة الكنعانية على شعوب البحر المتوسط من خلال التجارة التي تميّز بها الكنعانيون، خاصة بعد تأسيسهم لمدينة قرطاجنة على السواحل الأفريقية، إذ زاد التبادل التجاري مع أوروبا، ممّا أدى إلى تأثّر الأوروبيين بالحضارة الكنعانية على أكثر من صعيد.

في الفصل السادس، قام صبحي فحماوي بتوظيف العديد من الأساليب والتقنيات التي جعلت من روايته الكنعانية تلامس الواقع المعاصر، فالقارئ لروايات فحماوي الكنعانية يجد نفسه أمام زمنَين متوازيين، الماضي البعيد من جهة، والحاضر المعيش من جهة أخرى، فقد قام بالربط الموفَّق بين التاريخ الكنعاني وبين ما يواجهُ الإنسانَ العربيَّ عمومًا، والإنسان الفلسطيني على وجه الخصوص، في الزمن الراهن. كلّ ذلك جعل من الرواية الكنعانية عند فحماوي نابضة بالحياة والتشويق، باعتبارها رواية حداثية، لا تكتفي بسرد الأحداث الماضية، وإنما تتخذ منها مادّة للتعبير عن القضايا المعاصرة، سواء أكانت اجتماعية أم ثقافية أم سياسية.

من ضمن القضايا اللافتة للنظر، طَرْحُ الروايات الثلاث لقضايا سياسية تتلخص في ضرورة توحيد الصف الداخلي من أجل الانتصار على العدو، ففي رواية "قصة عشق كنعانية" كانت المهمّة الكبرى التي أُلقيت على عاتق "دانيال" توحيدُ الممالك الكنعانية، وحمايتها من غزو الأعداء الخارجيين. فقد قام الملك "عال"، ملك غزّة بتكليف "دانيال" بإرسال رسائل إلى ملوك الممالك الكنعانية من أجل حثّهم على ضرورة التنسيق فيما بينهم من أجل وضع خطة موحّدة تهدف إلى التصدي للمخاطر الخارجية التي تهدّد مستقبل الممالك الكنعانية واستقرارها. بالمقابل، فإنَّ التفرقة والتجزئة، وغياب الكلمة المشتركة، وتغليب الفئوية على المصلحة العامة المشتركة، كما رأينا في رواية "هاني بعل الكنعاني"، هي المشاكل ذاتها التي تعاني منها الشعوب والأنظمة العربية المعاصرة في تعاملها مع القضايا السياسية والمصيرية التي تهمّ العالم العربي كلّه. لذلك، رأينا أنَّ التاريخ الكنعاني مرآة للقضايا الفلسطينية والعربية المعاصرة في تعامل العرب مع أنفسهم ومع الآخر.

اللافت للنظر، طَرْحُ الروايات الثلاث لقضايا سياسية تتلخص في ضرورة توحيد الصف الداخلي من أجل الانتصار على العدو.