الرفاعي يرصد 'مبادئ الفلسفة الإسلامية' وما أحاطها من مؤثرات
يقدم المفكر العراقي وأستاذ الفلسفة الإسلامية د.عبد الجبار الرفاعي في كتابه "مبادئ الفلسفة الإسلامية" توضيحا وتيسيرا للمفاهيم والمقولات الفلسفية للمبتدئين في دراسة الفلسفة، وإبعادهم في أول الطريق عن سجالات الفلاسفة وإشكالاتهم المتنوع، ذلك أن المطالب الفلسفية تحتاج إلى جدية ومثابرة لتصورها تصورا صحيحا وقد ينجم عن انهمار التعليقات والاستفهامات في المرحلة الأول للدارس وقبل وعي المفاهيم والمقولات الفلسفية اضطراب وقلق عقلي وتشوه في الرؤية.. وكل ذلك من خلال تناول معنى الفلسفة، وأقسامها، ووظيفتها، ونشأتها، وأزمنتها، وأبرز تياراتها ومدارسها عبر التاريخ، ومصيرها في العصر الحديث، والمناهل الإسلامية للتفكير الفلسفي، ومدارس الفلسفة الإسلامية.
يقول الرفاعي في مقدمته كتابه الصادر في جزئين عن دار خطوط وظلال الأردنية أن كتابه "ثمرة لتدريس كتاب "بداية الحكمة" للعلامة محمد حسين الطباطبائي، فهو يشتمل على محاضرات المغلق في تدريس هذا الكتاب، ولذلك يطغى عليه الأسلوب التعليمي التوضيحي، الذي لا يخلو من التكرار والإسهاب في التوضيح أحياناً، طبقاً لما يتطلبه تدريس متون المعقول في الحوزة العلمية.
ويضيف أن تعريف الفلسفة بأنها: العلم الذي يبحث فيه حقائق الأشياء على ما هي عليه بقدر الطاقة البشرية. وهنا تجدرالإشارة إلى أن كلمة "الفلسفة" استعملت في عدة معاني عبرالتاريخ واتسع معا معناها في بعض المراحل ليستوعب العلوم العقلية بأسرها فيما تقلص هذا المعنى في مراحل أخرى فاستعمل عند البعض كما في التراث الإسلامي فيما يخص الفلسفة الأول التي تبحث عن المسائل الكلية للوجود التي لا ترتبط بموضوع خاص.
ويفرق الرفاعي بين الفلسفة والسفسطة، يقول "في مقابل الفلسفة تستخدم كلمة "السفسطة" وهي تعني نوعا من الاستدلال يقوم على الخداع والمغالطة، فقد كانت السفسطة عنوانا لتيار واسع لتيار واسع حاول أن يعصف بالأسس المنطقية للتفكير الصحيح وينكر أي واقع خارج إطار الذهن ظهر عند اليونان في القرن السادس قبل الميلاد. بيد أن ظهور سقراط (469 ـ 399 ق.م) فيما بعد أسهم بشكل فعال في الإجهاز عل هذا التيار وإعادة الاعتبار لأسس الَّتفكير والاستدلال الصحيح ، واقتفى أثره تلميذه أفلاطون (427 ـ347 ق.م) ثم جاء تلميذ الأخير أرسطو (384 ـ 322 ق.م) الذي كان صاحب الدور الريادي في تقنين ما تم اكتشاف من قواعد وأسس التفكيرالصحيح التي صاغها فيما عرف بعد دلك. ومثلما فعل فيثاغورس من قبل فإن سقراط أسمى نفسه بالفيلسوف أيضا ومنذ عصر سقراط أصبحت كلمة الفلسفة تستخدم دائما في مقابل السفسطة؛ لأنها تعني التعرف على الحقيقة واكتشافها عل ما هي عليه بالأسلوب البرهاني خلافا للسفسطة التي تنكر الحقيقة وتمارس تزييف للمعرفة يعتمد على الخداع والمغالطة.
ويوضح أن الفلسفة عند القدماء تعد محورا للعلوم الحقيقية أو المعارف العقلية كافة مما يرتبط بالطبيعة أو ماوراء الطبيعة منها كـ: الطبيعيات، والرياضيات، والإلهيات، فانتظمت في إطارها تمام المعارف، ولم يشذ منها سوى المعارف التي تعبر عن مواضعات واتفاقات واعتبارات علها البشر مثل النحو والصرف. لما كانت الفلسفة عند القدماء اسما تندرج تحته المعارف العقلية بمجموعها جرى تصنيف هذه المعارف إلى نوعين رئيسين وهما:
أولا العلوم النظرية أو الحكمة النظرية: وهي التي يطلب فيها استكمال القوة النظرية من النفس، بحصول العقل بالفعل، ويندرج تحتها:
أ ـ الإلهيات: وتسمى العلم الإلهي والعلم الأعلى، والعلم الكلي والميتافيزيقيا "ماوراء الطبيعة" والفلستفة الأولى، تمييزا لها عن الرياضيات المسماة بـ "الفلسفة الوسطى"؛ وذلك لأنها تقع في مرتبة متوسطة بين الطبيعيات والإلهيات. وتعد الإلهيات لدى القدماء أشمل وأوسع من غيرها من العلوم، مضافا إلى أنها برهانية ويقينية أكثر من غيرها.
وتنقسم الإلهيات إلى:
أولا الأمور العامة وهي العناوين والأحكام والصفات التي لا تختص بموجود دون سواه وإنما تسري في جميع الموجودات ويتصف بها الموجود بما هو موجود ولا يشترط أن يكون الموجود المتصف بها له ماهية محددة. وهي مثل: الحدوث والقدم والوجوب والإمكان، فكل موجود إما أن يكون حادثا وإما قديما، وكل موجود إما أن يكون واجبا وإما ممكنا. مع العلم أن شمول هذه العناوين للموجودات تارة يكون بمعنى شمول كل واحد منها للموجودات كافة. مثلما نلاحظ في الوجود والشيئية، وتارة يكون بمعنى شمول المفاهيم للموجودات بنحو التقابل، كالوجوب والإمكان فإ كل موجود لابد أن يكون مندرجا تحت عنوان الواجب أو الممكن. ويعبر عنها بـ "الأحكام العامة للوجود"، والإلهيات بالمعنى الأعم".
ثانيا معرفة الله: ويدور البحث فيها حول وجود الباري وتوحيده وصفاته وما يرتبط بذلك من مسائل. وتسمى بـ "الإلهيات بالمعنى الأخص" في مقابل " والإلهيات بالمعنى الأعم".
ب ـ الرياضيات: وتسمى العلم الأوسط والفلسفة الوسطى لوقوعها في مرتبة متوسطة في سلم المعرفة بين الإلهيات والطبيعيات، وتنقسم إلى: الحساب ـ الهندسة ـ الهيئة ـ الموسيقى.
ج ـ الطبيعيات: وتسمى العلم الأدنى والفلسفة الدنيا؛ لأنها تقع في أدنى المراتب في سلم المعرفة، وفوقها تقع الرياضيات فيما تكون الإلهيات العلم الأعلى. وهي تبحث في أحوال الأجسام الطبيعية، وتنقسم إلى: السماع الطبيعي ـ الفلكيات ـ العنصريات.
ثانيا العلوم العلمية أو الحكمة العلمية: وهي التي يطلب فيها أولا استكمال القوة العلمية بالأخلاق، وبكلمة أخرى: الحكمة المتعلقة بالأمور العلمية التي يجب علينا أن نعلمها ونعملها تسمى: حكمة علمية، بينما الحكمة المتعلقة بالأمور النظرية التي يجب علينا أن نعلمها وليس علينا أن نعملها تسمى حكمة نظرية. وتنحصر العلوم العلمية أو الحكمة العلمية في ثلاثة أقسام هي: الحكمة المدنية أو علم سياسة المدن وتدبير المجتمع - الحكمة المنزلية أو علم تدبير المنزل والعائلة ـ الحكمة الخلقية أو علم الأخلاق.
ويشير الرفاعي إلى أن الفلسفة تناولت عبر عصورها الممتدة – بدءا بنشأتها إلى عصرنا الراهن ـ مسائل كثيرة استوعبت فيها تمام المعارف البشرية وإن استقلت منها بعض المعارف والعلوم منذ عصر النهضة في أوروبا ومن أبرز القضايا التي انبسط عليها البحث الفلسفي: الإلهيات ـ المنطق ـ نظرية المعرفة ـ الأخلاق ـ فلسفة الجمال ـ فلسفة الدين ـ فلسفة العلم.
وحول نشأة الفلسفة يقول "دأب قطاع واسع من مؤرخي الفلسفة على اختزال تأريخ الفلسفة الممتد عبر الزمان والمكان باليونان فقط، وعدوا المنحى العقلي في الحضارة اليونانية بداية الوعي العقلي المنتظم في حياة الإنسان، وصار الوعي معبرا عن البادرة الأولى للمعرفة الفلسفية في التاريخ حسب زعمهم. بيد أن الإرث العقلي الذي عثر عليه خبراء الآثار في: بقايا تراث وادي الرافدين، ووادي النيل والصين والهند، وغيرها من الأمم القديمة، برهن بشكل واضح على حضور الوعي الفلسفي فيما تم تفسيره من الكتابات على الألواح الطينية الكثير التي وصلتنا من تراث هذه الأمم. فمثلا عثر المنقبون في وادي الرافدين على أكثر من مليون لوح طيني ترقد تحت طبقات الأرض من بقايا الحضارات: السومرية والأكدية والبابلية والآشورية، نهبت معظمها البعثاث الأثرية الغربية ووزعتها كغنائم عل متاحف أوروبا وأميركا.