النقد الاجتماعي والتنوع الفني عند شعيب خلف في 'الضوء'

الكاتب المصري لا يتخلى عن إبراز الحكمة في سياق نصوص مجموعته.

تُعَد مجموعة "الضَّوء لا يمنح كفيفًا أمكنةً صالحةً للتَّجوُّل" للأديب والناقد المصري الدكتور شعيب خلف، نموذجًا واضحًا للنقد الاجتماعي في الطَّرح، والتَّنوُّع الفنِّي في الأسلوب، فبعض نصوص هذه المجموعة أشبه برسالة يتجلى فيها أسلوب التَّرسُّل بشكل احترافي، وبعضها خليط من فنِّ المقامة والخاطرة اللحظيَّة التي يدوِّنها الكاتب لتبقى مخفوظة أمامه، وبعضها يسلك مسلك القصة، وفي خضمِّ ذلك التنوع نجد القدرات اللغوية والمحسِّنات البديعية حاضرة بقوة، مع تركيز الفكرة والسياق على الجانب الاجتماعي الذي يقوم الكاتب بتفنيد مَثَالبِه وبيان مَعايِبِه، بدءًا من العنوان الذي يحمل في طيَّاته الحكمة والنُّصح، وذلك من خلال ثمانية عشر موضوعًا، يحمل أحدها العنوان العام للمجموعة، وقد ذيَّل الكاتب كل موضوعٍ منها بتاريخ الانتهاء من كتابته.

وعند النظر إلى عنوان المجموعة كعَتَبةٍ أُولى من عتبات الكتاب نجد "الضوء" و"كفيفًا"، وهما مفردتان تفوَّقت كلٌّ منهما على مرادفاتها في بابها؛ فالضوء رمزٌ للنهار، وقت العمل والسعي، لذلك جاء به الكاتب دون "النُّور" الذي يكون من القمر بالليل، وقد جعل الله تعالى الضوء خاصِّيَّةً للشمس، فقال: "هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً" [يونس: 5]، وكذلك مفردة "الكفيف" دون الأعمى أو الضرير، لِما تتضمَّنه دلالة "الكفيف" في نفسها مما تَنْفرد به دون مرادفاتها، فهي من الكفِّ وهو المنع والردع، وجاءت بصيغة فَعِيل، كأنَّ الكاتب يرمز إلى شيءٍ مِن فِعل الإنسان نفسه، يؤذي به نفسه فيمنعها ويكفُّها عن رؤية طريق النجاح، فحينئذ لا يهديه مرشد، ولا يُبَصِّره ضوء الشمس في النهار المشرق.

وبمطالعة أوَّل نصوص هذه المجموعة نجد أن عنوانه "ناس الشوارع" وهو عنوان مناسب ليكون في صدارة العناوين التي تُفتَتَح بها مجموعة تحمل عنوان "الضَّوء لا يمنح كفيفًا أمكنةً صالحةً للتَّجوُّل"، ويأتي هذا النص أشبه برسالة يكتبها الكاتب إلى شخصٍ ما، يصف فيها "ناس الشوارع" بأسلوب أدبي تتجلَّى فيه جزالة اللغة، وبراعة التَّرسُّل، وهو أن يرسل الكاتب كلامه مسجوعًا وله إيقاع واضح، دون مراعاة التساوي بين عدد كلمات الجمل، كقوله في هذا النص: "ودفنوا الأشاوس في جدار الوساوس، وناسًا نَحَوْا نحيحَ الهلاوس، فمات صيد البراري المهرجل، وناسًا أمام المصور تُفشفش الرأي فتُفشِي الخنوع المبجَّل، وناسًا تَنُثُّ الكلام وتُفشِي السكوت، وناسًا تحيا وناسًا تموت"، ويستمر الكاتب على هذا النحو بأسلوبٍ يتَّجه إلى النقد الاجتماعي، حتى نهاية النص أو الرسالة، وذلك من خلال عرضٍ للطبائع والأخلاقيات، اكتفاءً بقدرة المتلقِّي على التمييز بين الخير والشر: "وناسًا تمكُّ نخاع العظام، وناسًا تبيع بقايا الحطام، وناسًا تصيد مراعي الغمام، وناسًا توزع صكوك السلام".

فإذا انتقلنا إلى النص الثاني بعنوان "ملهاة من مهراج مدسوس"، وجدناه مزيجًا بين فنِّ المقامة والخاطرة، مع التَّخلِّي عن التَّرسُّل وعن السَّجع بشكلٍ عامٍّ، يقول في بدايته: "دخان ملفوف يصعد من إصبعي المدحوس، لا يدركه الشعنون الواقف بجواري، غير المتحكم في إحليله.."، فمحلُّ الاهتمام هو إبراز الفكرة، والمحورُ الرئيسُ تصويرُ حالٍ لا مراقبة أفعالٍ، يقول: "الصُّوَرُ في بهو المقهى يَجلِسنَ زبائن فوق مقاعد ثابتة، والنادل يسقي الناس نخب الصمت النازل من ظُلَمٍ ربعت في بهو قصور مقصورة على أطياف الصفوة"، وقد منح الكاتب "الصُّوَر" صفة العاقل فقال: "يجلسن"، لأنه يقصد بـالصُّوَر أصحابها، إشارة إلى ما قاله فيما بعد: "الصمت مُهان في أحداق الأحياء الموتى.."، ويمضي الكاتب في سياق النقد الاجتماعي إلى أن ينتهي بِرَسم أُمنِيته التي يطمح إليها: "وحواصل طير خُضر تحمل أرواح الأحياء لتسكن ذاكرة سماء لا تنسى رعاياها"، وهذه الجملة الأخيرة التي يختم بها النص تركِّز على جانب النقد بشكل غير مباشر، فقد سئم الكاتب من مظاهر العبث في الأرض، فأيقن أن العدل المطلق في السماء؛ فالله تعالى هو الذي يعلم كل شيء ولا ينسى أحدًا من خلقه.

"الضَّوء لا يمنح كفيفًا أمكنةً صالحةً للتَّجوُّل"

أما النص الذي يحمل العنوان العام للمجموعة "الضَّوء لا يمنح كفيفًا أمكنةً صالحةً للتَّجوُّل"، فتحتشد فيه عدة صور بيانية ويتنوع فيه أسلوب السَّرد والتناول، يفتتح الكاتب هذا النص بأسلوب الأمر "تهيَّأْ لِتَرْكِ اغترابك على صفحة الأسئلة"، وهذا الافتتاح بأسلوب الأمر فيه لفتٌ للانتباه وتهيئة نفسيَّة لتقبُّل النصيحة واستيعاب الحكمة التي يتضمنها عنوان هذا النص، ويوظِّف الكاتب أفعال أجناسٍ أخرى من المخلوقات الحيَّة، في سياق النصح والحكمة، يقول: "النَّمل لا يملك مخرجًا متَّسِعًا كي تراهن عليه، ولا الحدأة تملك فكَّين متخاصمين"، ويستمر إلى أن يأتي إلى بيت القصيدِ فيقول: "الضوء لا يملك النهار، يأتي ويذهب دون أن يمنح كفيفًا أمكنةً صالحةً للتَّجوُّل"، واستمرارًا في سياق الحكمة يقول: "والعتمة لا تملك الليل، تأتي وتذهب دون أن تقشِّر السَّواد من فوق القلوب اليابسات"، وينطلق من الحكمة إلى استئناف النقد الاجتماعي فيقول: "والأحياء غامضون كمنزلةٍ بين المنزلتين"، فقد قدَّم الحكمة المشتملة على النصح، ثم قام في إطار النقد الاجتماعي بتبيِين موضِع الخلل من أجل إصلاحه.

ثم يعود الكاتب إلى "الرسائل" مجددًا، مع قليلٍ من التَّرسُّل، في نصٍّ عنوانه "سلام على قلبك النور"، لكن رسالته هذه المرة إلى إنسانٍ في عالم البرزخ "غيابك يسحب من دمي حضور الكون، وحضورك يسبقني إليَّ، هي لحظة إشهادٍ كونيٍّ، لا يحتمل الجسد المسكين تجلِّي اللَّيليِّ، فتنهار الأصوات المحبوسة في ربقٍ من خيطٍ قمريٍّ"، وهكذا يلجأ شعيب خلف إلى التنوع الفني والأسلوبي، مع التزامه بالنقد الاجتماعي في معظم نصوص هذه المجموعة، فنراه في نصٍّ بعنوان "الطيور العمياء تهدم العش قبل وصول القش للشجرة"، يحرص على النقد بدءًا من العنوان كما هو واضح، ويستمر النقد عند الكاتب من خلال عرض الأخلاقيات والسلوكيات التي تتطلب الإصلاح، والأفكار والأفعال التي تستوجب التعديل: "لماذا يجلسون على المقهى المجاور، والدِّفء داخل الحجرات يعاني وحدة أبديَّة؟!!.. لماذا يتمرد التاريخ على صور المقابر والبرديات، وصور الرؤساء في المقهى، وفأس أبي، وحكايات جدَّتي، وأغاني أم كلثوم؟!!"، يشير الكاتب إلى اختلاف الأجيال، وتمرُّد الأجيال الجديدة على تاريخ من سبقهم، وذلك في إطار النقد الاجتماعي الذي يمارسه في هذه المجموعة.

ولا يتخلى الكاتب عن إبراز الحكمة في سياق نصوص مجموعته، فإذا رأينا عنوانًا مثل "وهج الألوان على جسد الوردة"، فإننا قد نظن أنه عنوان خاطرة حبٍّ أو رسالة رومانسية، لكن حين نطالع النَّصَّ نجد أنه مفعم بالحكمة؛ كقوله "لن أزرع الورد في غيط القمح، لأن العطر يصادق الرِّيح ويتركني وحدي، ولن أزرع القمح في الحديقة، لأنه يحتاج لِعَرَق أبي الذي تبخَّر دون علمه"، وهي حكمة تحمل النقد في طيَّاتها، وثمَّة نصوص أخرى تُطِل الحكمة والنقد من عناوينها؛ مثل "الطيور الحرة لا تترك ظلَّها فوق أرض مسروقة"، و"اللابسون أجنحة الذل يسقطون في الفراغ"، ويمضي الكاتب في سرده عَبْرَ موازنة بين التنوع الفني في طريقة السَّرد، وبين الالتزام بالجانب النقدي في مَحاور الطَّرح الذي يمثِّل غرضًا رئيسًا في هذه المجموعة.