إيران ومحورها المقاوم واستثمار الورقة الفلسطينية
ظنَّ مُتتبعو أخبار المحور المقاوم بأن رد حزب الله على إغتيال قائد أركانه فؤاد شُكر، سيكون متناسباً مع عملية الإغتيال، حتى ذهب البعض بعيداً في تحليلاته ليقول بأن الحزب الذي تأخر في رده، سيُقدم على إغتيال شخصية إسرائيلية عسكرية أو أمنية توازي شُكر وربما أكثر، خاصة أن خطاب الحزب وبياناته ألمحت إلى أن الرد سيكون نوعياً في مكانه وطبيعة الهدف الذي سيتم إستهدافه، وبأن معادلة الردع ستعود إلى مربعها الأول، ولن تتجرأ إسرائيل بعد ذلك على القيام بأي عملية إغتيال تطال كوادر حزب الله.
معادلة الردع التي تحدث عنها حزب الله كان واضحاً أنها أُطرت بما يناسب إيران وتوجهاتها الإقليمية في المنطقة. فإيران لا ترغب في الانجرار عميقاً إلى حرب إقليمية غير واضحة النتائج، ولا تريد بالتوازي من أذرعها أن تقوم بأي عملية تُسبب حرجاً مضاعفاً لها، لاسيما أن ردها على "المساس بشرفها" وإغتيال إسماعيل هنية في عُقر دارها، لا زال في مرحلة الإستثمار السياسي، والمطالب بإمتيازات على شاكلة العودة إلى الإتفاق النووي ورفع العقوبات الغربية عنها. نتيجة لذلك فإن الحزب من خلال حسن نصرالله ألمح إلى أنه لا يطالب أحداً من داعميه بالإشتراك معه في الرد على إغتيال شُكر، وبأن قيادة الحزب تتفهم السياق الاقليمي الجديد، ولا تريد إحراج طهران أكثر من ذلك.
وجاء الرد الذي طال انتظاره، وأرهق الإسرائيليين الذين وبحسب مناصري المحور، بأنهم يقفون على "أجر ونص" في انتظار الرد. صحيح أن استهداف موقع نوعي في قلب إسرائيل جاء صادماً للبعض، لكن الصحيح أيضاً بأن رد حزب الله جاء متناسباً مع ما تريده طهران، أي دون التسبب بالانزلاق إلى حرب إقليمية واسعة. فإيران لا تستطيع الإمساك بالورقة الفلسطينية دون أذرعها "المقاومة" في لبنان وفلسطين، ومن الصعب على إيران أيضاً بناء شرعية لتدخلاتها في المنطقة دون تبني شعار تحرير القدس وضرورة رفع الظلم عن الفلسطينيين. وهذا ما يدعو له وزير الخارجية الإيراني الجديد عباس عراقجي، عبر ضرورة أن يكون شعار تحرير فلسطين مالئ الخطاب السياسي، كما أن عراقجي الذي أكد بأن "محور المقاومة هو أهم مكوّن لقوة الجمهورية الإسلامية"، الأمر الذي يؤكد بأن الفصائل المرتبطة بإيران، ليست قوة لبلدانها، بقدر ما هي قوة لإيران، وأداة تنفيذ لخططها.
يبدو واضحاً أن لعبة "المناوشات المنضبطة" التي تُديرها إيران عبر فصائلها في لبنان وفلسطين وسوريا ضد إسرائيل والولايات المتحدة، قد تُحقق أهدافها بالنسبة لطهران. لكن في حال أصرّت إسرائيل على هدفها لجهة تدمير حماس وإنهاء حكمها للقطاع، فإن ذلك سيزيد الحرج على طهران، وقد تضطر الأخيرة إلى رفع مستوى تدخلها عبر حليفها حزب الله وفصائلها في سوريا والعراق واليمن دون الوصول إلى درجة الانخراط الكامل في الحرب، وهذا ما يمكن أن يجعل لعبة المناوشات المنضبطة، تتحول إلى لعبة خطرة، إذا طال أمد الحرب، وأوغلت إسرائيل أكثر في مجازرها ضد المدنيين بالقطاع.
ولمزيد من الفهم والتعمق بشأن المعادلة التي تُديرها إيران من خلال فصائلها، فإنه لابد أن نُدرك بأن نجاح إسرائيل في الوصول إلى الأهداف التي تعلنها في غزة، وتمكنها من إنهاء حُكم حماس وتحييده عن المشهد الفلسطيني، فإن ذلك سيؤدي إلى خسارة إستراتيجية ثقيلة ستتكبدها إيران، فضلاً عن تضعضع الحلف الذي تديره وسقوط أحد أعمدته، ما يجعل بقية القوى في الحلف الإيراني يتلمسون على رؤوسهم، حيث سيكون حزب الله هو الهدف التالي لإسرائيل حالما تتخلص من كابوس غزة، وهذا ما ألمح إليه صراحةً وزير الدفاع الإسرائيلي بقوله "إن ما يجري في غزة هو رسالة إلى حزب الله".
تُدرك إيران أن فرضية سقوط حماس ستؤدي إلى خسارتها لـ "الورقة الفلسطينية"، لاسيما أن تلك الورقة تشكل المظلة السياسية للنفوذ الإيراني في المنطقة. وفي المقابل فإن انتصار إسرائيل في الحرب، سيكون بوابةً لعهد جديد في عموم المنطقة، وستكون بلا شك ثقافة المقاومة التي ترعاها طهران، عُرضة للإنتفاء، وقد تُفتح أبواب التسويات السياسية مع إسرائيل، حينها سيكون الخطاب السياسي الإيراني القائم على مواجهة "الغطرسة الإسرائيلية" بلا قيمة، ما يجعل المنطقة برمتها تفلت من يدي إيران، وتخضع للمزاج الجديد القائم على السير في ركب إسرائيل، واستعادة حركة التطبيع زخمها، تحت شعارات إحياء عملية السلام.
من وحدة الساحات وتوحيد الجبهات وما يجري في جنوب لبنان ورد حزب الله، واستثمار إيران للورقة الفلسطينية، فإن كل ذلك يؤكد بأن اللعبة الإقليمية والدولية أكبر من غزة وحربها، كما أن أهداف اللاعبين في المسرح الفلسطيني متنوعة. فحماس وبحسب بيان عملية طوفان الأقصى دعت إلى فتح كل الجبهات وتوسيع الحرب، وهي ترى في ذلك بداية التغيير الجدي على الطريق إلى تحرير فلسطين. ونتنياهو يرفض وقف النار حتى تحقيق أهدافه في القضاء على حماس، ويري أيضاً أن هناك ضرورة لجذب أميركا وتوريطها في حرب مع إيران، والأخيرة تُجيد إدارة الحرب وإستثمارها ضمن مصالحها الإقليمية وعبر أذرعها، لكنها لا تريد التورط في حرب واسعة.
بين هذا وهذاك فإن وجود إسرائيل في المنطقة يُشكل حاجة إيرانية، لأن هذا الوجود يُعطي الشرعية والغطاء والمسوغ للتدخل والدور الإيراني وتوسعه في الإقليم، نتيجة لذلك فإن مصلحة إيران تقتضي الإبقاء على الورقة الفلسطينية واستثمارها إقليمياً، بما يسمح لطهران شرعنة تدخلاتها في المنطقة.