المنظِّر الاجتماعي روبرتو أونجر يوقظ الذات في 'براغماتية بلا قيود'

الفكرة الوحيدة التي يتردد صداها في كل صفحةٍ من صفحات كتاب الفيلسوف والقانوني والسياسي البرازيلي هي الفكرة القائلة بلانهائية الروح الإنسانية، في الفرد وكذلك في الإنسانية.

يرى الفيلسوف والقانوني والسياسي البرازيلي الذي يعد من أهم المنظِّرين الاجتماعيين المعاصرين روبرتو أونجر أن البراغماتية أصبحَت فلسفةَ العصر عن طريق الانكماش؛ فقد حوَّلَتها أيدي العديد من أنصارها إلى صورةٍ أخرى من الشيخوخة المتنكرة في زيِّ الحكمة. هم يعتقدون أنهم نَضِجوا، لكنَّهم في الحقيقة سقَطوا. وكما فقدنا ثقتَنا بالمشاريع الكبرى، سواء تلك المتعلقة بالنظريات أو بالسياسة، تَم تلقينُنا كيف نعيشُ من دونها بدلًا من كيفية استعادتها وإعادة صياغتها في صورة أشكالٍ أخرى، واعدةٍ أكثر. هذا المذهب المتمثل في الانكماش، وفي التراجُع إلى خطوطٍ يُمكِن الدفاع عنها بسهولةٍ أكبر، من الوقوف والانتظار، ومن الغناء في أغلالنا، هو الفلسفة السائدة لعصرنا الحالي، كما عُبِّر عنه في كتابات الأساتذة وكذلك في مُناخ المناقشة العامة المثقَّفة. والعديدُ من صياغاتها الأكثر تأثيرًا تستخدم علامة label "البراغماتية".

ويؤكد في كتابه "يقظة الذات: براغماتية بلا قيود" الصادر عن مؤسسة هنداوي إن الفكرة الوحيدة التي يتردد صداها في كل صفحةٍ من صفحات هذا الكتاب هي الفكرة القائلة بلانهائية الروح الإنسانية، في الفرد وكذلك في الإنسانية. وهي رؤيةٌ لذلك اللاتناسب الرائع والرهيب بين تلك الروح وبين كلِّ شيء قد يحتويها ويحطُّ من قَدْرها، وبين استيقاظِها على طبيعتِها الخاصة من خلال مجابهتِها لحقيقة الإجبار وتوقُّع الموت، ورُعبِها في مواجهة لامبالاة وضخامة الطبيعة من حولها، واكتشافِها أن أكثر ما تتَشاركه مع كلِّ الكون هو تقويضُها بمرور الزمن، واعترافُها اللاحق بأن الزمنَ هو صميمُ الحقيقة إذا كان أي شيء كذلك، وعبوديَّتُها لترتيبات المجتمع والثقافة التي تُقلِّل من شأنها، وحاجتُها إلى خلقِ عالَمٍ ـ عالمٍ إنساني ـ يُمكِنها فيه أن تُصبِح وأن تكونَ نفسَها بالفعل حتى إذا توجَّب لعملِ ذلك أن تثُور، على أي حال، ضد كل مسلَّمة، وكل عادة، وكل إمبراطورية؛ وقُدرتُها على تحقيق هذا البرنامَج المستحيل والمُتناقِض على ما يبدو عن طريق التعرُّف، في كل موقفٍ ثقافي وسياسي، على الخطوات القادمة.

ويلاحظ أونجر إن النزاعات المؤسَّساتية والأيديولوجية المألوفة خلال القرنَين الأخيرَين، بتركيزها من دون هوادة على الدولة والسوق كركنَين أساسيَّين متعارضَين للتنظيم الاقتصادي والنمو الاقتصادي، تفشل في التقاط أمرٍ مهم يتعلق بمتطلبات تحقيق نجاحٍ عملي من الحياة الاجتماعية. وما تفشل في التقاطه يتحول إلى جدال حول شروط وفوائد الاختراع الدائم للمستقبل.

ويقول أن بعض أنظمة التعاون تتسم بكونها أكثر تقبُّلًا للإبداع ـ الثقافي والتقني والاجتماعي والتنظيمي ـ من غيرها. وهي تُلطِّف التوتر الموجود حتمًا بين مقتضيات التعاون والإبداع، والذي يتسم بكونه مركزيا ومتغلغلا في كل الأنشطة العملية، بما في ذلك إنتاج وتبادُل السلع والخدمات. وما التعاون التجريبي الذي وصَفْناه في جزءٍ سابق إلا خطوة في اتجاهٍ ما، ومجموعةٌ ثانوية من مجموعةٍ مفتوحة أكبر من الممارَسات التي تقلِّل التدخل بين أولويات التعاون والإبداع المعتمِدة بعضها على البعض الآخر بشكلٍ متبادَل. هناك بعض طرق تنظيم المجتمع والتعليم تحبِّذ التحرك في هذا الاتجاه بينما تثبِّطه طرقٌ أخرى. ومن خلال المساعدة على التوفيق بين مقتضيات التعاون والإبداع، فهي تمكِّن المجتمعات أيضًا من تغيير اتجاهها ـ وفقًا للظروف ـ بين التوجهات المختلفة المؤسَّساتية وتلك المتعلقة بالسياسات، مع قَدْرٍ مماثلٍ من النجاح. ليس هناك مجتمعٌ محكوم عليه بالبقاء في مستواه الحالي من الوضع غير المواتي نسبيًّا، والمتمثِّل في امتلاك ونَشْر القدرات التي تُتيحُها مثل هذه الممارَسات. من الممكِن أن يقوم كلُّ مجتمعٍ بإعادة تنظيم نفسه لإتقانها بصورةٍ أكثر اكتمالًا، وكذلك جَنْي فوائدها.

ويضيف "في عصر الديمقراطية والمشاركة السلمية أو الحربية بين كل أجزاء الإنسانية، فإن الفلسفة، مثلها في ذلك مثل الشعر والسياسة، يجب أن تكون نبوئية prophetic. يمثِّل محتوى نبوءتها رؤيةً لكيفَ يُمكِننا أن نستجيب، الآن وبالأدوات المتوافرة لدينا، لتجربة ضَياعنا في فراغٍ يتكوَّن من الزمن، إلى بدايته ونهايته التي لا نستطيع رؤيتَها، الذي لا يُبالي بمخاوفنا. إنها نبوءةٌ تتعلَّق بطريقِ تحرُّرنا وارتقائنا في عالَم الزمن، الذي نبقى فيه دائمًا مرتبطين بالموت ومحرومين إلى الأبد من التبصُّر بالطبيعة المطلَقة للحقيقة. ليس هناك فيلسوفٌ أو تقليدٌ فلسفي ظهَر خلال القرنَين الأخيرَين وكانت لديه سيطرةٌ احتكارية على هذه النبوءة؛ فهي موجودةٌ في كل مكان. عند استرجاع وتطوير هذه الرؤية، ليس هناك مكانٌ واحد للبدء منه؛ فهناك العديد من الأماكن. ولكَوني مخلصًا لمبدأ هذا الكتاب، فسأهتَم بنقطة المغادرة بدرجةٍ أقلَّ من اهتمامي بوجود مثل هذه النقطة؛ بأن نكتسبَ الوضوحَ فيما يتعلَّق بالاتجاه؛ وبمعرفتنا لكلٍّ من نقطة البداية والاتِّجاه، سنكونُ قادرينَ على تحديد الخطوات المقبلة.

ويقول أونجر "نحن نُواجِه تناقُضًا مزدوجًا في بناء مثل هذا النظام العالمي؛ فمن ناحية، نحن نحتاج إلى الاختلاف من أجل التماثُل. إن تطويرَ إنسانيةٍ مشتركة يتطلب تقوية، وليس إضعاف التجارب الوطنية، ودون الوطنية، وفوق الوطنية المتباعدة. إن الخطر الذي يجب أن نخشاه أكثر من غيره ليس الاختلاف الحقيقي، المفتوح للتجريب والمساومة، بل الرغبة العاجزة والغاضبة في الاختلاف في مواجهة اضمحلال الاختلاف الفعلي بين الأمم. ومع اقتراب الأمم من أن تكون متشابهةً في التنظيم والتجربة، فقد تكره بعضها البعض لدرجة أكبر بسبب الاختلاف الذي ترغبه والاختلاف الذي فقدَته؛ وبالتالي فإن منحَها أدوات الأصالة الجماعية يمثِّل إحدى أكبر مصالح الإنسانية. ومن الناحية الأخرى، فنحن نحتاج إلى التماثل من أجل الاختلاف. إن القدرة على صنع الاختلاف على أساس حقوق الفرد والتمكين الديمقراطي، وليس على أساس التقاليد المتحجرة ـ فصُنع الاختلافات التي نخلُقها يهمُّ أكثر من تلك التي نرثُها ـ قد تتطلب من المجتمعات المعاصرة عبور بوابةٍ مشتركةٍ من الإبداعات المدقرِطة democratizing والتجريبية في تنظيم السياسة، والاقتصاد، والمجتمعات المدنية. وفي كل من مناحي الحياة الاجتماعية، نجد في العالم الآن مدًى ضيقًا من الخيارات المؤسَّساتية المتوافرة ـ وهي طرقٌ مختلفة لتنظيم الدولة أو الشركة، أو العائلة، أو المدرسة. وهذه الذخيرة المؤسَّساتية هي قَدَر المجتمعات المعاصرة؛ ويعني تكبير هذه الذخيرة أن نثورَ ضد القَدَر".

ويلفت إلى أنه لا يمكِن تحقيق ديمقراطيةٍ متعمِّقة ضمن عولمةٍ مُعادٍ توجيهُها إذا واصَلْنا الاعتقادَ بأن خلق الاختلاف هو المشكلة وليس الحل، أو القبول بفكرة أن السياسة الصغيرة تُساعِد الناس الكبار. ولا يمكِننا، على أي حال، أن نصل إليها من خلال التفاني النظري لبرنامجٍ شامل للإصلاح المؤسَّساتي. ولا يمكِننا أن نحقِّقه سوى من خلال إعادة التفسير المقنعة للمصالح المُعترَف بها. إن المصلحة الأقوى في كل أنحاء العالم، في أفقر البلدان وكذلك في تلك الغنية، هي مصلحة الحشود الهائلة من الناس الذين يتطلعون إلى قَدْرٍ متواضعٍ من الازدهار والاستقلالية، والذين يحلُمون بكُلٍّ من عملٍ صغير وذاتٍ أكبر. هل يمكِن إعادة توجيه هذا الاشتياق عن طريق تحويل أدواته المعتادة في مؤسَّسات المجتمع وخُرافات الثقافة؟ يمثِّل هذا في كل مكانٍ السؤال الأهم الذي يُواجِه التقدُّميين. ليس بوسعهم الإجابة عن هذا السؤال بالإيجاب إذا كانوا يُصِرُّون على دمج الراديكالية النظرية حول إعادة التوزيع مع المحافظة conservatism العملية فيما يتعلق بالمؤسَّسات. ولا يمكِنهم الإجابة عنه بالإيجاب إلا بواسطة اكتشاف كيفية إعادة تنظيم السياق العملي لحياتنا بطرقٍ من شأنها أن تفتح ترتيبات وافتراضات المجتمع على التحدي والتغيير من دون مساعدةٍ من الأزمات والكوارث. ليست القضية المشتركة بين التجريبية الديمقراطية والبراغماتية المردكلة هي أنسنة المجتمع؛ بل هي تأليه الإنسانية ـ في حياة الفرد، وكذلك في تاريخ النوع.

ويوضح أونجر أن الديمقراطية تمنَح الرجال العاديين والنساء العاديَّات، القدرةَ على إعادة تخيُّل وإعادة صُنع النظام الاجتماعي. ولهذا ففي ظل الديمقراطية، تتحدث النبوءة بصوتٍ أعلى من الذاكرة؛ ولهذا يكتَشِف الديمقراطيون أن جذورَ أي إنسانٍ تكمُن في المستقبل وليس في الماضي. في أي نظامٍ ديمقراطي، يجبُ أن تتحدَّث المدرَسة لأجل المستقبل، وليس نيابةً عن الدولة أو الأسرة، بتزويد الطفل بالأدوات التي تُمكِّنه من إنقاذ نفسه من تحيُّزات أسرته، ومصالحِ الطبقة التي ينتَمي إليها، وأوهامِ عصره. يُمكِن لهذه الأفكار أن تنوِّر جهودَنا لتثبيتِ الطبيعةِ بداخلنا، من خلال الهندسة الوراثية. لا شيء يجب أن يمنعَنا من التلاعُب ببِنْيتنا الطبيعية، المكتوبة في الشفرة الجينية، لتفادي الأمراض والتشوُّهات. أما المكان الذي علينا أن نتوقَّف فيه فهو النقطة التي يَسْعى فيها الحاضر لتشكيل بشرٍ سيُنتِجون مستقبلًا مرسومًا على صورته هو. "دعِ الموتى يَدفِنوا الموتى" هو ما يجب أن يردَّ به المستقبل، عَبْر أصواتِنا، على الحاضر. إن ترك المستقبل يذهب طليقًا يُظهِر أكثر من القوَّة؛ فهو يُظهِر الحكمة.

ويلاحظ أنه في المنافسة العالمية والمحاكاة المتعلقَين بالزمن الحاضر، تخضع الثقافات الوطنية المتميِّزة للخلط والتفريغ من محتواها. وفي صراع الثقافات، فإن تضاؤل الاختلاف الفعلي يُثير بدرجةٍ أكبر تلك الإرادة الغاضبة للاختلاف. وعند تفريغها من محتواها، لا يُمكِن أن تكون الثقافاتُ الوطنية موضوعاتٍ للمساومة شبه المتعمدة، كما كانت عندما عاشت كطرقٍ مُفصلة ومألوفة للحياة. هناك القليل فالقليل للمساومة عليه، بل مجرد توكيدٍ للاختلاف النابع من الإرادة، الذي أصبح أكثر سُمِّيةً بسبب حرمانه من المحتوى الملموس. لكن الحل، على أي حال، ليس المحافظة على هذه التقاليد والحضارات كمستحثاتٍ محفوظة تحت زجاج، بل هو استبدال خيالات الإرادة الجماعية للاختلاف بالمؤسَّسات والممارَسات التي تُقوِّي المقدرة الجماعية على خلقِ اختلافاتٍ حقيقية؛ الأشكال المتميِّزة للحياة، المُدركة عَبْر النُّظم المؤسَّساتية المختلفة. إنه إعادة تفسير دَوْر الأمم في عالم من الديمقراطيات كضربٍ من التخصُّص الأخلاقي ضمنَ الإنسانية؛ تطوير قُدراتِنا في اتجاهاتٍ مختلفة وتحقيق مجتمعٍ ديمقراطي بواسطة مجموعاتٍ بديلة من الترتيبات، وهو الامتثال لقانون الروح، والذي لا يمكِنُنا بموجبه أن نمتلك سوى ما نُعيد اختراعه، ولا نُعيد اختراع سوى ما نتخلى عنه. ويخلص أونجر إن توليفة التغيُّرَين الأخلاقي والسياسي تكسر القالب المتعلق بالتاريخ العالمي للفلسفة، وهذان التغيُّران، عند اجتماعهما معًا، يهجران الميتافيزيقيا إلى روتيناتهما، المعدَّلة بالكاد بفعل الاكتشافات العلمية. لكنهما يغيِّران أفكارنا حول أنفسنا إلى الأبد. ما الاستنتاج الذي يُمكِننا استخلاصُه من هذا البحث في الشبكة العالمية للفلسفة؟ إنه يتمثَّل في أننا لا نستطيع أن نُصبِح اللَّه، لكن بوسعنا أن نصيرَ أكثَر ربانية.