عطش للحرية يصل لدرجة الأنانية في 'حليب سوفيتي'
تدور أحداث رواية نورا إكستينا "حليب سوفيتي" حول حياة طبيبة واعدة تخسر كل شيء بسبب معارضتها للنظام السوفييتي الشمولي: حياتها المهنية، وحبها للحياة، وحتى غريزة الأمومة لديها لإرضاع طفلتها. "لم أكن أريد أن أعيش ولم أكن أريدها أن تشرب حليبا من أم لا تريد أن تعيش". ومع مرور سنوات النضال، أصبحت ابنتها البالغة شريان حياتها، حيث تحاول مساعدة والدتها وإخراجها من حالة الاكتئاب وفي ذات الوقت تعلم نفسها كيفية البقاء على قيد الحياة تحت الحكم السوفيتي القمعي.
تغطي الرواية التي ترجمها ضحوك رقية الفترة من نهاية الحرب العالمية الثانية حتى نهاية الثمانينيات من القرن العشرين، وتحكي مصائر ثلاثة أجيال من النساء "الجدة والأم والابنة" في لاتفيا التي كانت تحت الاحتلال السوفييتي في الفترة من 1945 إلى 1989. إنها قصة سيرة ذاتية شخصية للغاية عن النساء اللاتي يجب أن يكن قادرات على البقاء وتربية الأطفال والحماية وعدم خيانة مُثُلهن الإنسانية والروحية. الأمر الذي يثير العديد من الرؤى المتعلقة بالقيم العائلية وأهميتها، وكذلك مدى ارتباط كل شيء بالتاريخي وتأثيره.
تنسج إكستينا من مصائر الأجيال الثلاثة ـ الجدة والأم والابنة - جديلة محكمة، وذلك عبر أحداث مخزنة في ذاكرة العائلات والتجارب والتجارب اللاتفية.. لنرى تأثر هذا الثلاثي الأنثوي وحنانه المتزامنين يتردد صداهما بعمق في كل من التفاصيل الواقعية والرموز الشعرية. ونكون أمام رسالة مليئة بالعاطفة تتجلى فيها العلاقات المتبادلة، والرابطة التي لا تنفصم، ونطاق واسع من المشاعر - من اليأس والكراهية إلى الحب غير المشروط. إذ بدا في مرحلة ما أن الرواية تبحث عن إجابة للسؤال القديم والقلق بشأن ما يجب أن تكون عليه الأم الصالحة.
يتخلل الرواية التي صدرت عن دار ممدوح عدوان عملية تنازل - عن الزوج والأب، عن الأحلام والخطط، عن العمل والآراء، عن الأصدقاء والأحباء. في هذا الطريق المؤلم للنساء الثلاثة، يكون الدافع وراء المغفرة بينهن قويًا جدًا. لقد كانت مهمة الابنة المستمرة منذ الصغر أن تحافظ على حياة والدتها التي تعمدت حرمانها من الحليب حتى لا ترث ألمها ويأسها. إنها حكاية مؤثرة ومؤلمة عن علاقة غير تقليدية بين أم وابنتها وبلد يخضع لتغيير اجتماعي جذري مع استعادة لاتفيا لاستقلالها.
تخلط الرواية العام بالخاص، والتاريخي بالشخصي، والسياسي بالعائلي. حيث تصور المحظورات الأيديولوجية والإدارية التي كان على أي شخصية وطنية نشطة ومتمردة مواجهتها. من هنا تتناوبها وجهات نظر الأم وابنتها مجهولتي الاسم. كلتاهما يكافح لإيجاد مكانة في المجتمع اللاتفي الرازح تحت الاستعمار السوفييتي (1945 ـ 1989). الأم طبيبة ماهرة متخصصة في الخصوبة الأنثوية، لكن الحياة القمعية بشكل خانق في ظل النظام الشيوعي وقتل زوجها على يد جنود هذا النظام يصيبها بالاكتئاب. أما الابنة فتكافح من أجل النمو ورعاية فكرها المتطور في مواجهة النظام القمعي العسكري.
يتم إنشاء سرد الرواية بالتوازي من قبل المرأتين - الأم والابنة - ولكن الثالثة - والدة الأم - تلعب أيضًا دورًا مهمًا. لا يتم تسمية أي منهن بالاسم،. يتم فصل رسائل المرأتين بشكل غير واضح وأحيانًا بشكل غير محسوس، لكن لكل منها صوتها الخاصة الذي يمكن تمييزه بسهولة. الشخصيات الذكورية أكثر هامشية، فزوج الجدة، الذي يعود من سيبيريا محطما بسبب المنفى، وغير قادر على التكيف مع الحياة في لاتفيا، يموت بسرعة. الجدة، التي اعتقدت أن زوجها لن يعود من سيبيريا، التقت برجل يُدعى في الرواية "زوج الأم"، يقوم بدعم حياة جميع النساء في الأسرة. شخصية الأب تغيب عقب حادثة قتله على يد الروس، وتتهرب الأم من ذكرياتها عن الحمل بابنتها. ولا يتم التطرق لسؤال الأب مستقبلا، ولا تبدي الابنة رغبة في التعرف على أي ذكري تخص والدها. كما أن الأم لم تتخذ رجلا بجانبها طوال حياتها بعد ذلك.
وهكذا، يتم سرد نفس القصة من وجهة نظر الأم والابنة، مما يعطي وجهات نظر مختلفة ويسمح بفهم أفضل لمشاعر الشخصيتين الرئيسيتين، والعلاقات المتبادلة، والعلاقات مع نفسيهما ومع من حولهما. الابنة تصف بالتفصيل وعاطفيًا منزل الأسرة، والدتها وجدتها والدة والدتها، التي كانت مرتبطة بها.
لقد وفّر السياق التاريخي للرواية الأرضية التي تتناول فيها الكاتبة قصتها شبه الشخصية وفي نفس الوقت قصة أوسع عن تجارب المرأة خلال الاحتلال السوفييتي العبثي والمأساوي، عن النظام السياسي الذي يدمر الأسرة، يدمر الناس، يدمر الأحلام، ويختبر قدرة الجميع وقدرتهم على البقاء في أي ظروف. كما تكشف ما تمليه الظروف الخارجية لتسوية الفردية، لكنها في الوقت نفسه تثبت التعطش للحرية الشخصية، الذي يصل أحياناً إلى الأنانية. ويجدر بنا أن نشير إلى استعارة القفص التي جاء ذكره في بداية الرواية الذي استخدم كرمز يوفر ارتباطات بصرية ويتضمن طبقة دلالية كثيفة، تربط الابنة بالحياة الخاصة للأم والقيود المهنية والادارية في النظام الشمولي. كما تستعرض الرواية التفكيك التدريجي لهذه الآليات، لتنتهي الرواية عام 1989 بسقوط جدار برلين وهبوب رياح استقلال لم تكن معروفة من قبل في الأجواء.
تقول إكستينا في واحد من حواراتها حول الرواية "شجعت الرواية الكثيرين على رواية قصصهم. حول ما حدث مع أسرهم. كما شجعت الكثيرين على التفكير في مواقفهم تجاه والديهم. أعتقد أن أسوأ شيء يمكن أن يفعله الإنسان في حياته هو إلقاء اللوم على والديه بسبب فشله. في الكتاب، كل شيء هو العكس - نرى أن الفتاة الصغيرة هي أم أكثر من كونها طفلة لأمها. لكنها تحب ذلك، وتريد استعادة والدتها، وتريد أن تغرس فيها عطش الحياة.. الوالدان هما من نلنا من خلالهما هبة الحياة هذه. أما كيفية تعاملنا مع الأمر فهي قصة أخرى، نحن جميعًا بشر، ولسنا ملائكة بدون حياة يومية.
مقتطف الرواية
لا أتذكر يوم الخامس عشر من شهر تشرين الأول/ أكتوبر من عام 1969. ثمة أناس يقسمون أنهم يتذكرون ولادتهم. أما أنا، فلا. على الأرجح، كنت متموضعة بشكل مناسب في رحم أمي؛ لأن الولادة كانت طبيعية؛ إذ لم تستغرق وقتا طويلا جدا ولا قصيرا جدا حتى الطلق الأخير الذي تواتر كل خمس دقائق. كانت أمي في الخامسة والعشرين من عمرها: شابة، وبصحة جيدة، لكن صحتها العقلية كما عرفت لاحقا لم تكن على ما يرام.
أتذكر أو أستطيع أن أتخيل على الأقل هدوءىتشرين الأول/ أكتوبر الذهبي اللطيف، يتخلله القلق من فترة الظلام الطويلة. إنه بمثابة شهر حدودي في مناخ خط العرض هذا على الأقل، حيث تتبدل الفصول ببطء والخريف يخلي مكانه تدريجيا للشتاء.
ربما كانت أوراق الأشجار تتساقط، وحرقتها في الفناء ناطورة بنايتنا سيئة المزاج. كانت قد جاءت من قيرغيزستان مع عائلتها، وخصصت لها شقة في بنايتنا في شارع ميكورينا 20. جلست طفلتها ذات العيون الآسيوية الضيقة على حافة النافذة، تلتهم حساء البورش، وبفرح تدعو الجميع إلى منزلهم. فخامة ما قبل الحرب عدلت في الشقة؛ لتعكس فكرة المرأة القيرغيزية عن الجمال. لقد هجر القاطنون السابقون، وهم عائلة يهودية، الشقة في العام 1941، حين أنقذهم الترحيل إلى سيبيريا من الاضطرار إلى وضع النجوم الصفراء على ظهورهم في ريغا، التي احتلها النازيون بعد عدة أشهر. حاليا، غطى السجاد السميك الأرضية الخشبية، وامتلأت الصحون الخزفية ببذور عباد الشمس، وانتصب المباصق على عطاء البيانو. لقد امتزجت الأزمان والأديان. وهكذا كان الحال في المبنى كله، عندما حملت إلأى الشقة الثالثة عشرة، مقمطة بعناية مثل شرنقة، كما جرت العادة في تلك الأوقات.
أحلم بين الحين والآخر حلما، أصحو منه وأنا أشعر بالغثيان. أتشبث فيه بصدر أمي وأحاول أن أرضع منه ويكون الصدر ضخما ومليئا بالحليب، لكني لا أستطيع استخراج قطرة واحدة، لا أرى أمي، وهي لا تساعدني، وأترك وحدي أصارع ثديها، ثم أنجح فجأة، ويتدفق في فمي سائل مر وكريه، وأستيقظ فزعة.
كانت أمي طبيبة شابة، لعلها عرفت أن حليبها سوف يضر طفلتها أكثر مما ينفعها؛ وإلا كيف يفسر اختفاؤها مدة خمسة أيام، ثم عادت بثديين ملتهبين وتوقف حليبها عن التدفق.
أرضعتني جدتي يائسة شاي البابونج مدة يومين. ثم ذهبت بعد ذلك إلى عيادة الرضع؛ فوبخها باللغة الروسية الطبيب المرتاب، وشتم أمي على تركها إياي، لكنه كتب لها في نهاية الأمر ورقة تمكنها من تلقي حليب الأطفال من أجلي.
لم أتمكن خلال العشرين عاما التي عشتها مع أمي من سؤالها عن سبب حرماني من ثديها. لم أتمكن لأنني لم أكن أعرف بعد، أنها فعلت ذلك، وكان سيعتبر سؤالا في غير محله؛ لأنه كما اتضح فيما بعد أني أنا من سيؤدي دور الأم.
***
لا أتذكر يوم الثاني والعشرين من شهر تشرين الأول/ أكتوبر من عام 1944، لكني أستطيع إعادة تركيبه: لقد تحررت ريغا من النازيين وحطمت القنابل نوافذ جناح التوليد، الطقس رطب وبارد، وبيأس تلف النساء اللواتي ولدن للتو أنفسهن بشراشفهن المدماة، الممرضات والأطباء المنهكون يكفنون المواليد الأموات، يشربون وهم يعملون، يجتاح المستشفى وباء، يسميه الجميع حمى التيفوئيد الخطيرة، أصوات عويل وصفير قنابل في الجو، وروائح الاحتراق تتسرب من النوافذ. هربتني والدتي من الجناح وهي تضمني بقوة إلى صدرها وترش حليبها على أنفي؛ فيسيل قيد وحليب ودم من أنفي الصغير؛ فأتقيأ وأتنفس وأتقيأ وأتنفس.