دِنماركوفا 'تساهم في تاريخ السعادة' بمرثية نسائية للحضارة الإنسانية

الرواية تحكي قصة أربع نساء متعلمات وشجاعات يتعقبن تعقب رجالا استحلوا أجساد النساء لمعاقبتهم دون رحمة مسلط الضوء على الشعور بالقلق بشأن نهاية الحضارة.

تبدو رواية "مساهمة في تاريخ السعادة" للأديبة والمؤرخة الأدبية والسيناريست التشيكية رادكا دِنماركوفا (1968ـ ) وكأنها قصة بوليسية، حيث أربع نساء، متعلمات، وشجاعات، ومكرسات لتحقيق العدالة على طريقتهن الخاصة، وذلك من خلال تعقب الرجال الذين استحلوا أجساد النساء ومعافبتهم دون رحمة. لكنها في الحقيقة تسلط الضوء على الشعور بالقلق بشأن نهاية الحضارة. حيث تحاول الاجابة على السؤال الملح: كم من العنف والحروب يجب علينا أن ننتظر قبل أن تصبح كل هذه المحنة الإنسانية إنسانية في النهاية؟ وتقدم حكاية عن ذكرى ومصير أجساد النساء خاصة، أجساد تتعرض لجروح قاسية، وتغتصب، ومع ذلك تشعر بالحاجة إلى الحب واللمسات الهشة، لأن "الأجساد لا تكذب وذاكرتها لا تخدع". يلعب الدور في الرواية شخصيات حرة تعتبر اللطف أقوى من قوانين الحكام - طيور السنونو النقيقة. 

الرواية التي ترجمها د.خالد البلتاجي وصدرت هذا الأسبوع عن دار صفصافة تستند حبكتها إلى قصة عثور الشرطة على جثة رجل أعمال مشنوق في بيته، اتهمته الشرطة من قبل دون دليل بأنه تحرش ببعض السيدات، لكن شرطيا يتمتع بطابع إنساني متعاطف يشكك في انتحاره ويشتبه في قتله ووجود ما هو يشي بقتله. وفي الوقت نفسه، يكشف تحقيقه خيوط شبكة أوسع بكثير - "مؤامرة" للنساء المسنات اللاتي، على غرار "الصياد النازي" سيمون فيزنثال، يطاردن الرجال الذين يرتكبون العنف الجنسي ضد النساء. من وجهة نظرهم، يعتبر مثل هذا العنف جريمة ضد الإنسانية، ولكن بما أن حضارتنا لا تضعه على نفس مستوى جرائم الشمولية أو القتل الجماعي أو الإرهاب، فقد قررن إصلاح العالم بقواهم الخاصة.

وفي خلفية الرواية تنمو أكثر فأكثر قصة أكثر عمومية عن "الأوقات القاسية" - قصة جميع ضحايا العنف الجنسي العشوائيين، بداية الحرب، تجلي رموز ثقافية مختلفة للحضارات. يرتبط كل ذلك رمزيًا بفكرة السنونو وقدرته على التصرف بطريقة تحمي القطيع بأكمله أثناء الطيران. ومن الواضح أن المجتمع الحديث يفتقر إلى مثل هذه الغريزة.

يشكل العنف ضد النساء والأطفال أيضًا موضوعًا رئيسيًا آخر في الرواية: الصراع بين عالم الذكر والأنثى، والذي يُنظر إليه على أنه معركة دائمة تُشن بكل الوسائل المتاحة. هنا، يعمل الأطفال كرهائن، بينما في نفس الوقت يتعلمون بالفعل طرق القتال على هذا الجانب أو الجانب الآخر من الحاجز. باختصار، ترى الروائية أن العالم المعاصر مكان غير سعيد للعيش فيه. لقد عاملت الحضارة الحديثة الحياة وغلفتها بملصقات كلمات مزخرفة ومواقف مسبقة الصنع.

إن الروائية تعيد الانتباه إلى الجسد والجسدية بشكل يكاد يكون مناشدة. راويها مفتون بكلمة "فقط" بمعنى لا أكثر: "مجرد لغة الأجساد" إنها تدور حول العودة إلى الجوهر، وقطع رؤية العالم بمرشحات تجعل العنف يحدث دائمًا في مكان آخر، ونحن نتعرف على ذلك عن طريق الإشاعات. إن الكشف عن ذنب الكلمات هو، بطبيعة الحال، أمر متناقض إلى حد ما في الموقف الذي يقول فيه ذلك برواية - أي صورة للعالم مكونة من كلمات. ربما هذا هو السبب وراء احتلال موضوعات الموسيقى كتعبير عن المشاعر بدون ثقل لفظي، أو اليوغا كقدرة متجددة على فهم جسد المرء، وهو ما يحتل مكانة بارزة في الرواية.

وتنعكس العودة إلى الجوهر أيضًا في طريقة كتابة الروائية. فالرواية تتنفس أجواء الأيام الخوالي عندما كانت الكتابة تتم "باليد". يتم نحت كل جملة، ويتم استخدام كل كلمة بهدف إظهار أعمق المعاني الممكنة. تنكشف التقلبات والتحولات في الحبكة ببطء، ويبقى الراوي مع الشخصيات ويضيف ماضيهم تدريجيًا، مما يمنحهم الدافع لما وكيف يفعلون في الوقت الحاضر. إن اللغة والأسلوب الملونين - بالإضافة إلى الزخارف الجزئية التي تربط بشكل متزايد جزر القصة المتناثرة على ما يبدو بالفسيفساء الناتجة - تقدم للقارئ تجارب ذواقة لم يعد الأدب التشيكي المعاصر قادرًا على تقديمها.

الانطباع بأن كل شيء يتطور ببطء، ولكن الوتيرة ليست مملة، يتم تعزيزه أيضًا من خلال اختيار المضارع. يبدو أن القصة تتكشف أمام أعيننا. يتم عرض أحداثها على الهواء مباشرة، وفي الوقت نفسه يتم تحليلها على الفور باستخدام "قلم رصاص إلكتروني". وفي الوقت نفسه، فهي تبعث على التوتر وتخفي غموضها بفضل الطريقة التي يحافظ بها السرد على مسافة.

يبقى أن نشير إلى أن الرواية لا علاقة لها بالنسوية. ولا تقدم حلاً يتمثل في استبدال شيء مذكر بشيء أنثوي من أجل استعادة التوازن الأصلي. أيضا ليست رواية ثورية، بل رواية رثائية نسائية للحضارة الإنسانية. ليس هناك عودة إلى الوراء، فقد فازت القدرة على لف أي شيء بالصوف القطني القانوني على المسؤولية الفردية عن أفعال الفرد. وكما تقول إحدى الشخصيات عند توديعها، "لم يعد هذا عالمنا بعد الآن".

توطئة الرواية

رأس تضرِب الحائط، وجسد تحت حوافر الخيل. كثيرة هي الأشياء المخبَّأة تحت الروتين والطقوس. جلسا معًا في المقهى عدة مرات، تجوَّلا معًا بجوار نهرٍ عَكِر. جلَسَا على دكَّةٍ بذهنٍ شارد. تناوَلَا العشاء معًا. حضَرَا معًا حفلًا موسيقيًّا. تعانَقَت أيديهما، وارتاحت على كتفيهما، واستدارت حول خصريهما. تعانقا، وتذوَّقا شهد الرضاب. ذهبا معًا لأول مرة إلى السينما لمشاهدة الفيلم الإنجليزي القديم، "الرباط الحميم". والآن يجلسان في المقهى، ويظنان أنهما يتحدثان عن الفيلم القديم. يتحدثان عن نفسيهما مختبئَيْن خلف شخصيات الفيلم من نساء ورجال تتداخل؛ ربيع عصيٌّ على تقلُّبات فصول السنة. غلاية شاي مُقدَّسة تُبَقبِق رويدًا، وقلباهما يمتلئان. يلمسان شغاف قلبيهما. ينسيان الزمن، وينساهما الزمن. تفوتهما آخر حافلة.

هبط الليل، ولا أثر لأي سائق. تتوقَّف لهما حافلة كادت تخلو من الركاب، تتوقَّف لهما طوعًا. يصعد إليها القلبان العامران. يدفعان للسائق بامتنان، فيبتسم لهما. لا ينتبهان إلى نوافذ الحافلة المعتمة، إلى المستقبل المظلم. يمشيان في ممرِّ الحافلة ناحية المقاعد الخلفية. تنفصل الحافلة عن الرصيف، ويدوس السائق على بِدَّال البنزين.

تتعانق أيديهما وهما يتحدثان عن الفيلم. حديث هادئ مع وقفات بين الكلمات، وأثناء الكلمات. يقف شابٌّ كان يجلس على مقعد خلف السائق، يمسك عصاة معدنية.

يتوجه ناحيتهما. ناحية هذين الاثنين الجالسين معًا في السينما لأول مرة، وتتعانق أيديهما بقوة، لا يعرفان أن جسديهما لن يتلامسا أبدًا، وأن عينيهما ولا كلماتهما لن تلتقي أبدًا. في الحافلة يقف راكبان آخران، جسدان شابَّان قويان يسدَّان الممر. ابتسامات حارَّة عذبة على وجوه الجميع. ودود مُشْعِرة. هيَّا بنا نستمع إلى أنغامها.

 كل شيء يبدو من بعيد بسيطًا للغاية. وذاكرة الأجساد لا تكذب. تتطاير العصافير في الهواء، منذ قرون وهي تحكي عن أجساد البشر من تحتها، على الأرض، حيث يتضاءل مخزون الثقة، وتتعاظم "الأنا" أثناء الطيران مثل توليب أصفر، تقتفي أثر بعضها البعض في صالة المرايا. أتحتاج العصافير إلى الشجاعة؟ العصافير تحيا على سجيَّتها، ولا تستطيع غير ذلك، وهي في الوقت نفسه شديدة الهشاشة.

تحوم الذيول المنبسطة فوق جبل يسمُّونه "بترشين". جبل كروي، يتناثر عليه العشاق أزواجًا. يقع الجبل في وسط المدينة القديمة؛ لذلك هو مكان رومانسي. كثيرة هي، يا حبيبي، الأشياء المخبَّأة تحت الروتين والطقوس.

حين ينزل العشاق من على الجبل يمرون ببيت برتقالي اللون، نوافذه بيضاء، وسقفه من قراميد حمراء. البيت قابع عند سفح جبل بترشين، ولا أثر لدخان يتصاعد من المدفأة، بيت رابض بخشوع وبلا دخان، يصلِّي بخشوع وجبينه مستند على الجبل، ومصباح هزيل يضيء أمامه أثناء الليل. يعلوه مصباح منتصب، ويرفع رأسه بسعادة. وكأن البيت مصباح آخر ألقته خنفساء صغيرة عنيدة من السماوات.

ينصت الناس إلى موسيقى بجوار نافذة مفتوحة في شقق تطل على أرض خضراء، ويبطئ العشاق خطواتهم، ويرهفون أسماعهم ليستمعوا.

نوافذ لامعة لا تغطيها ستائر. يتوقف على الحصى كلب أسود، شريد، جائع، هزيل، ثائر، والكلب الهزيل وصمة عار لصاحبه. عرائس وعريس خلف حوائط البيت الصغير متشابهة، دُمى تتحرك مثل بعضها البعض، ملابسها نسخة من بعضها البعض. لهم عينان، وأذنان، وقدمان، ويدان، وفم واحد، ورأس واحدة، وجسد واحد، يمشون على كعوبهم، فيصاب منهم الكلب بالارتباك.

وجوه أربع عرائس، متصدِّعة، لحسن الحظ، مَطليَّة بلون مصقول، ووجه العريس بلون أزرق لامع.

يتقشر اللون ويتساقط من على الوجوه.

يزقزق الفجر عند البوابة، والكلب قابع.

تنفرج الحوائط البرتقالية، وتبدأ الكوميديا. يرى الكلب مسرح العرائس. يرى بيتًا صغيرًا لأربع عرائس صفراء، وظِلَّ عريس أزرق. الكلب جالس، يُدلِّي لسانه. يبتلع الأوراق المتساقطة. ينتظر عَظمة جرداء تُلْقَى له من إحدى النوافذ. لا ينبح، ولا يعضُّ مثل الزمن، إممم.

تتطاير العصافير، وتغرد. تلقي نِكاتًا عن الرجال والنساء. الجنس مصدر السعادة. نِكات تتردد على مدى قرون، والعصافير تجمع مساهمات لصالح تاريخ السعادة. تجد نفسها في مناطق نزاعات لم تعرف السلام يومًا، اتفاق ضمني وأرض لن تتحرر أبدًا، أرض يحتلها الجميع، ويفعلون فيها ما يشاؤون. أرض محروثة، سوداء فسيحة، وتربة خصبة اسمها الجسد الضعيف. تقديم شكوى جنائية ضد منتصر أمر يثير السخرية.

العصافير تطير، حكمتها تأتي من شكوكها القوية "فحسب"، وستظلُّ وفية لطبيعتها مدى الحياة.

مقتطف من الرواية

يتفاخر جبل بترشين يوم الأحد بضوء هجين. ضوء المصابيح البنفسجية وشرائط أضواء المتاهة، ضوء فاتر لا يتبدَّل. هنا لا يقبع مساء خريفي، شمس الخريف لا تطلع، هنا لا يوجد حدٌّ فاصل، هنا لا يدخل النهار في الليل، ولا الليل في النهار. أقدار الأجساد كما في الأفلام تعلو من الصفحات المكتوبة، أجساد تصطدم بأقدارها التي لمست أجسادًا أخرى. هي في هذه اللحظة مَحميَّة بملصقات البطولة العسكرية، بالتبعية للقُوَى المنتصرة، محمية بالحالة الحربية التي لم تقف أبدًا أمام القضاء، ولم تُحاكَم يومًا، أجساد كانت يومًا وستظل إلى الأبد قصصًا مطمورةً تحت علامات زائد أو ناقص. في إحدى الحروب كانت أسماء أعضاء الجيش الألماني، والجيش الأحمر، والجيش الياباني، وأسماء بولندية، وفرنسية، وتشيكية، وسلوفاكية، ومجرية، ونمساوية، وإيطالية، وانجليزية، وأمريكية، وإسبانية، واسترالية، و...، و...، و...

هذه النساء لم تَطَلها عدالة، ولا تعويض، ولا اعتذار، ولا حتى تعاطُف. فمَن الذي يعوِّض أجسادًا، أجسادًا تعرَّضَت لاغتصاب جماعي من كل رجال العالم، اتَّحدوا! لا تراجُع، مَن الذي يهتم بشأن الفئة الثانية، حين احتفل المنتصرون من كل البلاد، اتحدوا! لا تراجُع! هذه الأجساد داستها جنازير دبابات جيش ضخم، جيش الرجال العالمي، جيش مُبتَهج، ملتحم، متضامن حتى الموت. أسماء الأبطال.

يُمرِّر الشرطي إصبع الأيل على شفتيه. يشعر إبهامه بنعومة شفتي الأرملة الشابة.

شيء لا يحتمل. معسكرات اعتقال سرية، قرَّرَت اليابان منذ عام 1932 حبس الفتيات في مناطق مُحتلَّة من آسيا، وكانت الأجساد تحت تصرُّف الجيش، كان عدد النساء "المحظيات" مائة إلى مائتي ألف، لم يُحصِها أحد أبدًا غير العصافير. كانت غالبيتهم كوريات، أجساد تعرَّضَت للاغتصاب عشر مرات، ثلاثين مرة في اليوم، وحين حاولن الهرب، خضعن للتعذيب، وبقي الانتحار المَهرَبَ الوحيد. بدَّلوا أسماءهنَّ بأسماء يابانية. تَكرَّر اسم يِي أوكي سيون خمس عشر مرة، حين سرقوها من الشارع وحبسوها. كانت أطول الطوابير في عطلات نهاية الأسبوع، وكانت تضطر إلى غسل الواقي الذكري سريعًا، لكنها لم تبتلع السائل المنوي أبدًا، وكان ارتباطه بمذاق ماء الغُسْل قويًّا، أطلقوا عليه حليب الطير. كانت يي أوكي سيون في الرابعة الثمانين حين جلست في سيول أمام السفارة اليابانية، جلست طويلًا لا تتحرَّك، تمثال حي، مثابر، ظاهر، جسد ينتظر استعادة حياته المفقودة، ينشد التعويض، أو الاعتذار، أرادت أن يعثروا على الرجل الياباني الذي أدار بيتًا خلف السلك الشائك ليعاقبوه. لم يقبضوا على أحد ولن يقبضوا عليه. يؤكد الساسة اليابانيون أنَّهنَّ كُنَّ عاهرات، مارسن الدعارة طواعية، ولا علاقة للجيش بالأمر. صارت كلمة عاهرة لُقمةً لَزِجة مخفوقة من زُلال البيض والسُّكَّر، تلتصق بمينا الأسنان، تلوكها الأفواه وهي تبتسم. في التسعينات، وإبان حرب يوغوسلافيا، فتيات ونساء من جنسيات وعقائد أخرى قبضوا عليهن، وضاجعوهن في جماعات.