عمران يونس وتوق لخلق لوحة سورية حديثة
عمران يونس حكاية تشكيلية لا تنتهي، حكاية نسمعها بصرياً دون أن يراوغنا بمنطق إعتيادي، حكاية نتابعها بشغف شهريار لشهرزاد وهي تسرد حكايتها كل ليلة، لكن هنا عند يونس هي المدى للعمق الإنساني الموجع حتى نقي الروح، ولهذا مفردات الموت، الوحش، القتل، اللاإنسان، الخراب، القساوة، جماجم، قبور، هي التي تفرض ذاتها في مشاهده دون الإقتراب من التقليد أو من إعادة حالة أو تجربة أحدهم، فهو يمسك كمخرج مسرحي بخيوط شخصياته، ويغلفها بطاقات يدعهم يحررونها بالإمساك بمفاهيمه دون أي إنغلاق بوصفها تمثل عالمه لا كحقيقة فلسفية من شأنها أن تكشف عن أثره الذي يتقاطع بعناد مع وحشية الإنسان، ولا لإغتنام فرصة لإستعراض مسائل كارثية تستحق الملاحقة في إطار تاريخي ما، بل لإظهار القوة الإفتراضية في قراءة مهاراتهم والمقاربة لتشوهاتهم في معظم تحركاتهم، ولإستشراف كل المعطيات التي تدب في وجوههم وفي نمط الجسد بوصفه المنتشي بالوجع والتكبيل والتجريد، وكشفاً لخصوصية يونس كحكاية تشكيلية سورية يمكن أن يختزل ذاكرته المليئة بالأشياء والحالات وما تؤوّل إليها، فعوالمه محشوة بالسواد غير المألوف في إطار ضرورة التحول لأشيائه الغامضة إلى شرط ما نحو التمركز في وضع غير مريح، مع إمكانية إستبعاد كل تدرجات الكبت خارج اللوحة، فمن شأنه هنا وخدمة لتقنية الكشف والتمثيل لا بد من ثغرة منها يلج يونس ليقترح لنا الحقيقة الحاضرة الغائبة، وبأبجدية مضطهدة يعزف شواهده الكثيرة دون أن يلتفت لخواتيمها المحاورة، فالقمع مستبد على إمتداد التجربة والتهمة لا تسقط بالمحاورات المثيرة والكثيرة، والأقنعة لا تؤطر لوجوه معينة فهي تعري الذاكرة كسجل دلالي وكشف التمثيلات البصرية فيونس ينتمي لوجع التناقضات والمغالطات، وينبض به، فالحياة والموت، الوحشية والكابوس، الحب والحرب، القتل واللا أمان، التعذيب والدم، الجماجم والمقابر، الحلم و...... إلخ هي كلمته ومشهده ونافذته التي منها وعبرها يطلق حركاته المتبلورة بتلك القضايا الساخنة والمدمرة إلى حد كبير، فهو يعتني عناية فائقة لا بإكتشافاته، ولا بتفسير تلك الإكتشافات، بل بسلسلة الإيماءات التي قد تكون مفاتيحه لقلب التراتبية لديه، ورمي النقاب وإزاحته، وبلغة ما يعتني يونس بالألم وبسببه أيضاً، موحداً الحالة للتوصل إلى الكلي والجزئي معاً .
"من أنت أيها الموت" العبارة التي قالها عمران يونس وأرفقها لأعماله المتوجهة من دمشق إلى باريس عام 2014 ليقيم معرضاً هناك، ولتنوب عنه في الحضور وتقول كلمته التي كان سيقولها لو سمحت له حينها الجهات المسؤولة بالمغادرة والسفر، وما لم تصله العبارة تلك، أوصلتها أعماله التي كانت تنزف وجعاً ودماً، فكل ما فيها ودون أن تخضع لقوانين الحدود والدول بل لأنساق تستجيب لحاجيات التجربة وتحولاتها، فهو أودع فيها فكره وتذمره ومجمل مفردات حكايته وآهاتها، دون أي إقصاء للآخر، فالذات والآخر هنا تكشف عن عمق تجربته كإنسان أولاً وكفنان لاحقاً، فقواعد الوجود تجعله ومعه حكايته تتكلم بلغة يصعب تحديد بدايتها، فالأفكار عنده لا تنجلي بل تكون كمجمل أشيائه مرهونة بتصنيف خاص مع وصف الوقائع بسبل حقول معرفية لا تفقد هويته الخاصة .
عمران يونس فنان متمرد، ويعي عمق هذا التمرد، كما يعي الوظيفة الدلالية لها، المجردة منها والمحسوسة، ولهذا فهو لم يقلد تجربة ما أو حالة قابلة للتكرار والتكرير رغم وجود نسائم الآخرين ونسيم عبدلكي ليس الوحيد، لكنه يبدأ من حيث وصل الآخر، فهو لا يجتر أسلوب أحد بل يصوغ فرضياته الخاصة ويخوض التجربة على نحو مغاير وبمغامرة عاشق، يخوض الإختلافية على نحو ما ينطوي عليه إستحقاق مقارباته لحالة تورطه العذب، وهنا يبرز عفويته مع التجنب التام من السقوط في مخاطرة ما، أي على نحو ما بعدم تحييد الزمان والمكان في حكايته، بل يستدعي على نحو دائم تلك الأصالة الداخلية المفقودة منذ سنوات بعيدة والتي تركت حزناً عميقاً على إمتداد عالمه وعالم أعماله التي تمهد الروح بالتطلع إلى إنسانية جديدة .
عمران يونس يتوق لخلق لوحة سورية حديثة مهما كانت اللحظة والظروف، ويرمي جانباً كل التحولات والوقائع ويقبض على خاصية البنية الجديدة، وهو يملك شيفرتا اللهب واللعب بالتعامل مع المعطيات الموجودة والحاضرة بالتزامن مع سعيه لفرض مفهوم الظاهرة / تجاوزاً / دون أن يكبح جماحه في إنبثاق تقاليده الخاصة ذي منحى جديد ومغاير .
الخلاصة إذا صح التعبير فإن عمران يونس هو بحق حكاية تشكيلية سورية لا تنتهي . حكاية تسرد ذاتها، لا كبوابة للذكريات المرة تنفتح على نفسها فحسب، بل كلوحات تتتابع داخل الأمكنة التي تحمل كل معاني الألم، وتعكس كل التمزق في مداها التي تقتضي دلالياً التواجد في كل الجهات، حكاية حملها أكثر من فنان سوري بكامل عناصرها ومفرداتها وخطوطها، لكن ضيق الأفق لديهم جعل عمران يونس يرافقهم، بل ويقيم في أعمالهم، يحكي عنهم، وحده القادر على سردها، فهي سيرته الخاصة، ولهذا يصعب على الآخرين إخفاء ما فيها من خاصيته تلك، وأسلوبه الذي يرافق تلك الحكاية أينما حطت، ومهما كانت هوية الفنان الذي اختلسها، تبقى قامته قصيرة، قد لا يمكننا رؤيته حتى بالمجهر، نعم هناك مؤثرات، الكل يتأثر بالكل، لكن أن تلبس التجربة بكامل ثيابها وتخرج بها مستعرضاً في صالات أوربية، تتباهى بها وبملكيتها، فهذا قمة السخف، لا تدل إلا على اعوجاج وزيف نسقه ومنظومته الفكرية والفنية والإنسانية .