صراع أفكار ورؤى بين صحفية وروائي شهير في 'نظافة القاتل'
"في الأساس، الناس لا يقرؤون؛ أو إذا قرأوا لا يفهمون؛ أو إذا فهموا نسوا". هكذا يعبر بطل رواية "نظافة القاتل" للكاتبة الروائية البلجيكية آميلي نوثومب، عن نفسه، هذه الرواية التي يقبع في ثناياها الكثير من الجنون والكلمات اللاذعة والأفكار المريضة والرؤى الصادمة والاستعمال الكثيف للجنس.. كونها تشكل تشريحا للنفس البشرية بطريقة حادة أحيانا وأحيانا أخرى مضحكة وكاريكاتيرية.. في اندفاعها السردي البسيط المباشرة تفتح نوثومب أبواب النفس الخفية والضيقة لتطل عليها من جوانب متعددة تدهش القارئ وتجبره أحياناً على الضحك والسخرية وأحياناً أخرى الدهشة والأستغراب..
الرواية التي حصلت على عدة جوائز مهمة منها "جائزة رينيه فاليه وجائزة آلان فورنييه" تحولت إلى فيلم سينمائي أخرجه فرانسوا روغييري واقتبسها للمسرح ديديه لانغ، ونقلها للأوبرا دانيال شال. وترجمها عبد الكريم جويطي وصدرت عن المركز الثقافي العربي، وقد اعتبرها النقاد من أهم كتب إميلي نوثومب لأنها تجسد موهبتها في أصفى تجلياتها: القدرة على الغوص في السراديب المظلمة للنفس البشرية، الانفتاح السخي على معارف متعددة (الفلسفة، الأدب، التاريخ، علم النفس..) تشكيل النص بوصفه محفلا لصراع الأفكار والرؤى والأصوات، وكل ذلك بلغة مباشرة، حادة وقاسية أحيانا ودقيقة في رسم مصائر الشخصيات.
تتميز بخصوصية كونها تتألف من حوارات، موضوعها بسيط يستمد تفرده من شخصية غير عادية سواء من حيث الاسم أو من خلال المظهر الجسدي الوحشي، إنه الكاتب الشهير بريتكستا طاش الحائز على جائزة نوبل في الأدب، والبالغ من العمر ثلاثة وثمانين عامًا، والذي لم يتبق له سوى شهرين على الأكثر للعيش، حيث يعاني من السمنة والمرارة والعزلة والعنصرية والتمييز الجنسي ومرض سرطاني نادر إلى حد ما يؤثر على الغضاريف، سمنته المفرطة تلزمه الجلوس على كرسي متحرك، وكونه يحظى بشهرة واسعة تداعي عليه صحفيون من العالم أجمع طالبين إجراء حوارات خاصة معه.
هذا الرجل توقف عن الكتابة عندما تجاوز الخمسين من عمره واستبدل الكتابة بالأكل بشراهة، حيث توازت رغبته في تناول الطعام مع رغبة الكتابة، حتى أقعدته البدانة واضطرته إلى التزام الكرسي المتحرك، وهو الآن بعد إعلان موته بعد شهرين، وتجمهر الصحفيون عليه، يستمتع بسحق جميع الصحفيين الذين يأتون لإجراء مقابلات معه بشكل عنصري ووحشي مبتذل، ويشعر بالتفوق عليهم ويعرف جيدًا أن لا أحد منهم قرأ حقًا ما كتبه، وإلا فلن يرغبوا في مقابلته لأن ما كتبه حقير، ولكنه عبقري خالص لا يرحم. لكن المقابلات البسيطة معه ااحول تدريجيا إلى استجواب، إلى مبارزة لا ترحم، يظهر فيها طاش رجلا مختلفا، فريسة لأحلك أسرار حياته.
يواجه طاش الأسئلة بالسخرية والحقد حتى يصل إلى هدفه. يقوم بطرد الصحفي الأول بعد أن وصفه بأنه معتوه، وجعل الصحفي الثاني يتقيأ من خلال تفصيل طقوس العربدة في الأكل. حتى وصول الصحفية الشابة نينا التي قرأت جميع كتبه. بصبر تتغلب على سوء نيته ودجله، وتتمكن من انتزاع عدد من أسرار حياته الخاصة، ينخرط الاثنان في مبارزة لا ترحم تقود طاش إلى الحد الأقصى من الردود اللاذعة التي تحمل الكثير من الازدراء والسادية، لكن ذلك لا يثني نينا عن مواصلة حوارها الكاشف للكاتب في علاقاته بالكتابة والأدب وعلاقاته مع الآخرين، بما في ذلك القارئ.
مقتطف من الرواية
ـ في أيديولوجيتك، فإن المرأة تبقى في البيت، وفي يدها ممسحة ومكنسة أليس كذلك؟
ـ في أيديولوجيتي المرأة لا وجود لها.
ـ هذا أفضل، من المؤكد أن لجنة جائزة نوبل أصيبت بضربة شمس يوم قامت باختيارك.
ـ للمرة الأولى يحدث توافق بيننا. تاريخيا جائزة نوبل هذه هي ذروة تاريخ سوء الفهم. فمنحي جائزة نوبل يعادل منح جائزة نوبل للسلام لصدام حسين.
ـ لا داعي للزهو، فصدام حسين أوسع شهرة منك.
ـ هذا طبيعي، الناس لا يقرؤون أعمالي، لو كنت مثروءا لكنت أكثر ضررا وأوسع شهرة منه.
ـ دعني أتوقف هنا، لا أحد يقرأ أعمالك. فبماذا تفسر هذا الرفض لقراءتها؟
ـ إنها غريزة البقاء، رد فعل مناعي.
ـ إنك تجد تفسيرات مطربة لك، إذا لم يقرأ الناس أعمالك فهذا يعني ببساطة أنها مملة.
ـ مملة؟ ما أجمل هذا التعريض اللطيف! لماذا لا تقولين إنها تخرّي؟
ـ لا أرى أي ضرورة للتشبث بهذه اللغة القذرة. لكن سيدي لا تتهرب من سؤالي.
ـ هل أنا ممل؟ سأعطيك بحسن نية جوابا باهرا. أنا الأقل قدرة على معرفة الإجابة على سؤالك من سكان هذا الكون. أعتقد كانط بعمق أن نقد العقل الخالص كتاب يثير الاهتمام، ولم يكن هذا خطأه، كان أنفه شامخا، أنا أيضا، آنستي، أجد نفسي مضطرا، إلى أن أعيد لك سؤالك عاريا: هل أنا مضجر؟ وبما أنك بليدة، فإن جوابك سيكون له أهمية أكثر من جوابي، رغم أنك بدون شك لم تقرئي أعمالي.
ـ أنت مخطئ، بل إن أمامك واحدة من الناس القليلين الذين قرأوا رواياتك الاثنين والعشرين دون إغفال سطر واحد.
ظل البدين صامتا مدة أربعين ثانية.
ـ مرحي. أنا الناس القاردرين على مثل هذا الكذب.
ـ آسفة، إنها الحقيقة. لقد قرأت أعمالك كلها.
ـ تحت تهديد فوهة مسدس؟
ـ قرأتها بإرادتي الخاص، لا بل برغبتي الخاصة.
ـ هذا مستحيل، إذا كنت قد قرأت كل أعمالي، فلن تكوني كما أراك الآن.
ـ فكيف تنظر إلى في الحقيقة؟
ـ أرى أنثى صغيرة تافهة.
ـ هل ترغم بأنك تعرف ماذا يجري في رأس هذه الأنثى الصغيرة التافهة؟
ـ كيف؟ هل يحدث شيئ في رأسك؟ Tota mulier in utro
ـ للأسف، أني لم أقرأ أعمالك بأحشائي، لذا ستكون مجبرا على تقبل آرائي.
ـ قبل كل شيئ، ولكي أجيب على سؤالك، لم أشعر بالملل لحظة وأنا أقرأ رواياتك الاثنين والعشرين.
ـ يا للغرابة، كنت أعتقد أن القراءة من دون فهم أمر مضجر.
ـ والكتابة دون فهم، أليس مضجرا أيضا.
ـ أتلمحين إلى أنني لم أفهم ما كتبته؟
ـ أقول بالأحرى إن كتبك تختنق بإدعاء العظمة. وهذا ما شكل جانبا من جمالها: شعرت، وأنا أقرأ أعمالك، بتناوب مستمر بين مقاطع مثقلة بالمعنى وباستطرادات مليئة بالإدعاء المطلق. مطلق لأن الإدعاء يمس الكاتب مثلما يمس القارئ. وأنا أتخيل هذا الابتهاج الذي شعرت به حين كتبت الاستطرادات الجوفاء والهذيانية، وألبستها مظهر العمق والضرورة تلك. بالنسبة لإنسان فاضل مثلك، كانت اللعبة لذيذة.
ـ بماذا تهذين؟
ـ بالنسبة إليّ أيضا كان ذلك لذيذا. فهذا القدر من النوايا السيئة التي تصدر عن كاتب يفترض فيه أن يحابها كان شيئا ساحرا. كم سيكون ذلك مغيظا لو أن سوء النية هو خداع عبقري.
ـ وهل تعتبرين نفسك يا صغيرتي المغرورة قادرة على التمييز بين هذا وذاك؟
ـ وهل هناك أسهل من ذلك؟ ففي كل مرة يثير فيها مقطع ضحكي، كنت أدرك أن هناك خداع. وقد وجدت ذلك براعة فائقة: مجابهة سوء النية بسوء نية، بإرهاب فكري، فإن تكون ماكرا أكثر من خصمك، فإن هذا تكتيك ناجح، بل إنه تكتيك بارع في مواجهة عدو شرس جدا، لست أنا من سيخبرك بأن الميكيافيلية نادرا ما تصيب هدفها: فالهراوات تسحق أفضل من مناورات بارعة.
ـ أنت تقولين بأنني أخادع، ولكن أي مخادع تافه أنا مقارنة بك أنت التي تدعين أنك قرأت جميع كتبي؟
ـ قرأت كل ما كان ضروريا، فلتستجوبني إن كنت حريصا على التحقق من ذلك.
ـ هذا هو شأن المجعجعين: "ما هو رقم لوحة الفولفو الحمراء في فيلم عباد الشمس؟ لا تعتمدي عليّ لكي أبخس قيمة أعمالي بمثل هذه الأساليب.
ـ وما الذي يتوجب عليّ أن أفعله، إذن، حتى أقنعك؟
ـ لا شيئ، أنت لن تقنعيني.
ـ في هذه الحالة، ليس لدي ما أخسره.
ـ لم يكن لديك أبدا شيئ يمكنك أن تخسريه معي. لأن جنسك الأنثوي يحكم عليك منذ البداية.
ـ بخصوص هذا، فقد قمت بتفحص سريع لشخصياتك الأنثوية.
ـ كنت متأكدا من ذلك، هذا يعد بأشياء كثيرة.
ـ قلت قبل قليل بأن المرأة لا وجود لها في أيديولوجيتك. وأنا مندهشة لأن كاتبا يصرح بمثل هذه الحكم ثم يخلق كثيرا من النساء من ورق. على كل حال لن أستعرضها كلها، لكنني أحصيت في عملك حوالي ست وأربعين شخصية نسائية.
ـ إني أتساءل، ماذا يثبت ذلك؟
ـ يثبت بأن المرأة موجودة في إيديولوجيتك، وهذا هو التناقض الأول، وسترى أن هناك تناقضات أخرى.
ـ أوه، الآنسة تتصيد التناقضات! اعلمي يا سليلة المعلمين أن بريتكستا طاش رفع التناقضات إلى مستوى الفنون الجميلة. هل يمكنك أن تتخلي ما هو أكثر أناقة وحذقا، أشد إثارة للحيرة وأقوى حدة من نظامي المتناقض ـ ذاتيا؟ هاي هي ذي دجاجة حبشية صغيرة لا تنقصها سوى النظارات تعلن بسحنة المنتصر أنها كشفت عن بعض التناقضات الفظة في أعمالي! أليس رائعا أن يقرأ أعمالك جمهور بالغ الرهافة؟
ـ أنا لم أقل أبدا إن هذا التناقض فظ.
ـ أنا في وضع يؤهلني أكثر منك لمعرفة ما أفكر فيه.
ـ هذا يحتاج إلى برهان.
ـ البرهان أني وجدت هذا التناقض مثيرا للاهتمام.
ـ يا للعجب!
ـ كنت أقول إذن، ست وأربعون شخصية نسائية.
ـ يا صغيرتي، حتى يكتسي إحصاؤك بعض الأهمية كان عليك أن تحصي أيضا الشخصيات الذكورية.
ـ لقد قمت بذلك.
ـ يا لنباهتك!
ـ ثلاث وستون شخصية ذكورية.