القصص الأخباري الـعَـرَبي
قَصّ القرآن الكريـم القصص، وحثّ على النَّظر في قصص الأولين، والوقوف متفكرين فيما جرى للأمم قبلنا وأخذ الـمعاني منها، وقد وُلع العرب الأقدمون برواية وتدوين أخبار الـماضين، وما لـهم من أفعال وأحوال وحوادث جرت في بلادهم وقبائلهم، خاصة ما تناقله الرُّواة من نوادر وطرائف وغرائب أخبارهم، فكل الـمعارف على كلّ الـمستويات، والتي أنتجتها الـحياة العربية نقلتها لنا متون الأخبار، وحظيت بشروح الرُّواة والأدباء من الأخباريين، كما حضرت كتب الأخبار في آداب من سبقونا كياناً أصيلاً مـمثلة الـحياة العربية طيلة خـمسة عشر قرناً، ومنها ما يكون الـجزء الداخل في نسيجها أو الـمُكمل لـها كالـخطب أو الرسائل أو الوصايا أو الأمثال أو الشعر إلـخ.
إن الواقف على كتب الأخبار التي دَوّنتها الـحضارة العربية على مدى عهودها سيجد أن لـها لغتها التي قدمت تفاصيل دقيقة لـحياة الشعوب، وفرضت هيمنتها على التفكير والسلوك الإنساني لكونـها إحدى مرتكزاته، كما استخلصت كتب الأخبار مادتـها الـخام من طبيعة الناس التي هي مادة الـحياة، وبلاغة الواقع في بعده النفسي والـمعرفي والأخلاقي، عبر منهج أخباري يتعالق السّردي فيه بالتاريـخي، فيغلب عليه الواقعي أو يُوهم بالواقعي، مُطابقاً الـمرجعيات في بُعديه الدرامي والوجداني، بعد أن أُدخِلَ معمل الفن مـمزوج بـما هو ظنّي واحتمالي، ليحقق غايته الفنية الـجمالية، ففي كتابه الشهير ضحى الأسلام، وضع أحـمد أمين الأخبار بين منزلتين ثنائيتين: منزلة القصص، ومنزلة التاريخ، فلا هي بالقصص الـخالص، ولا بالتاريخ الـخالص.
منذ القرن الـهجري الأول أقامت العرب عماد آدابـها وحوادث مـجتماعاتـها على صيغة الأخبار، والـخبر شاهده الشعر، ولـهذا أخذت أشعار العرب بقاءها من ذيوع أخبارها وأسْـمَارها، فجاءت الأخبار في صيغتها الفنية على هيئة وحدات حكائية تسرد أحداثاً لشخصيات لـها أصلٌ تاريـخي خاصة التاريخ الاجتماعي، جامعة تـحت مظلتها العريضة الأحاديث والأسـمار والطرائف والنوادر، وهو ما عنيت بـها أغلب كتب التراث العربي، خاصة الشخصيات التي لـها صفة غير مسبوقة ولا مطروقة، امتازت بـها دون غيرها، وكان لـها إسهامها الـجليّ في تكوين الذاكرة العربية، والتي من أخبارها تُعرف أحوال البلاد، وطبيعة الـمجتمعات بتفاصيلها الصغيرة قبل الكبيرة، وما يـجري في بيئتها، كما أن للأخبار مذاهب ومسالك شتّى، مثل: أخبار الأمم، والقبائل، والـملوك، والأمراء، والفرسان، والشعراء، والـمُغنّين، والعشّاق، والصعاليك، إلـخ.
الأديب الأخباري تُعرف عنايته برواية أخبار الطبقات، مُستعملاً مُـخيّلتهُ الأدبية ليكسوا بـها الأخبار أو يسدّ نقصها، فغالباً لا يكون طرفاً في أحداثها لأنـها سابقة، ولكنه مُصوّرها ومـُخرجها ومُنتجها، هذا غير اختلاف نقل الـحدث من رَاوٍ إلى آخر، كما أن الـمرويات أكانت شفوية أم خطيّة هي مُتغيرة في بنيتها السّردية نتيجة التناقل من جيل إلى آخر مع احتفاظها الـجليّ بـجوهرها، في الـمقابل نرى أن بعض السّير الـمكتملة عبارة عن تراكم للأخبار الـمُتّصلة، فإن كانت كتب التاريخ تعرض تفاصيل الـحياة السياسية، فإن كتب الأخبار تعرض تفاصيل الـحياة العامة للشعوب، ففيها صور لطبيعة العلاقات وما زخرت به، ومضامين سلوكية خيّرة، ومأثور من ثـمين القيم التي نشأت بينهم واتصلت بغيرهم.
إن الناظر إلى التركة الأخبارية الـهائلة للعرب وهي تبوح بأسرار البوادي والـحواضر، يُدرك قيمتها التاريـخية والأدبية، وأهـميتها في عرض الصور الـحياتية لـمراحل ماضية، فأخبارهم تَفَرّقت بين كتب التاريخ واللغة والأدب، ويبقى البحث في متون التراث مسؤولية ثقافية مُطَالَبة بأن تكون أمينة، ولا ننسى كيف ساهـمت كتب معاصرة شهيرة في تبويبها وتقديـمها، فاستحالت إلى مصادر لا غنى عنها، وأخذت قيمتها ترتفع كلما تقدمت الـحياة.