'عشرة أرقام' عن مآلات البشرية
يهدف هذا الكتاب "البشر في المستقبل: مستقبل البشرية في عشرة أرقام" للكاتب والمذيع المتخصص في الحديث عن السكان والاتجاهات الديموغرافية الكبرى في مختلف أنحاء العالم ول مورلاند، إلى تفسير حالة البشر الحالية بناء على التغيرات السكانية، مع تسليط الضوء أيضًا على حالة حياة البشر في المستقبل، عارضا عشرة أرقام يسرد كلٌّ منها قصة مهمة عن موضوع أكبر مُتعلق بأحد الاتجاهات السكانية السائدة في مختلف أنحاء العالم.
الأرقام والقصص تتمثل في: انخفاض معدلات وفيات الرضع (10: معدل وفيات الرضع بين كل ألف شخص في بيرو)، والنمو السكاني (4 مليارات: عدد سكان أفريقيا بحلول عام 2100)، والتحضر (121: عدد المدن الصينية التي يتخطى سكانها مليون نسمة)، وانخفاض معدلات الخصوبة (1: معدل الخصوبة الكُلي في سنغافورة)، وانخفاض عدد السكان (43: العمر الوسيط في كتالونيا)، والتغير العرقي (22: النسبة المئوية لطلاب المدارس البيض في كاليفورنيا)، وارتفاع مستويات التعليم (71: النسبة المئوية للبنغلاديشيات اللواتي يعرفن القراءة والكتابة) وزيادة توافر الغذاء (375: النسبة المئوية للزيادة في إنتاج الحبوب في إثيوبيا في الأعوام الخمسة والعشرين الماضية)، وارتفاع متوسط أعمار السكان (79 ألفًا: عدد سكان اليابان الذين تجاوز عمرهم 100 عام)، وزيادة عدد المسنين (55: النسبة المئوية لانخفاض تعداد سكان بلغاريا في قرنٍ واحد).
هذه الاتجاهات ليست ظواهر مُنفصلة ـ وفقا لمورلاند ـ بل مُترابطة معًا ضمن سلسلة سببية. فانخفاض وفيات الرضع يُؤدي إلى زيادة في النمو السكاني، الذي يسفر بدوره عن التحضر. ويتبنَّى سكان الحَضَر فكرة إنجاب أطفال أقل، فترتفع نسبة المسنين بين السكان وينخفض عددهم الإجمالي في النهاية، ما يستدعي الهجرة ويُسبب حدوث تغيرات عرقية. وفي أثناء تلك التغيُّرات، تسري المنظومة كلها بسلاسة بفضل تعزيز فرص التعليم وزيادة توافر الغذاء.
يقول مورلاند في كتابه الذي ترجمه المهندس أحمد سمير درويش وصدر عن مؤسسة هنداوي إن ملامح مستقبل البشر بدأت تظهر أمام أعيننا. فأعدادهم الإجمالية سوف تشهد زيادة هائلة في ظل إطالة العمر المتوقع وتأخُّر الوفاة، خصوصًا بين الصغار، لكن وتيرة الزيادة سوف تتباطأ لأنهم سيكتفون بعددٍ أقل من الأطفال. وكذلك فإنهم سوف يصبحون أكثر تحضرًا وستتزايد نسبة كبار السن بينهم، ويصيرون أفضل تعليمًا وتغذية. ولكن الوضع ليس موحدًا على الإطلاق، لأنَّ بعض أجزاء العالم ما زالت تمر بمرحلة الانتقال إلى الحداثة الديموغرافية. ففي حين أنَّ العديد من الدول في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى قد شهدت بالفعل انخفاض معدلات الوفيات بين الرضع وازدياد متوسط العمر المتوقع، يمكننا أن نجزِم بأنَّ تلك المعدلات ستُواصل الانخفاض إلى مستويات أدنى، وبأنَّ هذا المتوسط سيواصل الارتفاع إلى مستويات أعلى. وفي الوقت نفسه، سيستمر انخفاض معدلات الخصوبة في جميع أنحاء أفريقيا. وهكذا فإنَّ المستقبل الديموغرافي في أفريقيا، وبعض الدول الأخرى خارجها مثل أفغانستان وتيمور الشرقية، يتمحور حول اللحاق بركبِ بقية العالم، في ظل ازدياد عدد سكانها وارتفاع نسبة كبار السن بينهم. ومن المتوقَّع أنَّ البشر الذين يقبعون حاليًّا في الدرجة الأدنى من السُّلم العالمي سيُصبحون أفضل تعليمًا وتغذية. صحيح أنَّ مثل هذه المناطق الأقل ازدهارًا ستبقى بعيدة عن الوصول إلى النموذج الدنماركي الذي يتسم بالاستقرار والازدهار والنضج الديموغرافي، لكنها تتقدم نحوه بمنتهى السرعة. ومن المرجَّح جدًّا أن يستمر هذا التقدم، لكنه قد يصطدم بأربعة أنواع من الكوارث: الكوارث البيئية والحروب والأوبئة والانهيارات الاقتصادية.
ويرى أن ظاهرة الاحترار العالمي تخيم ظلالها على أي حديث عن المستقبل. فارتفاع انبعاثات الغازات الدفيئة وارتفاع درجات الحرارة وارتفاع مستويات سطح البحر قد يؤدي إلى تلف المحاصيل وفيضان من اللاجئين الذين سيهجرون أوطانهم بسبب تغير المناخ، وهذا سيقلب الافتراضات المطروحة في هذا الكتاب رأسًا على عقب. وحتى لو لم تحدث مثل هذه السيناريوهات المُنذرة بنهاية العالم، فقد نشهد زيادة التلوث وتضاؤل الحياة البرية ودمار الحياة في معظم مناطق كوكبنا. لكن لا أحد يستطيع أن يجزم بأن هذه الأشياء ستحدُث بالفعل، بل إنَّ بعض العلماء يرون أن وضعنا ليس سيئًا كما يتصوَّر المتشائمون. فالكثير من ممارساتنا الحياتية صارت تستلزم انبعاثات أقل من ذي قبل: فالمرء أصبح في إمكانه التواصُل مع أحبائه أو زملائه بمكالمة صوتية أو مكالمة بالصوت والصورة، وبذلك يمكنه أن يستغني عن الذهاب إليهم خصوصًا ويستهلك طاقة أقل؛ وفي الوقت نفسه، تستهلك مصابيح (إل إي دي) الحديثة قدرًا ضئيلًا من الطاقة مقارنةً بالمصابيح القديمة. وهكذا فإن التنمية يُمكن في نهاية المطاف أن تكون متوافقة مع جهود حماية البيئة، بل ومُكمِّلة لها.
ويشير إلى أنه مع ازدياد عدد سكان العالم وارتفاع نسبة المتعلِّمين بينهم، يجري الآن ابتكار اختراعات متنوعة ستنفع الكوكب. فتقنيات الطاقة الشمسية وطاقة الرياح واستخلاص الكربون يمكن أن تحل مشكلة الانبعاثات، وفوق ذلك فالطرق الجديدة لإنتاج الغذاء قد تُخلصنا من المشكلات الزراعية الناجمة عن تغيُّر المناخ. خلاصة القول أنَّ الاحترار العالمي يستحيل أن يؤدي إلى انقراض البشر الجماعي الذي يحذِّر منه بعض الناشطين. بل إنَّ عدد الأشخاص الذين يموتون بسبب الكوارث الطبيعية ينخفض باستمرارٍ منذ عقود، علمًا بأن المعدل الحالي لهذه الوفيات لا يكاد يتجاوَز حالة من كل ألف. وبعيدًا عن أي شيء آخر، فكلما ازداد ثراء البشر، يُصبحون أقدر على حماية أنفسهم من الكوارث. وصحيح أنَّ النمو السكاني سيواصل تشكيل عبء على البيئة، لكن هذا النمو يتباطأ كل عام، بالإضافة إلى أننا بدأنا نستعيد طبيعة البيئة من الأضرار التي ألحقناها بها من قبل.
ويضيف مورلاند أنه على غرار الكوارث البيئية، يبدو من المستبعَد أن تُحدِث الحرب تأثيرًا ديموغرافيًّا كبيرًا في المستقبل. صحيح أن الحرب العالمية الثالثة يمكن أن تندلع في أي لحظة وتقضي على أعدادٍ مهولة من البشر، لكن الأرقام الواردة في السجلات واضحة بما لا يدع مجالًا للشك. فنسبة الأشخاص الذين يموتون في المعارك تنخفض عمومًا، وهي الآن تساوي جزءًا ضئيلًا ممَّا كانت عليه في أواخر الستينيات.3 صحيح أن مقتل 350 ألف شخص على الأقل خلال الحرب السورية التي استمرت عقدًا كاملًا كان مأساةً بالطبع، لكن هذا العدد لا يكاد يساوي حجم الزيادة السكانية التي كانت البلاد تشهدها في العام الواحد قبل اندلاع الحرب. والشيء الأهم على الصعيد الديموغرافي هو أنَّ عشرة أمثال هذا العدد قد غادروا البلاد؛ وهذا يُمثِّل خسارة لسوريا، لكن الملايين من المواطنين السوريين يعيشون الآن في الأردن وتركيا ولبنان أو في مناطق أبعد. وعلاوةً على ذلك، فعدد الوفيات التي شهدتها سوريا على مدار عقدٍ كاملٍ من الزمن ما زال ضئيلًا جدًّا مقارنة بأولئك الذين لقوا حتفهم خلال ثلاث سنوات فقط من الحرب في كوريا، على سبيل المثال. وأخيرًا، فمع ازدياد نسبة كبار السن بين سكان العالم، من المتوقع أن تُصبح الحروب أقل شيوعًا.
ويوضح أن هناك بوادر تُوحي بأن متوسط العمر المتوقع يتجه إلى الانخفاض في بعض دول العالم الأكثر تقدمًا. صحيح أن أي انتكاسات تحدث في ارتفاع متوسط العمر المتوقع تكون مؤقتة ليس إلَّا، لكنه بدأ يتباطأ بالفعل، حتى في بعض الدول التي تتسم بأعلى متوسطات العمر المتوقع. ففي اليابان مثلًا، أصبح متوسط العمر المتوقَّع يرتفع بمقدار عام ونصف أو عامين فقط كل عقد، بعدما كان يرتفع بمقدار خمسة أو ستة أعوام كل عقد في ستينيات القرن العشرين. ربما يكون السبب في ذلك أنَّ متوسط العمر البشري المتوقع قد بدأ يصل إلى أقصى حدٍّ طبيعي ممكن. وفوق ذلك، فربما تنتشر أمراض اليأس والسِّمنة الجماعية في جميع أنحاء العالم، علمًا بأنَّ كليهما منتشر بالفعل في الدول الناطقة باللغة الإنجليزية بالأخص. وكذلك فإن روسيا مثلًا تعاني انتشار إدمان الكحول والانتحار والسمنة منذ فترة طويلة. ومع ذلك، فمن المُمكن أيضًا أن يشهد المستقبل تقدمًا علميًّا فارقًا يؤثر في فهمنا للشيخوخة، ويخلق آفاقًا جديدة تمامًا. ليس بالضرورة هنا أن نتصور أننا سنحيا حياة أبدية؛ ولكن إذا افترضنا أنَّ متوسِّط العمر المتوقع سيصل إلى مائتي عام فقط، فهذا سيُحدِث تغييرًا جذريًّا في كل ما يتعلَّق بشكل المجتمع. فتوقيت الدراسة وكيفيتها وأنماط عملنا وعلاقاتنا العائلية ستكون مختلفة تمامًا عن شكلها الحالي، حتى وإن كنا لا نعرف كيف سيكون شكلها بالضبط حينئذٍ. وهكذا فإنَّ نمط الحياة الحالي الذي يراه الكثيرون منا طبيعيًّا تمامًا الآن قد يُنظَر إليه في المستقبل على أنه عتيق إذا تسنَّى للبشر أن يعيشوا ضِعف عدد السنوات الحالي.
أمَّا بخصوص الخصوبة، فيقول مورلاند إن الحمل قد أصبح بالفعل أقل ارتباطًا بممارسة الجنس. ومع تحسُّن وسائل منع الحمل، لم يعد الحمل مرهونًا بالصُّدفة والحظ وإنما صار اختيارًا نتخذه بمحض إرادتنا. وصحيح أنَّ الجماع الجنسي لم يكن يؤدي بالضرورة إلى حدوث حمل في كل الحالات من قبل، لكن حدوث الحمل دائمًا ما كان ينشأ من الجماع الجنسي، على الأقل حتى ابتكار تقنيات التلقيح الاصطناعي. أمَّا في المستقبل، فيُمكن قطع الصلة بين ممارسة الجنس والحمل تمامًا. حتى إننا ربما سنجدُ أطفالًا ليسوا أبناء لأبوين اثنين فقط؛ فبعض الأفراد قد يختارون استكمال مادتهم الوراثية بمادة وراثية من شخص آخر، بل ومن عدة أشخاص آخرين أيضًا. وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ بعض الحالات بالفعل قد شهدت ولادة أطفال يحملون المادة الوراثية لأكثر من شخصين. وصحيح أنَّ فكرة أنَّ الناس في المستقبل يمكن أن يتسموا كلهم بالذكاء والجمال ويُصبحوا خالين من الأمراض الوراثية؛ تثير تساؤلات أخلاقية كبرى، لكن العالم سيشهد ضغوطًا هائلة للسماح باختيار الجينات حسب الرغبة، حالما تتوفر التقنيات التي تتيح تنفيذ ذلك. بل إنَّ بعض الأجنة يُجهضون الآن بالفعل عندما تُرصَد لديهم أمراض معينة، وهذا يعطينا فكرة عمَّا سيحدث في المستقبل.
ويتابع أنه مع احتمالية إنجاب أطفال لديهم أكثر من أبوين اثنين، سيبدأ انهيار الفئات الأساسية للتقسيمات الديموغرافية. إذ سيُصبح من الصعب أن ننسب كل مولود إلى أم واحدة وأب واحد، تمامًا كما تلاشت الحدود الديموغرافية التي كانت واضحة في الماضي، وصارت ضبابية مع ظهور "ميوعة الأنواع الجنسية". صحيح أنَّ الأفراد المتحوِّلين جنسيًّا يُشكِّلون نسبةً صغيرةً من سكان العالم في الوقت الحالي؛ إذ تبلغ نسبة الذين يُعرِّفون أنفسهم على أنهم مُتحولون جنسيًّا ٠٫7 في المائة على أكثر تقدير. وصحيح أنَّ هذه الظاهرة يمكن أن تظلَّ مقتصرة على أقلية صغيرة، ولكنها يمكن أيضًا أن تنتشر إلى حدِّ أن نجد معظم الناس يختارون نوعهم الجنسي من بين خيارات متعددة ويغيرونه باستمرار. وعندئذٍ ستصبح دراسة بعض العوامل الديموغرافية بلا معنى، كمعدل الخصوبة الإجمالي لكل امرأة أو الفرق بين متوسط العمر المتوقع للذكور والإناث مثلًا. وفي نهاية المطاف، قد يمكن تخزين الوعي ونقله إلى أجساد جديدة تمامًا، أو ربما نختار العيش في عالمٍ من الواقع الافتراضي. وقد تستعبدُ تقنيات الذكاء العام الاصطناعي حياة البشر أو تُحرِّرها أو تدمجها معها، وقد ننشئ مستوطنات خارج كوكب الأرض. ربما يبدو كل هذا من وحي الخيال العلمي، لكن الكثير مما نعُدُّه طبيعيًّا تمامًا اليوم كان يُرى محضَ خيالٍ علمي أو سحرٍ مستحيلٍ قبل بضع مئاتٍ من السنين.. ولكن قبل أن نقترب حتى من وصول العمر المتوقع إلى مائتَي عام، أو إنجاب أطفال مصمَّمين حسب الرغبة، أو انتشار التحول الجنسي، أو تحميل الوعي ونقله فيما بين الأجساد، لدينا عدة أشياء أقرب إلى الواقع الملموس فيما يخص مستقبل البشر.