حكماء وادي النيل يقدسون الكتابة

محمد العزب موسى يذهب في كتابه إلى أن الحكماء المصريين لم يعيشوا في برج عاجي بمعزل عن الشعب وإنما كانوا بمثابة ضمير للأمة.

في كتاب "حكماء وادي النيل" نلتقي عددًا من الحكماء يصحبنا إليهم محمد العزب موسى مؤلف الكتاب بمقدمة للدكتورة نعمات أحمد فؤاد التي أوضحت في كلمتها أن العاصمة الفرنسية "باريس" اشتق اسمها من "بيت ايزيس"، وايزيس هي أحد رموز الديانة المصرية القديمة وأن "بيت" في اللغة الهيروغليفية يسمى "بر" وايزيس في اللغة الهيروغليفية تسمى "إيسه" أي "بر ايسه" التي تحولت فيما بعد إلى "باريس". كما تحدثت د. نعمات عن وحدة الحياة على ضفاف النيل.

أما الكتاب الصادر عن سلسلة "كتاب اليوم" التي تصدرها مؤسسة أخبار اليوم بالقاهرة (رقم 315) فيبدأ بعد المقدمة بالحديث عن فكرة العدالة في مصر القديمة حيث أوضح المؤلف أن الحضارة المصرية القديمة تنطوي على قيم أخلاقية ومعنوية وفكرية رفيعة كانت بمثابة الدم الذي يجرى في شرايينها، وكانت هي السبب في استمرارها وبقائها هذه الآلاف من السنين، ثم يحدثنا في الفصل نفسه عن قصة فرعون موسى الذي ضرب به المثل في الطغيان والاستبداد.

ويوضح أنه إذا كان فرعون موسى قد اشتهر بكفره وعناده فإن كثيرًا من الفراعنة الآخرين عرفوا تاريخيًّا بالعدل والتواضع والقيام بصالح الأعمال وتعلقتْ بهم قلوب الرعية، فظلت سيرتهم عطرة حتى المراحل الأخيرة من العصور الفرعونية واعتبروا من حكماء وادي النيل مثل مينا موحد القطرين، وزوسر صاحب الهرم المدرج بسقارة، وسنقرو مؤسس الأسرة الرابعة، ومنقرع صاحب الهرم الثالث بالجيزة، وامنمحات رائد النهضة الزراعية في الدولة الوسطى وأحمس طارد الهكسوس.

ويتساءل المؤلف ومن خلال استعراض "حكماء وادي النيل" عن لقمان الحكيم وهل هو مصري؟ وهل هناك وجه للتشابه بين الحكيم المصري القديم بتاح حتب وتعاليم وعظات لقمان الحكيم؟

إن بتاح حتب يشعر بتقدمه في السن ووقع الشيخوخة عليه فيطلب من الملك أسيسي (من ملوك الأسرة الخامسة الفرعونية) أن يسمح له بأن يعلم ابنه حكمته، فيسمح له الملك بذلك ويقول له: علمه الحديث كي يكون مثالاً لأبناء العظماء وتكون الطاعة رائده ويتحلى بالفطنة، فليس هناك من يتعلم من تلقاء نفسه.

إن كتابًا واحدًا لأكثر نفعًا من بيت متين الأساس ومن قبر في الغرب وأجمل من قصر منيف ومن نصب في معبد

يقول بتاح حتب لابنه "لا تكونن متكبرا بسبب معرفتك ولا تكونن منتفخ الأوداج لأنك رجل عالم. شاور العاقل والجاهل لأن نهاية العلم لا يمكن الوصول إليها، وليس هناك إنسانا مسيطراً تماماً على فنه".

ويذهب المؤلف (ص 45) إلى أن الحكمة المصرية القديمة لم تكن ترفًا اجتماعيًّا أو حديث صالونات، وأن الحكماء المصريين لم يعيشوا في برج عاجي بمعزل عن الشعب وإنما كانوا بمثابة ضمير للأمة، وكانت أقوالهم تنتشر بين الناس وتصبح دستوراً للعلاقات الإنسانية والسلوك العام من يخرج عليه يفقد المصداقية والاحترام. وليس أدل على ذلك من تلك الوثيقة الفكرية التي تعتبر من أقدم الوثائق الفكرية في تاريخ الجنس البشري والتي عثر عليها منقوشة على حجر طاحونة لطحن الغلال وتم إيداعها بالمتحف البريطاني وتحدث عنها العالم الشهير جيمس برستيد في كتابه "فجر الضمير" ويعود تاريخها إلى حوالي عام 3200 قبل الميلاد، ومحور هذه الوثيقة الحجرية التي مسحت أجزاء منها بسبب استخدامها في الطحن عن جهل وعدم دراية بأهميتها التاريخية، محورها فلسفي أو درامي في المقام الأول، ولعلها تكون أقدم دراما في العالم وأول مناقشة فلسفية مكتوبة عرفت في التاريخ، حيث تدلنا الوثيقة على فكرة أن من يفعل الخير يثاب بالحياة والذي يفعل الشر يكون جزاؤه الموت.

كما نلاحظ من خلال البرديات الفرعونية المكتوبة التى وصلت إلينا المكانة العظيمة التي كان يتمتع بها الكتاب والمؤلفون في مصر القديمة فقد انتشرت فكرة أن الكتب أكثر خلودًا من الأهرامات،

تقول إحدى البرديات:

"إن كتابًا واحدًا

لأعظم فائدة من لوحة في قبر

ومن جدران مقبرة حصينة     

فالكتب هي مقاصير وأهرام

في قلوب الناس

فالرجل يموت

وتصبح جثته جيفة قذرة

ويصير كل ذريته ترابًا

ولكن الكتب التي يؤلفها تجعله في كل فم

إن كتابًا واحدًا

لأكثر نفعًا من بيت متين الأساس

ومن قبر في الغرب

وأجمل من قصر منيف

ومن نصب في معبد"

'حكماء وادي النيل'
الكتب أكثر خلودًا من الأهرامات

ولعلنا ندرك بعد، هذا السر في أن أحبَّ الألقاب لدى المصري القديم كان لقب "الكاتب"، لقد كان حكماء وادي النيل حريصين كل الحرص على استمرارية العلم والمعرفة والقراءة والكتابة، وكانت كل وصاياهم في هذا الاتجاه.

يقول الحكيم خيتي لابنه:

"عليك أن توجه قلبك لقراءة الكتب. تأمل: لا شئ يفوق قدر الكتب. ليتني أجعلك تحب الكتب أكثر من أمك. ليت في مقدوري أن أُظهر جمالها في عينيك. إن الكتابة أعظم من أية حرفة. إن يومًا في المدرسة مفيدًا لك. وما تعلمه فيك يبقى مثل الجبال".

ولما كان هذا هو قدر العلم والمعرفة والقراءة والكتابة في مصر القديمة فلنا أن نتخيل حجم التقدير والتبجيل الذي كان يحمله الشعب والمجتمع المصري القديم للمدرس أو المعلم الذي كان يتمتع باحترام وحب بالغين، وكأن المجتمع المصري القديم كان يقول مع شوقي:

قف للمعلم وفِّه التبجيلا **       كاد المعلمُ أن يكون رسولاً.