إيمانويل فالرشتاين يستشرف ما 'بعد الليبرالية'

الكاتب الأميركي والمؤرخ الاقتصادي يرجح أن تفتقر حقبة 2025/ 2050 إلى السلام والشرعية ويرجع ذلك جزئيا إلى مكانة الولايات المتحدة بوصفها القوة المهيمنة في النظام العالمي، لكن السبب يتعلق، في الجانب الأكبر منه؛ بأزمة هذا النظام العالمي بوصفه نظاما عالميا.

عند سقوط جدار برلين، وما تبعه من تفكك نزل بساحة الاتحاد السوفيتي، نهاية للشيوعية وسقوط للماركسية اللينينية بوصفها قوة أيديولوجية في العالم الحديث. وكانت تلك رؤية صائبة لا ريب. وقد احتفى بهذه الأحداث كذلك بوصفها تجسيدا للانتصار النهائي لليبرالية بحسبانها أيديولوجيا؛ وهو ما يمكن عده سوء فهم تام للواقع؛ بل وأكثر من ذلك؛ كان ما كشفت عنه هذه الأحداث نفسها على النقيض من ذلك تماما؛ فقد كشفت عن تداعي الليبرالية، وولوجنا إلى عالم "بعد الليبرالية"، على نحو لا رجعة فيه.

هكذا يستهل المفكر إيمانويل فالرشتاين (1930 ـ 2019) كتابه "بعد الليبرالية" الذي صدر للمرة الأولى بالإنكليزية عام 1995 وترجمه أخيرا الباحث الأكاديمي الجزائري د.محمد حمشي وراجعته الأكاديمية والمترجمة د.عومرية سلطاني، وصدر عن مدارات للأبحاث والنشر، ويؤكد أن كتابه مكرس للمنافحة عن هذا الطرح؛ من خلال مقالات كتبت بين عامي 1990 و1993 وهي حقبة اتسمت بارتباك أيديولوجي كبير، وشاع فيها الاستبشار لكنه كان استبشارا ساذجا لم يئن بعد أوانه؛ سرعان ما أفسح المجال لاحقا لخوف وفزع عارمين إزاء بزوغ حالة من التقلب في العالم.

ويضيف في مقدمته للكتاب الذي حمل رؤية اسشرافية نراها الآن في واقع ما يجري من أحداث في العالم شرقه وغربه "لست أحاول أن أرسم هنا صورة شديدة القتامة، ولست أحاول أن أجعلها وردية اللون؛ غير أنني أومن أنَّ حقبة "بعد الليبرالية" هي حقبةُ نضال سياسي كبرى؛ أبرز وأكثر أصالة من أية حقبة أخرى مرَّت بنا إبان الأعوام الخمسمائة المنصرمة؛ ذاك أنني أرى القوى التي تُفيد من الامتيازات مُدركةً تمام الإدراك أن "كلَّ شيء يجب أن يتغير؛ حتى لا يتغير شيء"، وهي تسعى في سبيل ذلك بكل ما أُوتيت من حذق وبراعة وأصالة.

وأرى قوى التحرُّر وقد تقطَّعت أنفاسها، بالمعنى الحَرفي للكلمة، حين أبصرت اللَّاجدوى التاريخية لمشروعها السياسي الذي أنفقت فيه نحوا من مئة وخمسين عامًا من النضال؛ أعني مشروع التحول الاجتماعي المتأتِّي من طريق حيازة سُلطة الدولة؛ دولة تلو الأخرى. كما أنها ليست تبدو واثقةً من وجود مشروع بديل. أمَّا إخفاق مشروع التلقين بالقوة لدول العالم الذي تستحدمه أمريكا من خلال مؤسسات صندوق النقد الدولي، بل إخفاق استراتيجية اليسار العالمي في الأساس؛ إنما كان لأنهما أُشربا الأيديولوجيا الليبرالية واصطبغا بصبغتها، حتى في أكثر صيغها غير الليبرالية "الثورية" - زعموا- كاللينينية. وإلى أن تتضح حقيقة ما وقع بين عامي 1789 و1989؛ لن يكون هنالك مشروع تحرري يقبله الذهن في القرن الواحد والعشرين".

ويشير إلى أن بناء المجتمع المدني كان نتاج عمل الدول في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية في القرن التاسمع عشر. وطالما بقي بناء الدولة على جدول أعمال النظام ـ العالم خلال الثلثين الأولين من القرن العشرين؛ فإن الحديث عن بناء مجتمعات مدنية في المزيد من الدول لا يزال ممكنا. ولكن مع التدهور الذي خبرته هذه الأخيرة، سيتفكك المجتمع المدني بالضرورة، وهذا التفكك في الواقع هو بالضبط ما يشجبه الليبراليون المعاصرون علنا، ويشيد به المحافظون خفية. إننا نحيا عصر النزعة الجماعاتية والتي تعني بناء جماعات دفاعية، تؤكد كل منها على هوية يتحلق حولها تضامن ونضال من أجل البقاء جنبا إلى جنب مع الجماعات الأخرى وفي مواجهتها. ويكمن التحدي السياسي لمثل هذه الجماعات في الحيلولة دون تحولها إلى مجرد فاعل آخر لمساعدة الناس على التكيف مع المشكلات، (وهو وضع يشوبه الغموض من الناحية السياسية؛ لأنه يعني الحفاظ على النظام؛ من خلال رتق الفجوات التي تنشأ عن انهيار الدول)، ومن ثم تتمكن حقا من أن تصير فاعلا في عملية التحول. ولكنها تكون فواعل في التحول، ينبغي لها أن تكون واضحة بشأن أهدافها المتعلقة بالمساواة، إذ يختلف الكفاح في سبيل حقوق الجماعة؛ بوصفه مثالا للنضال من أجل المساواة؛ تماما عن الكفاح في سبيل حقوق الجماعة في اللحاق بالركب، والارتقاء إلى الصدارة وهو ما بات هدفا غير معقول عند أكثر الجماعات على أية حال.

ويتابع فالرشتاين "لقد ولي عهد ذلك الليبرالي الأيديولوجي الواثق حد العجرفة؛ إذ عاود المحافظون الظهور مجددا بعد غياب إرادي دام 150 عاما؛ ليرسخوا الأثرة السافرة المتخفية خلف قناع الورع والروحانية، بوصفها بديلا أيديولوجيا. وهو ما لا يعقل بالمرة؛ لأن المحافظين نزاعون إلى التعجرف حين يكونون في وضع يسمح لهم بالهيمنة، وينتابهم الغضب والرغبة في الانتقام حين يواجهون تهديدا حقيقيا، أو يتعرضون له. وإنه يتعين على جميع أولئك الذين أغفلهم النظام ـ العالم الحالي، المضي قدما والنضال على جميع الجبهات؛ إذ لم يعد التركيز على الهدف السهل المتعلق بالاستيلاء على سلطة الدولة خيارا متاحا؛ بل ينبغي القيام بشيء أكثر تركيبا؛ أعني ضمان تأسيس نظام تاريخي، من خلال العمل محليا وعالميا في الوقت نفسه. وإنها لمهمة عسيرة لكنها ليست مستحيلة.

ويرجح أن تفتقر حقبة (1990 ـ 2025/ 2050) إلى السلام والشرعية، ويرجع ذلك جزئيا إلى اتضاع مكانة الولايات المتحدة؛ بوصفها القوة المهيمنة في النظام العالمي. لكن السبب يتعلق، في الجانب الأكبر منه؛ بالأزمة التي يعانيها هذا النظام العالمي بوصفه نظاما عالميا.

وتعني الهيمنة في النظام العالمي، بحكم تعريفها، أن هناك قوة واحدة تتمتع بوضع جيوسياسي يؤهلها لفرض سلسلة مستقرة من التوزيع الاجتماعي للقوة. ويؤدي هذا إلى نشوء حقبة من السلام تعني في المقام الأول انتفاء الصراع العسكري ـ ولا نعني به كل مواجهة عسكرية، بل المواجهات العسكرية بين القوى العظمى. كما تقتضي مثل هذه الحقبة من الهيمنة، وينتج عنها في الوقت نفسه ضرب من ضروب الشرعية؛ ونعني بالشرعية شعور الفاعلين السياسيين الأساسيين؛ (بما في ذلك الجماعات غير مثل السكان في مختلف الدول)؛ بأنى النظام الاجتماعي القائم ينال رضاهم، أو أن العالم (التاريخ) يتحرك في ثبات وسرعة شطر وجهة يستحسونها.

ويؤكد إن أزمنة الهيمنة الحقيقية هذه؛ حيث لا توجد قدرة القوة المهيمنة على فرض إرادتها ونظامها على القوى الكبرى الأخرى تحديات خطيرة؛ كانت قصيرة نسبيا في تاريخ النظام العالمي الحديث. وفي رأيي ثم نماذج ثلاثة منها فقط: المقاطعات المتحدة في منتصف القرن السابع عشر، والمملكة المتحدة في منتصف في القرن التاسع عشر والولايات المتحدة في منتصف القرن العشرين. وقد امتدت هيمنة كل منها بهذا المعنى لنحو خمس وعشرين إلى خمسين سنة في كل حالة. وحين تبلغ هذه الأزمنة نهايتها؛ أي تصير القوة السابقة مجرد قوة رئيسة بين القوى الأخرى (حتى لو ظلت الأقوى عسكريا لبعض الوقت) فمن الواضح أن ذلك يصحبه قدر أقل من الاستقرار ومن الشرعية؛ ما يعني سلاما أقل، وبهذا المعنى تختلف الفترة الحالية التي ستعقب الهيمنة الأمريكية اختلافا أساسيا عن الفترة التي تلت الهيمنة البريطانية في القرن التاسع عشر، أو الهولندية في منتصف القرن السابع عشر.

يرى فالرشتاين أن الموضوعات الأيديولوجية التي شهدتها السنوات الماضية وجسدتها المذاهب الإشتراكية والمناهضة للإمبرالية قد استنفذت؛ لذلك برزت أنماط رئيسة للصراع خلقت كل منها صعوبات آنية هائلة للطبقات المهيمنة في النظام العالمي، ولا يبدو أنها تشكل أي تحد أيديولوجي أساسي؛ النمط الأول هو ما يمكن تسميته تحدي البسماركية الجديدة؛ الذي تشكل في صورة الزخم الذي عرفته حالة صدام حسين كمثال، والثاني هو الرفض الأساسي للرؤية الكونية القائمة على ميراث عصر الأنوار. وقد رأينا ذلك في القوى التي تزعمها آية الله الخميني. أما النمط الثالث؛ فهو مسار المحاولات الفردية للحرك الاجتماعي الجغرافي، وهو ما عبر عنه استمرار الهجرة غير الشرعية الهائلة من الجنوب إلى الشمال. هناك ملاحظتان بارزتان بشأن هذه الأشكال الثلاثة من الصراع أولا: من الرجح أن يزيد كل منها أضعافا مضاعفة خلال الخمسين عاما القادمة؛ مستنزفة بذلك اهتمامنا السياسي الجماعي. ثانيا ممن الواضح أن المثقفين اليساريين حول العالم تفاعلوا معها بطريقة شابها الكثير من الغموض؛ إذ بقدر ما تتوجه هذه الصراعات ضد الطبقات المهيمنة على النظام العالمي، وما تسببه له من إزعاج؛ بقدر ما يميل المثقفون اليساريون إلى دعمها. وبقدر ما تكون خلوا من المحتوى الأيديولوجي؛ وبالتالي يحتمل أن تكون عواقبها على المدى المتوسط رجعية وليست تقدمية؛ بقدر ما يميلون إلى الابتعاد عنها مسافة معتبرة.

ويقول أن السؤال هنا يتصل بالخيال المتروك للقوى اليسارية؛ فإذا كان عام 1989 هو نهاية حقبة ثقافية امتدت منذ 1789 وحتى 1989، فماذا ستكون الموضوعات الأيديولوجية الجديدة في العصر الحالي؟ دعوني أطرح سبيلا يمكن اتخاذها.

لقد كانت موضوعات الحداثة في خلال الحقبة التي لتوها مضت، هي فضائل الجديد، وطبيعة التغيير السياسي. وقد أفضت هذه الموضوعات تدريجيا ومنطقيا، كما حاولنا أن نحاجج إلى انتصار الليبرالية، بوصفها أيديولوجيا، أي انتصار الاستراتيجية السياسية مرتبة الكمال.

وطالما أن إطار الاقتصاد ـ العالم الرأسمالي يحوي داخله حدودا بنيوية متأصلة (غير معترف بها)، على فكرة كمال الكيان السياسي، تكون هذه الأيديولوجيا قد وصلت إلى حدودها (في عام 1968 ثم في عام 1989)، وفقدت اليوم نجاعتها. إننا ندلف الآن حقبة جديدة، أصفها بأنها حقبة تفكك الاقتصاد العالمي الرأسمالي. ويبدو أن أي حديث عن تأسيس نظام عالمي جديد هو جلبة في مهب الريح لا أكثر، إذ ما من أحد يؤمن به تقريبا، وهو على أية حال بعيد تماما عن أية إمكانية للتحقق.

ويتسأل فالرشتاين: ماذا إذا وجدنا أنفسنا أمام احتمال التفكك بوصه نقيضا لاحتمال أن يستمر التغيير التدريجي والعادي، ما هي الأيديولوجيات الممكنة حينها؟. ويضيف "يبدو أن الفرد بوصفه محور الأيديولوجيا الليبرالية لن يكون له دور مهم يؤديه حينها؛ إذ لا يمكن لأي فرد الصمود فترة طويلة وسط بنية آخذة في التفكك. حينها سيقتصر خيارنا الوحيدد بوصفنا ذواتا، على تشكيل جماعات تكون كبيرة بما يكفي لتأمين ما يلزم من الملاذ والقوة، لذلك ليس من قبيل المصادفة أن يطفو موضوع "هوية الجماعة" للسطح إلى درجة لم يشهدها النظام العالمي الحديث من قبل.