البيئة النباتية في روايات صبحي فحماوي
كما في رواية "عذبة" نجد في رواية "الإسكندرية 2059" إشارات بيئية تساهم في تشكيل الهوية الفلسطينية، وذلك من خلال تقنية الهندسة الوراثية التي تقوم بدمج الخلية البشرية مع أخرى نباتية، تجسيدا لمفهوم التفاعل والتكامل بين الكائنات، ومن ذلك ما جاء على لسان الراوي وهو يصف (كنعان الأخضر)، فيقول: "شعره عشب نجيل أخضر، يقف مشرئباً كثيفاً نضراً لامعاً، وفي وجهه وجسده لمعة وطراوة أوراق البرتقال وخضرتها!... ويسألك كنعان قائلاً:
-هل يعجبك لون البرتقال يا جدي؟ فتتنهد وأنت تجيبه: 'ما أشهى برتقال عكا الشموطي يا حفيدي. كانت الجنة هناك تحت أقدام البرتقال!'...
يقول لك برهان ونحن خارجون: 'لكثرة ما حدثتني يا أبي عن برتقال عكا اليافاوي، عشقته كثيراً، ولكني لم أتأكد عملياً من شعوري، إلا بعد أن زرت أختي سمر عائداً من فرانكفورت، فوددت أن أبقى هناك ولو عامل قطف برتقال يافاوي، كي أشم رائحة الوطن البرتقالي، ولهذا قررت مزج هذا الكنعاني بلون برتقالها الأخضر، برائحته المنعشة. ولكننا انتبهنا متأخرين إلى إطالة عمر منتجنا الأخضر، فأنتجنا ابنتي تودد من خلية أمها مع خلية ورقة الزيتون، وبعض الحيوانات أنتجناها بالدمج مع خلية ورقة شجرة السنديان، كي تعمِرّ كما يعمِرّ الزيتون والبلوط الفلسطيني"([1]).
إنَّ حنين الشخصيات الروائية إلى البيئة الفلسطينية دليل واضح على ارتباطهم بالأرض وتمسكهم بهويتهم وثقافتهم، فأصبحت العناصر البيئية كأشجار الزيتون والبلوط والسنديان والبرتقال رموزا لهويتهم وإثباتا لذواتهم وكينونتهم، إذ إنَّ حب المكان والانتماء التاريخي للمشهد الطبيعي راسخ في أعماقهم، لذلك ينظر الناقد البيئي إلى "فعل السرد في نصٍّ بيئي معين كعملية دلالية، ويمكن له أن يكشف الكيفية التي تولّد بها المعاني ما فوق الطبيعة ضمن خطابات معينة"([2])، -كما هو مشار إليه في النص السابق-، فتقصي الدلالات والمعاني التي تقف خلف البنى الخطابية للبيئة، هي مهمة النقد البيئي، فالعناصر البيئية أصبحت جزءا لا يتجزأ من الهوية الفلسطينية، فالحدود تتماهى وتسقط في عالم صبحي فحماوي الروائي بين البشر وغيرهم من الكائنات، وفكرة "برهان" في دمج الخلية البشرية مع البرتقال اليافاوي، وأخرى ومع الزيتون، ما هي إلا دلالة على ارتباطهم بوطنهم وهويتهم.
ويتكرر مشهد "البرتقال اليافاوي" في رواية "سروال بلقيس"، ومنه ما جاء على لسان "صالحة السمراء" أحد الشخصيات الرئيسة في الرواية، وباللهجة الفلسطينية، تقول: "كنا في قريتنا صفورية عايشين في عز، خاصة بعد ما بنى لنا أبو خضر بيت حجر نظيف مدقوق يا حبيبي مثل الذهب المشغول،... وكانت بيّارتنا تمتد من غرب صفورية باتجاه البحر، وكنا في الموسم نعبي من صباحية ربنا كل يوم خمسين، ستين صندوق خشب برتقال يافاوي من وزن عشرين كيلو، تلاقي ريحتهن بتفحفح من آخر الدنيا، تقولي عطر هابب علينا مع الضباب الشفاف الندي، أو مع الجو الرطب بعد مطر الشتوية..."([3]).
في سياق تشكيل الهوية الفلسطينية، ومحاولة استعادتها، يهدف صبحي فحماوي إلى تمثيل البيئة الطبيعية بوصفها رمزاً ثقافياً للهوية الفلسطينية، بوساطة بناء ذاكرة بصرية (تذكارية) مستمدة من عناصر البيئة الطبيعية في فلسطين. ولن يفوتنا في هذا النص أن نلفت إلى أنَّ مكونات البيئة ترسم جغرافيا المكان الفلسطيني: بحره، وسهوله وأشجاره، وحيواناته، ويمكن وصفها إعلاناً لتجذر الهوية الفلسطينية، فالبيئة الطبيعية في أرض المهجر أو المنفى توقظ الحنين إلى بيئة الوطن المغتصب، إلى المكان الغائب "بلاد خضراء فيها اللوز والزعتر".
ولعل القدرة على استحضار فكرة حضور البيئة يتسق مع آلية التأكيد على الهوية، فـ"محاولة خلق جغرافيا بصرية أرشيفية، يقوي فعل تعميق الهوية"([4])، فـصبحي فحماوي يسعى إلى توثيق الهوية الفلسطينية قبل النزوح من خلال العناصر البيئية المتمثل بالقرى وما تحتويها من الإشارات البيئية التي تجسدها رواياته.
ومن هنا ندرك أنَّ صورة الهوية تتمظهر كتمثل ثقافي عندما "تتشكل الهوية داخل نسق ثقافي، بل إنَّ وظيفتها هي أن تعكس ذلك النسق وتمثله وتحمله وهي تعني بذلك أنها نظام اجتماعي، طالما أنَّ ما يشكل هوية الفرد من اسم ومكان وميلاد، ومكان العيش ولغة وديانة وأفكار، يكتسبها داخل مؤسسات اجتماعية وتلعب الثقافة دوراً حاسماً في نحت الهوية الثقافية للأفراد والجماعات"([5])، وذلك لأن الهوية تتفاعل داخل الأنساق الثقافية المختلفة وتتجلى بصورة واضحة فيما يسمى بـ"الهوية الثقافية" من خلال مرجعيات مكانية وبيئية.
وتستكمل رواية "حرمتان ومحرم" حكاية الذات الباحثة عن الهوية، عندما يتذكر "أبو مهيوب" روائح وعطور حمضيات يافا، فيقول الراوي: "كان أبو مهيوب مُصراً على إنجاح تجربته، وهو يُطعم عدة براعم ليمون وبرتقال وكلمنتينا ومندلينا وكمكوات وبوملي وجريب فروت، على شجرة خشخاش واحدة، بناء على طلب رجل ثري ذي مزاج رائق من أهالي الواحة، فراح يُطعمها وهو يشم رائحتها العطرة، ويتذكر زهور برتقال وليمون وحمضيات يافا واللد وغزة، البيارات التي تهب روائح عطورها على تلك السفوح، فتصل منها إلى روابي القدس، فيشم مها المصلون في المسجد الأقصى وكنيسة القامة، والفلسطينيون القابضون على الجمر، روائح الجنة..!"([6]).
يسعى "أبو مهيوب" بكل ما أوتي من قوةٍ أن يصون الهوية، ويبني الذات، وينبذ التشرد، ويتمسك بالحياة، من خلال عمله في الحدائق، فهو من الشخصيات التي تمتلك وعياً بيئياً، ولديه خبرة في التطعيم والزراعة. ولكي يشغل الفراغ الذي خلفه التهجير في دول الخليج، راح يعمل في حدائق الميسورين والأغنياء، فتذكره روائح الحمضيات وعطورها بذاته المتشظية وتعيد إليه كينونته وهويته، وبتقنية (الفلاش باك) يسترجع ذكرياته لزهور وبرتقال يافا وغزة، فيطلق عليها "روائح الجنة"، فيرسم صورة متخيلة لذلك المكان في محاولة إزاحة ذاكرة اللجوء بذاكرة المتخيل. وهذا يدفع برسالة الارتباط بالأرض، ومحاولة إقامة نموذج للذي سلب من أشجار وبساتين وغيرها على أيدي المحتلين، فلا عجب أن يهتم "أبو مهيوب" بالأشجار، فأشجار الحمضيات وتحديداً البرتقال، تكاد تكون ثيمة أساسية في النتاج الروائي لـصبحي فحماوي، وكذلك من منطلق أنَّ بيارات البرتقال تقع في الشعور الجمعي الفلسطيني، بوصفها رمزاً دالاً على الهوية، فشجرة البرتقال كونها تمثل نسقاً لاستحضار قيم رمزية لمتعلقات الوطن المتروك، فضلاً عن أنها "حالة من فعل الحنين للمكان، وهي نظرة طوباوية تحكم وعي المشتتين، وتتمثل أهم أدواتها باختلاق أشياء توازي ما فقد، أو بوصفها أنساقاً تعويضية للمثال المفقود بتكوينه الفيزيائي، والمعنوي، وهذا بلا شك يعني سلوكاً نوستولوجياً"([7]). يريد الكاتب أن يوصل فكرة مفادها: أنَّ الفلسطيني مهما ابتعد عن وطنه ودياره وقريته، فهو مرتبط بهويته وذاته، ولتأكيد ذلك نجده مرتبط بعناصر البيئة الطبيعية لإثبات انتمائه ووجوده.
كما يتضمن النص أعلاه، فضلاً عن دلالته البيئية على شحنة رمزية تُشير إلى قضية الهوية بين التوتر وبين الاندماج والتكيف بالنسبة للمغترب "أبو مهيوب"، ويتجلى ذلك من خلال عملية التطعيم، فـ"شجرة الخشخاش" ترمز إلى دولة "الرمال العربية" –حسب تعبير الرواية- التي لجأ إليها "أبو مهيوب" والبنتين "ماجدة، وتغريد" بعد اجتياح مخيمهم من قبل قوات الاحتلال، بينما تدل براعم الـ"برتقال، والكلمنتينا، والجريب فوت، والليمون" إلى الفلسطينيين المهجرين في دول الخليج العربي، فهو يحاول جاهداً إنجاح تجربته في المهجر، فهل تثمر وتنجح تجربة النزوح وتتكيف معها الذات الفلسطينية؟ أم تفشل وتعود أدراجها لتصبح فريسة للقلق والتوتر والاضطراب في ما يتعلق بمستوى الهوية والخصوصية الثقافية؟ بوصفها وطناً طارئاً لا تتكيف معه الذات الفلسطينية. ولهذا تتخذ علاقته بـ"بلاد الرمال العربية" المرمزة دلالياً فعل استغلال، ومحاولة للإثراء، وذلك لأن "هيمنة المال على الذهنية الفلسطينية نتيجة الشتات يبدو هاجساً كما إدانة ينتهجها بعض الروائيين في غير عمل، ولكن إذا ما نظرنا بعمق، فسنجد أنَّ هذا السلوك نتج بفعل عوامل نفسية، فالفلسطيني فقد كل ما يملك، ولهذا لم يعد يثق إلا بقدرته على الحصول على المال لمقاومة المستقبل، وفقدان الوطن"([8])، وهذا ما حصل مع "أبو مهيوب" لهذا يلجأ الراوي إلى إقامة نموذج من الذكاء الاجتماعي لاستثمار وتكريس وجوده في الأوطان المستضيفة، "وبالرغم من عودة أبو مهيوب من معسكر الحصار، منفضة جيوبه، أو (على الحديدة)، فلقد تحسنت أشغاله هنا في مدينة الواحة، وصار يخرج معهما مبكراً فيوصل الصبيتين الذاهبتين إلى مدرستهما بينما يتجه هو إلى حدائقه، وفي كل يوم خميس يزور مدير الزراعة فيتحدث معه ويلاطفه، ويدفع له الأتاوة والمعلوم في الظاهر، ويأخذ منه معلومات حول زبائن جدد يرغبون بصيانة لحدائقهم، ولكنه بصراحة، صار يأخذ من الباطن بعض الأعمال التي لا علاقة لمدير الزراعة بها، لا يبلغه عنها، ولا يدفع له أتاوة عليها، بذلك ازداد دخله، فصار لا يعود إلا بعد صلاة العشاء"([9])، وهنا تتمثل العلاقة بين المهجر والبلدان المستضيفة، فـ"مدير الزراعة" يحاول أن يستغل "أبو مهيوب" من خلال دفع "الأتاوة والمعلوم" مقابل عمله في الحدائق، وهذا ما حوّل شخصية "أبو مهيوب" إلى نموذج (براغماتي) نفعي نتيجة عدم القدرة على التكيف والاندماج، أو محاولة استغلاله لواقع التهجير. إنها محاولة للتكيف، ولكن عبر منظور المادة.
هذا وقد بدا لنا مما سبق أن ثمة صورة نمطية قد تكررت في روايات صبحي فحماوي الثلاث "عذبة، حرمتان ومحرم، الإسكندرية 2050"، وقد تجسدت هذه الصورة في تركيز الكاتب على انتقاء شخصيات مأزومة، تبحث عن ذاتها المتشظية، وعن الهوية، وسط الشتات والدمار والتهجير، ومن هنا جاء دور البيئة الطبيعية في تحديد ملامح الهوية الثقافية للذات الفلسطينية، من حيث أنها تشكل نسقاً ثقافياً في تكوين الهوية، وعبر عن ذلك من خلال تمثلات العناصر بيئية في ذاكرة الشخصية الفلسطينية. إنَّ هذه التمثلات البيئية قد توقع الرواية فيما تسميه "لقاء الساعدي" بـ"فخ تكرار النسق وإعادة الإنتاج"، وهو أن يكرر الكاتب "ذات الفكرة في أكثر من نص، مع تغير في الشخوص والعوالم، لكن الفكرة تظل ذاتها، أو يكرر نفس الشخصيات بذات الأبعاد في أكثر من نص من نصوصه، وهذا دليل أنه مسكون بالبيئة النباتية في رواياته"([10]).
[1] الإسكندرية 2025: 37.
[2] نحو ممارسة ما بعد حداثية للنقد البيئي النظري، ضمن كتاب النقد البيئي: 142.
[3] سروال بلقيس: 50-51.
[4] سردية الشتات الفلسطيني (منظور ما بعد كولونياليّ): 90.
[5] لونيس بن علي: الهوية الثقافية: من الانغلاق الإيديولوجي إلى الانفتاح الحواري (قراءة في رواية كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضك)، ضمن كتاب المحكي الروائي، أسئلة الذات والمجتمع، دار الألمعية للنشر والتوزيع، الجزائر، ط1، 2014: 157.
[6] صبحي فحماوي: حرمتان ومحرم، دار الهلال، القاهرة، ط1، 2007: 163.
[7] سردية الشتات الفلسطيني (منظور ما بعد كولونياليّ): 213.
[8] سردية الشتات الفلسطيني (منظور ما بعد كولونياليّ): 231.
[9] حرمتان ومحرم: 162.
[10] لقاء موسى الساعدي: الرواية العراقية وفخ تكرار النسق وإعادة الانتاج، مقال منشور في صحيفة العالم الجديد، 2018.