فيغاريلو يؤرخ للتعب بكل أوجهه الصامتة وغير المرئية

الأستاذ بكلية الدراسات المتقدمة في العلوم الاجتماعية يتتبع في كتابه تطور مفهوم الارهاق عبر العصور في رحلة استكشافية تجوب مسافة خمسة قرون حيث تعبر تاريخ الجسد والحساسيات والهياكل الاجتماعية والعمل والحرب والرياضة وصولاً إلى تاريخ العلاقة الحميمة.

شهد القرنان العشرون والحادي والعشرون اتساعا عارما في مجال التعب: "ضغط نفسي"، و"إجهاد" و"احتراق نفسي"، و"إجهاد ذهني". وامتد الانهاك من مكان العمل إلى المنزل ومن وقت الفراغ إلى السلوك اليومي. إن ما يقارب من ثمانية من عشرة نشطين يستعملون في المقام الأول كلمة "ضغط نفسي" لوصف العمل، وأعلن أكثر من ثلثي المأجورين أنهم سبق وتعرضوا لإجهاد ذهني.

يكشف جورج فيغاريلو الأستاذ بكلية الدراسات المتقدمة في العلوم الاجتماعية في كتابه "تاريخ التعب"، هذا الكتاب الفريد عن تاريخ لم يُدرس بعد، تاريخ غني بالتحولات والمفاجآت، من العصور الوسطى إلى يومنا هذا. تتبع فيغاريلو في دراسة الاجتماعية الموثقة بشكل ملحوظ تطور مفهوم التعب عبر العصور. وذلك في رحلة استكشافية رائعة تجوب مسافة خمسة قرون حيث تعبر تاريخ الجسد والحساسيات، والهياكل الاجتماعية والعمل، والحرب والرياضة، وصولاً إلى تاريخ العلاقة الحميمة. لتسليط ضوء جديد على حاضرنا الذي يعد الأسوأ من حيث تزايد التعب واتساع أشكاله الجسدية والنفسية.

يقوم الكتاب الذي ترجمه محمد نعيم وصدرة عن دار صفحة على فرضية مفادها أن تحقيق الاستقلالية، حقيقية كانت أو مفترضة، التي اكتسها الفرد في المجتمعات الغربية، واكتشاف "أنا" أكثر استقلالية، وتزايد الحلم بالانعتاق والحرية قد زاد من صعوبة العيش مع كل ما يكره ويعيق، ولاسيما إذا أضفنا إلى ذلك الوعي بالعقبات المحتملة، وبصنوف الهشاشة والقابلية للعطب. تفاوت مؤلم وثقيل ومضيف للإعياء ولعدم الرضى كذلك. ولا يمكن للتعب في هذه الحالة إلا أن يشتد وينتشر في صمت، ويهدد اللحظات العادية أو غير المتوقعة، ويقوي وجهه الداخلي. إنه يفرض نفسه في الفضاء العام، وفي العمل، وفي الفضاء، وفي العلاقات مع الأقارب، وكذلك في علاقات الذات مع نفسها.

وفي ضوء ذلك يوضح أن التعب اقترن خلال العصر الوسيط بأجساد المحاربين المنهكين أو المسافرين، مثل أولئك الحجاج الذين كانوا يتحملون المعاناة في رحلات طويلة، يبتغون منها خلاصهم. أما في الفترة الكلاسيكية، فقد اقترنت الشكوى من التعب بنخبة أصحاب العباءة وبالمهن الجليلة وقتئذ، ومن ذلك "تعب البلاط" الذي وصفته السيدة مانتونون. ويجب أن ننتظر حلول القرن التاسع عشر لنسمع عن تعب العمال أو الشغالين كما في روايات إميل زولا على سبيل المثال. وارتبط القرن الثامن عشر المسمى عصر الأنوار، باختلال نظام التحفيز الكهرباي الذي يتم تعويضه بوسائل الإستثارة، بينما ركز القرن التاسع عشر على الطاقة وخسارة السعرات الحرارية، وهو ما كان يجري تعويضه بالغذاء، أما القرن العشرين الذي تميز بالتضخم التكنولوجي والتوسع العمراني وظهور علم النفس، فقد شهد ازدهار مفهومي الإرهاق والتعب. ويذهب الكتاب إلى أن الاحتراق النفسي الذي يسم عصرنا هذا يظهرنا، في الواقع، على "تعب تحقيق الذات"، الناجم عن التوتر المستمر بين "الذات المتضخة" الخاصة بالأفراد الراغبين في اختيار حياتهم، وبين القيود المتعددة، المهنية والاجتماعية، التي لا يمكنهم الافلات منها.

يقول فيغاريلو إن اللفظتين اللاتينيتين fatigatio أو defatigatio تكشفان عن أقدم أصل لكلمة تعب؛ تعبيران يشيران إلى نسب مباشر بين الأمس واليوم، اشتقاق شبه ميكانيكي يمكن أن يشير إلى أن لا شيئ من رؤية العياء والانهاك، سيتغير مع الوقت. ذلك أن التعب هو في قلب الإنساني، وهو ضعف حتمي يجسد "نهايته" على غرار المرض والشيخوخة أو الموت. إنه يرمز إلى هشاشته و"نقصانه"، ويشير إلى عائق واسع الانتشار، عائق داخلي نابع من حدود وجوده الخاص، وعائق خارجي نابع من العالم وإكراهاته ومن تناقضاته. لا شيئ مرضي هنا، وإنما يتعلق الأمر بأكثر أوجه القصور ابتذالا. مثلما لاحظ دو موباسان بشكل عادي جدا حين قال "وفي الأخير أنهكه التعب الشديد؛ فنام".

ويضيف "مع ذلك شيئ يتغير، كل شيئ يكشف عن تاريخ أكثر تعقيدا مما يبدو، وأقل خضوعا للدراسة أيضا؛ تاريخ غني بالتحولات التي تشير إلى تحولات أخرى، معيئا توظيف الفاعلين والثقافات والمجتمعات؛ لأن إدراك التعب في الإطار الذي هو إطارنا نحن، إطار تاريخ الغرب، يتنوع من حقبة إلى أخرى، ويتبدل تقويمه، وتتغير أعراضه، وتنتظم كلماته، وتتسع تفسيراته. مسار هائل؛ حيث علينا عبور تواريخ عديدة: تاريخ الجسد، وتاريخ تمثلاته وممارسات الصحة، وتاريخ أشكال الوجود والكينونة، وتاريخ البنيات الاجتماعية، وتاريخ الحرب أو الرياضة، فضلا عن تاريخ بناءاتنا النفسية ووصولا إلى حميميتنا".

ويرى فيغاريلو إن أشكال التعب "المتميزة"، تلك التي تحشد القيل والقال، والتي تفرض نفسها بوصفها أولوية في أعين الجميع، هي التي تتطور مع الوقت. لقد تبين أنها "فئوية" وتخلق أوساطا. إنها تستجيب لنظم اجتماعية، وتشير إلى أنماط وجود جماعية. إن تعب المحارب مركزي في العصر الوسيط، منطق بحثنا، داخل حضارة يجسد فيها الجيش القيمة الأولى. إنه ميجل ومضخم، في حين أن تعب الفلاح محتقر. ويحتسب التعب حتى في خوض المبارزات، التي كانت في القرن الخامس عشر تعلي من شأن المنتصر، حسب عدد الطعنات التي يبديها المحاربون وقت التحدي.

ويشير إلى أن كل شيئ تغير في المجتمع الكلاسيكي؛ حيث صاحب العباءة يفرض نفسه، وحيث تزداج هيبة أنشطة الإدارات والمكاتب. إن ممول لافونتين ومحامي لابرويير يشيران إلى أوصاف جديدة، ويوضحان عياء خاصا، وينفتحان على مجالات اهتمام غير معروف. كل شيئ يتغير مرة أخرى مع تعب العمال في القرن التاسع عشر، عندما فرض الإنتاج نفسه بنجاحاته وأخطاره: تغلب عليه حضور أشكال الوهن وأقلقته شدته، ودقق حسابه أيضا لأجل التوفيق جيدا بين العائدات والتوفير والفعالية، ولكن أيضا لإدانته منذ فيليرمي إلى ماركس. في حين أن مجتمعنا "الرباعي"، مجتمع الحواسيب والمكاتب، يوجه نحو أوجه تعب صامتة، وغير مرئية؛ حيث يحل العبء المعلوماتي محل العبء الجسدي، وحيث تظهر التمزقات الشخصية أو الجماعية، غير المتوقعة أحيانا، بعد مسارات من معاناة مقنعة.

ويوضح أن تمثلات الجسد وتغيراته توجه أيضا إدراك التعب. وتربط أقدم صورة لـ "حالة" التعب بفقدان الأخلاط؛ فالجسد المتعب هو جسد ضعيف، والانهاك هو تسرب للمادة وانهيار للكثافة. صورة "بسيطة" بدون شك نشأت مع الزمن القديم، وخلقت يقينا مفاده أن عناصر الجسم الثمينة هي سوائل، وهي نفسها تتسرب مع الجروح، وتحترق مع الحمى، وتغادر مع الموت. وينظم كل من التجفيف والترطيب، إذن، أعراض الجسد المتعب وترميماته، إن الجسد المنزوف يشكل الحد والمنتهى وكذلك الإحساس به.

ويقول إن الأخلاط لم تعد في عالم الأنوار هي التي تعطي المعنى للتعب، بل الألياف والشبكات والـ "تيارات" والأعصاب. لقد ظهرت أعراض جديدة وسمات أخرى أخذت بعين الاعتبار، مفادها أن الانهاك مرتبط بإثارة مفرطة وغير متحكم فيها بشكل جيد، وأن الضعف ناتج عن التوتر المتكرر أو المستمر لفترة طويلة. لم يعد النقصان مرتبط بفقدان المادة، بل بعدم وجود تحفيز. أحاسيس جديدة قد فرضت نفسها باشتغالها مع الشعور بالفراغ وغياب التحفيز، وذهاب النشاط. من هنا البحث عن "منشطات"، وعن منبهات معينة، وليس فقط عن معوضات سائلة والبحث عن مقويات خاصة. أيضا الصورة تتغير أيضا عندما يذهب المبدأ إلى الطاقات، وعندما يفعل الاحتراق العضوي فعله، وفق النموذج الآلي للقرن الثامن عشر. إن الفقدان، إذن، هو فقدان للحماسة، وفقدان للقوة المجسدة في "المردودية"، وفقدان للإحساس بقوة أبطلت، في حين ينضاف أيضا يقين اجتياح النفايات الكيميائية للأجساد وجعلها تعاني. من هنا البحث عن سعرات حرارية، وطرد السميات والمضرات.

ويلفت فيغاريلو إلى أن إدراك التعب اليوم يتم في اللغة الرقمية، مفضلا الرسائل الداخلية، والأحاسيس وربط الاتصال وقع الاتصال. من هنا كان اللجوء المتزايد إلى الاستجمام وإلى الاسترخاء. ومن التركيز غير المسبوق على السيكولوجيا، وعلى العلائقي والبحث عن التفاعل، وعن الأحاسيس أيضا، وتلك التي تتجدد ببطء. ومع الوقت تتضح تدقيقات وتدرجات، فحضارتنا تبدع حساسيات وتخلق فروقات دقيقة، وتوجد بشكل تدريجي أصنافا من التعب لم تكن موجودة فيما مضى، وتكشف مع مجرى التاريخ حالات كانت لوقت طويلة مهملة. لقد ظهرت كلمات جديدة وتكشفت أعراض جديدة. فـ "الفتور" مثلا، الذي أثاره أثرياء القرن السابع عشر الذين يشكون من أوجه ضعف وهشاشى لم تكن إلى ذلك الوقت معروفة، أو "التصلب العضلي" الذي أثير مع ثقافة القرن الثامن عشر الحساسة، يشير إلى آلام خفيفة، لم يكن لا يبالي بها في السابق، وتظهر بعد مجهود غير مستعد له. إن "السقم" الذي ظهر أيضا مع عالم العمال في القرن التاسع عشر، يوحي بضعف شديد يصيب الأجيال، هو نتيجة للعوز بقدر ما هو نتيجة للأعمال المفرطة. تتبدل الحدود، وتنشأ تفاوتات جديدة مدمرة للأرواح وللأجساد.

ويؤكد أن عالم القرن العشرين والحادي والعشرين، عصر إضفاء الطابع السيكولوجي المكثف على السلوكيات والأحاسي، قد أدخل اختلافات غير مسبوقة. أكيد أن المشقة البدنية، موضوع صراعات من أجل الاعتراف بها، لم تختف. ولكن تركز الانتباه على الآثار المتعددة للغاية: الهم والقلق، واستحالة تحقيق الذات. وينضاف إلى التعب الناشئ عن مقاومة الأشياء تعب ناشئ عن مقاومة الذات. نزاع داخلي، وشخصي، إن لم نقل حميميا. فهو في داخل كل واحد حيث تنكشف أيضا العوائق وأوجه العجز؛ وإنه في داخل كل واحد حيث تتأصل أيضا حالات الضعف والانهيار. كل شيئ يتضخم عندما تحول الصيغ الجديدة للتدبير الإداري إلى الضد؛ القيم الفردية لصالح الربح السريع، مولدة عوزا وهشاشة متنوعة، وتنقلات مهنية غير مرغوب فيها. إن الكل يؤدي إلى تناقض جد راهني مفاده "مستهلك لديه القدرة على أن يتخذ القرار، وعامل فقد تلك القدرة ومواطن يطالب بها". إحباطات شخصية طالما تمت مساءلتها منذئذ.

ينقل فيغاريلو اقتراح إريك فيات دفاعا جد متميز، يتألف من وعي واهتمام بالقدر نفسه، ويقظة مستمرة مهدئة، وساكنة: " إن التعب، على كل حال، متعددة الأشكال إلى درجة أنه لا توجد فرصة للسيطرة على هذا العدو الذي يخرج من كل مكان. أقترح التخلي عن استعارات القتال وأن أكون القصبة في خرافة لافونتين. يريد بعض الرجال أن يكونوا أن يكونوا أشجار سنديان لا تتعب. المشكلة هي حينما تصل الريح، يقاوم السنديان، ثم تقتلع جذوره في الأخير. أن تكون قصبة يعني أن تقبل التعب". ذلك انقلاب كبير أبرز مكانه الحميمي وعمله وعمقه وديناميكيته الحاضرة دائما في قلب مجتمعاتنا الغربية المعاصرة، بعيدا عن تقليد طويل يجعل التعب في الجسد وماديته فقط. انقلاب كبير أخيرا حيث إنه وفي عمق الوعي، وبالأخص  أن هذا العمق قد ازداد، غدا التعب نمطا من الوجود ثابتل وتافها في الآن نفسه، الشيئ الذي فرض في النهاية، للقيام بتحالف معه (أي مع التعب نفسه) للتطابق بشكل أفضل مع الذات. أصبح التعب والضعف المنتشر وعدم الرضا الغامض، والعجز العاصي أنماطا لوجودنا الحاضر.  

يصل فيغاريلو إلى وباء كوفيد ـ 19 الذي ظهر بنهاية 2019 والذي تأجج فجأة، وانتشر فجأة، وقلب السلوكيات اليومية، وحول جذريا العادات على أوسع نطاق، ويوضح إن الوباء أحدث ثورة في العديد من عاداتنا، وهون من الأخطار، وجعلنا نعيش في فضاء وزمن بشكل مختلف، وصنع مشقات، على الرغم من أن مخيال التعب الذي صاحب هذا السوء (كوفيد ـ 19) لم يتغيرحقا.