'العلمانية على محك أصوليات' تتصارع لكنها تتناسخ

الباحثتان الأميركية كارولين فوريست المتخصصة في اليمين الديني المسيحي والفرنسية فياميتا فينير المتخصصة في الحركات الأصولية الكاثوليكية تريان في كتابهما ان الاعتقاد بوجود همجية خاصة بالإسلام خاطئ تماما.

"إلى الذين يقاومون الأصوليات جميعا وإلى ضحاياها، وبشكل خاص: إلى لطيفة، طالبة فرنسية اخترقت جسدها أربع وعشرون طعنة سكين بيد والدها المسلم، لأنها أرادت الزواج من شاب كورسيكي. إلى سبرينغ آدمز، شابة أميركية في عامها الثالث عشر، قتلها والدها، وهو مسيحي من حركة أنصار الحياة، ببارودة ذات مضخة، لأنها أرادت إجهاض جنينها من والدها الذي اغتصبها. وأيضا إلى أنور السادات الذي اغتاله أصولي مسلم لأنه أراد السلام مع إسرائيل. إلى إسحاق رابين الذي اغتاله أصولي يهودي لأنه أراد السلام مع الفلسطينيين".

بهذا الإهداء تفتتح الباحثتان الأميركية كارولين فوريست المتخصصة في اليمين الديني المسيحي في الولايات المتحدة، والفرنسية فياميتا فينير المتخصصة في الحركات الأصولية الكاثوليكية بفرنسا، كتابهما "العلمانية على محك الأصوليات اليهودية والمسيحية والإسلامية"، حيث انغمستا في وثائق وشهادات ومقابلات ونصوص المقدسة دحضا لفكرة أن الإسلام وحده هو الذي يمكن أن يؤدي إلى الهمجية، وذلك من خلال دراسة التأثير الخاص والمتضافر لكل أصولية من ألأصوليات اليهودية والمسيحية والإسلامية، الموحدة بالالتزامات نفسها. ولمزيد من الدقة فإن المستهدف في هذا الكتاب المهم هو المقارنة بين التظاهرات السياسية الجذرية للحركات التي تتبنى مبادئ التوحيد والمسماة أيضا "الأديان الإبراهيمية": اليهودية والمسيحية (كاثوليكية وبروتستانتية) والإسلام. وقد بدت هذه المقاربة العرضانية للمؤلفين الوسيلة الوحيدة لتفادي التنديد والوصم لصالح القيام بتحليل ملموس وظرفي".

تتساءل كل من فوريست وفينر في كتابهما الذي ترجمه غازي أبو عقل وصدر دار بترا: هل يتقاسم الأصوليون المسيحيون واليهود والمسلمون ـ في الواقع ـ نظرة واحدة متشابهة إلى العالم؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب، هل يكون وقع أفكارهم على حياة الآخرين وتأثيرها متماثلين تماما؟ وإذا كان الجوال بالسلب أينبغي لنا البحث عن تفسير هذا الاختلاف في طبيعة دينهم نفسه أو في السياق الذي يتحركون فيه والخاص بكل دين، آخذين بالاعتبار وزن المقاومات والكوابح المضادة التي يواجهها كل فريق منهم؟. غير أن المسألة الحقيقية التي يطرحها الكتاب تظل كما هو آت: أيخوض السلفيون حربا بعضهم ضد بعضهم الآخر، أم أنهم يعملون معا لإتلاف الديمقراطية والعلمانية وإفسادهما، وغايتهم تحقيق هدف مشترك، مع احتمال تعزيزكل منهم الآخر وتقويته؟ وبصيغة أخرى، هل يمثل خط الصدع الحالي بينهم صدام حضارات أم على النقيض صدام أفكار بين الثيوقراطية والديمقراطية؟.

وتوضح فوريست وفينر أنه من أجل الإجابة على هذه الأسئلة لابد من الافصاح عما تعنية كلمة "الأصولية"، ويقولان "تعني الأصولية في رأينا تجلي مشروع سياسي هادف إلى إلزم مجتمع ما، بدءا بالفرد وانتهاء بالدولة، باعتماد قيم ناتجة، لا عن توافق ديمقراطي، بل عن رؤية للدين صارمة متشددة أخلاقية. تكلم فولتير في المعجم الفلسفي عن المتعصبين بهذه العبارة "ناس مقتنعون بأن الروح القدس الذي يملؤهم هم فوق القانون"، هذه السمة هي بالفعل ما نبحث عن ملاحقته عن السلفيين، حتى لو كانت كلمة متصعب اتخذت بمرور الزمن رنينا مشوشا لا يتيح لنا اللجوء إليها باضطراد منتظم.

ومن أجل دراسة سائر أوجه الأصوليات والمقارنة بين مظاهرها، انتقت الباحثتان خمسة موضوعات كلها سياسية حتى ولو أمكن تصورها متنقلة من الأكثر خصوصية إلى الأكثر عمومية؛ فموضوع حقوق النساء، موضوع حقوق التناسل والمسألة الجنسية، موضوع التسامح الثقافي، موضوع النفوذ السياسي الضاغط على الدولة، وأخيرا موضوع النشاط العنيف والإرهابي. لقد اعتمد جيل كيبل على التمييز بين "الفتح الأعلى"، عندما يحاول المتطرفون الدينيون الاستيلاء على مواقع سلطة في قمة التراتبية السياسية، وبين "الفتح من الأسفل" عندما يركزون جهودهم على التبشير ميدانيا. نحن نتقاسم مع كيبل هذا التمييز، وسنعتمده في تحليلنا، ولكن مع محاولتنا عدم الوقوع في حبال الإغراء القائل بأن أحدهما أكثر من الآخر. وبالفعل يميل كثيرون من المراقبين إلى ألا يعيروا انتباها لظاهرات تدخل الحركات المتطرف إلا إذا عبرت عن نفسها في المجال السياسي المصنف كذلك رسميا ـ كالمساهمة في الانتخابات أو القيام بنشاط إرهابي، في حين أننا، نحن، لا نقلل أبدا من أهمية تأثير هذا التدخل نفسه على الحريات الفردية، كحقوق النساء أو حقوق الأقليات.

وأكدت فوريست وفينر أن المقارنة بين الأصوليات اليهودية والمسيحية والإسلامية لكي نفهم هل أفعالها متفارقة أم متلاقية؟ وقد أعاد المشروع إعادة اكتشاف واقع أول يحجبه وهم صدام الحضارات، فعلى الرغم من أن متطرفي التوحيديات الثلاث يعطون الانطباع أنهم يتشاطرون القيم نفسها ويحلمون بعالم متقارب للغاية. ليس في هذا القرب ما يدهش، فاليهودية والمسيحية والإسلام، تتقاسم، بعد كل شئ، المرجعيات النصية نفسها، والمرجعيات النبوية نفسها، وتصدر ثلاثتها عن إرادة واحدة في التمايز عن الشرك وتعدد الآلهة بالانتماء إلى التوحيد. وأولئك الذين يتمنون تطبيق هذا الإرث من دون إعادة وضعه في سياقه، لهم جميعا هدف واحد يعطونه الأولوية، هو إجبار المثل الأعلى الديمقراطي والعلماني على الانكفاء باسم قانون إلهي أسمى من قانون البشر. لكن ليس لهذا المشروع ـ بالتأكيد ـ الواقع نفسه، ولا المفعول نفسه دائما. فمع أن الأصوليات الثلاث هي ـ بالبداهة ـ توائم على صعيد المقاصد، فإنه من الخطأ التأكيد أن الأصولية الإسلامية لا تمثل خطرا متفاقما. فالإسلاموية تحتل بالفعل موقع القطب عند الأصوليين. وهي اليوم في الموضع الأفضل لفرض إملاءاتها وإرهاب أولئك الذين يقاومونها. غير أن هذه القوة لا تفترق في الجوهر عن نظيرتيها اليهودية والمسيحية. فمقدرة الأصوليين على الأذى مرهونة قبل أي شئ بالمقاومات التي تلاقيها. والحال أن الأصولية الإسلامية تلاقي معارضة أقل من تلك التي تلاقيها الأصولية اليهودية والمسيحية، وهذا لمجرد أنها تنشط في عدد مهم من البلدان التي تستلهم الدين في قانونها العام، مما يجعل الإسلاميين متفوقين على العلمانيين، حتى ولو كان الإسلاميون عرضة لاضطهاد النظام السياسي القائم. فهذه القدرة الزائدة على الأذية لا صلة لها بالدين بل هي عائدة إلى توظيف الدين كأداة سياسية.

وقالتا "إننا نجازف بتخييب أمل من يريدون الاعتقاد بوجود همجية خاصة بالإسلام؛ فليس القرآن هو المسؤول عن التخلف الديمقراطي والدنيوي للبلدان الإسلامية. فهو كالأنجيل، قابل لأن يستدعى بين لحظة وأخرى إلى نجدة المسلمين المنادين بالفصل بين الديني والسياسي على نطاق واسع. والآية الشهيرة "أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله" تجد مكافئا إسلاميا في سورة الشورى "وأمرهم شورى بينهم". وكما توجب على المواطنيين الذين يعيشون في بلدان ذات ثقافة مسيحية أن يقاتلوا لكي ينتزعوا العلمانية من السلطان الديني، يقاتل مسللمون ليبراليون اليوم لكي يعيدوا إلى هذه الآية عزتها. إنهم الأُوّل الذين يحلمون بإسلام منعتق من السياسة، وحر في العودة إلأى المجال الخاص، في حين أن القانون العام سيملي بالشورى الفعلية والديمقراطية، ومن أجل هذا يخوضون حربا مرهقة للغاية ضد الإسلاميويين. ولن يكون بوسعهم الانتصار في هذه الحرب من دون مناه دولي مُهَدّأ لا يقدم البتة للإسلامويين الفرصة لينصبوا أنفسهم أبطال عالم عربي إسلامي مهان ومهدد بالتقسيم تحت ضربات الهيمنة الغربية أو الاحتلال الإسرائيلي. والحال في هذا المجال تحديدا، تتدخل الأصوليتان ـ اليهودية والمسيحية ـ في اتجاه يفيد الإسلامويين على حساب العلمانيين.

وأضافت فوريست وفينر "إلى جانب الأصولية الإسلامية، تعطي الأصوليتان اليهودية والمسيحية الانطباع بكونهما ظاهرتين هامشيتين، أو على الأصح فوللكلوريتين، وعلى أي حال بلا أهمية. بيد أن مقدرة الإسلاميويين على الأذى ما كانت لتكون كما هي عليه الآن لولا نشاط الأصوليين اليهود والمسيحيين في بعض المناطق الحساسة في العالم كأميركا والشرق الأوسط.

ولفتتا أن نفوذ الأصوليين المسلمين يمتد، حتى باستثناء القاعدة، إلأى أركان العالم الأربعة بفضل المقايضة: "أصولية أكثر لقاء إرقاب أقل" التي يمارسها قادة البلدان الإسلامية. ويساعد على امتداد هذا النفوذ أيضا الحقد المناهض للولايات المتحدة، وثقافة الاستشهاد النامية نتيجة النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، وبفض الإمكانات الضخمة التي تصل إلى الأصوليين من بلدان الخليج. وتؤدي ضغوط الأصوليين المسيحيين على حكومة القوة الأولى في العالم الى تأجيج الشعلة الإسلاموية، بخاصة عندما يدفعون الحكومة الأمريكية إلى خوض حرب ضد الإرهاب تحت رايات حملة صليبية مسيحية، مما يغذي دعاية الأصوليين الإسلامويين. وكذلك لأنهم يردعون حكومة الولايات المتحدة عن انتهاج سياسية مضادة للأصولية، وليس فقط مضادة للإرهاب، مما يشكل أوثق وسيلة لإدامة التعصب. أخيرا لأن اليمين الديني في الولايات المتحدة يدعم الليكود بملايين الدولارات، كما يدعم الأصوليين اليهود لمساعدتهم على احتلال الأراضي مما يحبط مسيرة السلام في الشرق الأدنى.

وأكدت فوريست وفينر أنه لا تزدهر أية أصولية وحدها حتى عندما يكره الأصوليون بعضهم بعضا‘ فإن كلا منهم يعزز موقف الآخرين. يستخدم بات روبرتسون الإنجيليين التلفازيين الذين يؤمنون بـ "أن الله لا يصغي إلى صلوات اليهود"، ومع ذلك فهو أفضل حليف للأصوليين اليهود. ويصرح جيري فالويل أن "محمدا إرهابيا" في حين يعمل اليمين الديني في الولايات المتحدة بالتنسيق مع بلدان المؤتمر الإسلامي، كلما تعلق الأمر بالنضال ضد قوانين الإنجاب والحقوق الجنسية في الأمم المتحدة. ويدعي الأسوليون اليهود أنهم يقاومون الإسلاميويين، بينما لا تفعل مستوطناتهم ونداءاتهم الداعية إلى الكراهية إلا تقديم الماء إلى طواحين أكثر دعاة القضية الفلسطينية تطرفا. وبفاصل لا يتعدى بضع سنوات، نجح الإسلامويون الذين اغتالوا السادات ـ أول رئيس مصري يفتح الحوار مع إسرائيل ـ والأصوليون اليهود الذين اغتالوا إسحاق رابين ـ الإسرائيلي الوحيد القادر على التفاوض مع عرفات ـ نجح كل منهم من جانبه في تجميد مسيرة السلام بصورة دائمة. وقد دب في الموقف العام التعفن، فأتاح إدامة الحقد الذي يتغذون عليه. وكلما استمر التوتر تعززت سلطتهم على الأفراد. تلك النقطة الرئيسية المشتركة بين الأصوليين اليهود والمسيحيين والمسلمين؛ الاستفادة الدائمة من حالة الفوضى، وهذه قاعدة قديمة قدم العالم. فقد كان الخوف يضع العقلانية دائما موضع الخطر، وكأن الخوف يخدم دائما التعصب. والأصوليون يعرفون ذلك. وحتى أن يتشاوروا في ما بينهم تنحو برامجهم منحى واحدا وتتلاقى.