تشكيلات لغوية في 'رماد الأسئلة الخضراء'

مسيرة الشاعر الراحل محمد إبراهيم أبوسنة كانت حافلة وجديرة بالتأمل والملاحظة واستقراء تطور الشعر العربي المعاصر من خلالها.

مسيرة شعرية حافلة وجديرة بالتأمل والملاحظة واستقراء تطور الشعر العربي المعاصر من خلالها، لأنها بالتأكيد جمعت من حولها خيوط النجاح الشعري والأدبي، فهي لا تصدر من فراغ ولا تعبر إلا عن قيمة شعرية فنية إنسانية جمالية. تلك هي مسيرة الشاعر الراحل محمد إبراهيم أبوسنة (1937 – 2024).

بدأ الشاعر أبوسنة مسيرته الشعرية المتميزة بديوان "قلبي وغازلة الثوب الأزرق" عام 1965 والتي استمرت ما يقرب من ستين عاما.

وسوف نتوقف قليلا عند أحد دواوين الشاعر في مقاربة سريعة له، وهو ديوان "رماد الأسئلة الخضراء" الذي احتوى على إهداء وست عشرة قصيدة. يقول في الإهداء: "إلى السحابة الجميلة التي رحلت وما تزال تمطر في قلبي".

أما القصائد فتتراوح بين الذاتية والموضوعية، وتلح على الشاعر فكرة البحث عن السعادة، وهي فكرة سيطرت عليه منذ كتابته قصيدته "امرأة اسمها السعادة" في ديوانه "البحر موعدنا" (1982).

يقول أبوسنة في ديوانه "رماد الأسئلة الخضراء":

من هذي الحسناء

وتنهَّدت الأشجار

تبدَّلت الأنهار

تكلَّمت الأشياء

رقصتْ في قلب "الجوقة"

فاحمرَّت أحجارُ القلبِ الخرساء

غنت زلزلت الأرض

وفاض حنينُ الأشواقِ الرعناء

وفكرة البحث عن السعادة فكرة إنسانية عالمية عبَّر عنها شعراء كثيرون على مر العصور، ولكنها تتحول إلى خصوصية ذاتية عند أبي سنة تتجسد أكثر في قصيدة "عاشقان"، ولكنها تصطدم  في النهاية بالقيود النفسية والحاجز الطبيعي، وخاصة عندما تتحول تلك الفكرة السامية إلى مجابهة واقعية محتدمة.

في قصيدة "عاشقان" يعتمد الشاعر تشكيلا لغويا جديدا من حيث استخدام المثنى وألف الاثنين ومعظم التشكيلات اللغوية الناتجة عن هذا الاستخدام والخاصة بالفعل الماضي لدرجة أن هناك العديد من الأفعال الماضية السريعة المتلاحقة التي تشكِّلُ – بمفردها – عددًا من سطور القصيدة مثل:

تكلَّما واحتدما

تلاعنا

تصدَّعا

تهدَّما

تساءلا

بلغ عدد الأفعال الماضية في هذه القصيدة ستة وثلاثين فعلا مقابل فعلين أو ثلاثة أفعال فقط من أفعال المضارعة على امتداد القصيدة، مما يوحي بشيء من الحزن والتحسر واللوعة التي يكابدها الشاعر بعد أن ظنَّ أن السعادة أصبحت بين يديه، وأنه عانقها وعانقته، وأنهما:

تقابلا فابتسما

تكلَّما واحتدما

تعانقا

تماوجا

وارتطما

تفجَّرا هوى

ريحًا

دما

فإذا بكل هذا قبض ريح، وإذا بهما يتباعدان ويتصدعان ويتهدمان، وإذا بالسعادة التي يحلم بها الشاعر أقرب إلى السراب منها إلى التحقيق.

ويبدو أن هذا التشكيل اللغوي قد أعرى الشاعر فاستخدمه مرة ثانية، ولكن بطريقة مغايرة في المقطع الخامس من قصيدة "لحنان في ليل أزرق" حيث اعتمد في هذا المقطع على الأسماء والصفات وتثنيتها مثل:

كنَّا لحنين وديعين

بعيدين – قريبين

كبيرين سعيدين

كثيرين وحيدين

حزينين مضيئين

.. الخ

وأيضا تسيطر فكرة السعادة على هذه القصيدة، ولكنها تنتهي أيضا نفس النهاية الدرامية المتوقعة من صعوبة تحقيق هذه الفكرة في عالمنا المعاصر:

أصبحنا في التيه المعشوشب

صنوين

شبيهين

ما صلحا

ليعودا بعد لقائهما

ليكون اثنين

إن ديوان "رماد الأسئلة الخضراء" للشاعر محمد إبراهيم أبوسنة يحتوي على العديد من القضايا الفنية والشعرية والإنسانية التي يعالجها الشاعر بنجاح، ونعتقد أنه لا بد من وقفة أخرى مع هذا الديوان للحديث عن هذه القضايا لنرى كيف تكون القصيدة الجديدة قصيدة ناجحة بالفعل من خلال التشكيلات اللغوية المختلفة.