
صورة روائية لألمانيا بين الحربين العالميتين في 'المسلة السوداء'
ترسم رواية "المسلة السوداء" للروائي الألماني إريش ماريا ريمارك صورة لألمانيا بين الحربين العالميتين الأولى والثانية من خلال الناجين من الحرب العالمية الأولى، وغير قادرين على بناء حياة "طبيعية"، وهي الفترة التي اتسمت بالتضخم المفرط وتصاعد النزعة القومية، حيث تعلم جيل كامل الطريقة المريرة للبقاء على قيد الحياة ولكن ليس للعثور على طريقه في الحياة.
الرواية التي ترجمتها عن الألمانية الكاتبة حنان منير وصدرت عن دار يسطرون، بطلها وراويها لودفيج مثله كمثل معظم أصدقائه، فهو من قدامى المحاربين في الحرب العالمية الأولى. ورغم أنه يطمح إلى أن يكون شاعرًا، فإنه يعمل لدى صديقه جورج، في إدارة مكتب شركة صغيرة لشواهد القبور. ويحاول كسب بعض المال الإضافي كمدرس خاص لابن صاحب متجر كتب، ومن خلال العزف على الأرغن في كنيسة ملجأ للأمراض العقلية في المنطقة.
وبفضل هذا التنوع في الأنشطة نتعرف على صورة ألمانيا في أوائل عشرينيات القرن العشرين، وهي الفترة التي اتسمت بالتضخم المفرط وتصاعد النزعة القومية، يتفاعل لودفيج مع شريحة واسعة من السكان الألمان في مدينته والقرى المحيطة بها، ويسمح لنا أن نشهد هذه التفاعلات. فنرى، مثلا، رجال أعمال ــ بعضهم يحاول التمسك بالمبادئ القديمة فيعلن إفلاسه، وآخرون يضاربون في الأسهم، ويستغلون النظام ويثرون بطرق أخلاقية غامضة. ونرى قدامى المحاربين ــ بعضهم ينتقد بشدة الأساليب القديمة التي قادتهم إلى حرب فاشلة، وآخرون يتوقون إلى أيام الانضباط العسكري القديمة ويتحولون إلى قوميين متشددين يشيدون بفضائل زعيمهم الصاعد، أدولف هتلر.
ترتبط العديد من الأحداث بالنساء. اثنتان منهن تتركان لودفيج، فقط لأنه لا يستطيع أن يطفو في عالم الجشع والمال. اختار أن يظل "نظيفًا"، ربما ليس بمفرده، لكنه لا يستطيع أن يكون شيئًا آخر غير أن يكون مخلصًا لمثله العليا والآن عليه أن يتعايش مع هذا الاختيار. امرأة ثالثة جميلة وحالمة وصوفية، ربما كانت الأكثر أهمية بالنسبة له، هي جينيفيف تيرهوفن، التي التقى بها في ملجأ المجانين. إنها هناك لأنها مصابة بالفصام وتعتبر نفسها "إيزابيل" معظم الوقت. يزداد تعلق لودفيج بها أكثر فأكثر، ويشعر بحب "نقي" لها لأنها ترى العالم بشكل مختلف تمامًا. أنه يحبها، ولكن بطريقة أفلاطونية متحفظة. يراها تبدو أكثر عقلانية من الأشخاص الأصحاء.

تقول الكاتبة والمترجمة حنان منير أن الرواية تأتي ضمن مشروع سلسلة روايات تتناول الحرببين العالميتين الأولى والثانية من وجهة نظر الروائي الألماني إريش ماريا ريمارك، وأنها سبق لها ترجمة رواية "طريق العودة" له ضمن المشروع نفسه.
وتضيف أن إريش ماريا ريمارك يعد أحد أبرز الكتاب الألمان في فترة ما بين الحربين، والذي ازدادت شهرته مع إعادة تقديم أعماله في ألمانيا، بعد أن وصفه الحزب النازي السابق بالخائن، واستخدم (النازيون) رواياته كذريعة لإعدام شقيقته، بعد خروجه من ألمانيا في فترة سابقة. وقد شبه النقاد أسلوبه بأعمال إرنست هيمنغواي، وهو ما علق ريمارك عليه في مقابلة تليفزيونية بأنه أمر يسعده، غير أنه لم يقرأ هيمنغواي سوى بعد خروجه من ألمانيا وإتقانه اللغة الإنجليزية، وإقامته، أخيرا، في الولايات المتحدة.
وترى منير أن تعد ثلاثية ريمارك "كل شيء هادئ على البر الغربي" و"طريق العودة" و"المسلة السوداء" تعد جزءا من سيرته، موزعة على عدة شخصيات، فإن المسلة السوداء، بخلاف طريق العودة، كتبت بعد الحرب الثانية، الأمر الذي جعلها أكثر مرحا في تناولها الساخر من فترة الكساد الهائل ما بين الحربين، وبدايات صعود الحزب النازي. إنها كوميديا سوداء ترصد نذر الحرب العالمية الثانية في فترة غاب فيها الوعي الجمعي الألماني أمام آلة الدعاية النازية، فيما مثل لودفيج (ريمارك) وجيوج وغيرهما مجموعة من المثقفين الذين شهدوا الأحداث كلها، ولم يملكوا شيئا أمام الجنون الذي تجسد رمزا في الأحداث وشخصيا في مستشفى للأمراض العقلية يعزف لودفيج فيها الأرغن، بينما يبيع شواهد القبور في الصباح. وفيما اتسمت "طريق العودة" بنوع من التراجيديا المفرطة في سرد مأزق الجنود العائدين من الحرب، لا هم أبطال، ولا هم مدنيون كما كانوا قبل شهور قليلة، وكيف كان الطريق طويلا طويلا على قصر ززمنه، فإن "المسلة السوداء" تستخدم فنون الجروتيسك وسيلة مركزية في إضفاء نوع من المرح على سرد الأحداث.
يذكر أن إريش ماريا ريمارك روائي وكاتب مسرحي، وكاتب سيناريو، ألماني، وهو أحد الكتاب الأكثر شهرة والأكثر قراءة على نطاق واسع من الأدب الألماني في القرن العشرين. أما المترجمة حنان منير فهي كاتبة ومترجمة عن الألمانية، صدرت لها "شهوة الحكي" نصوص سردية وحرة وترجمت روايتين لريمارك عن الألمانية هما "طريق العودة" و"المسلة السوداء"، وتعمل على ترجمة جديدة لواحد من أعمال هيرمان هسة غير الذائعة، وعدد من النصوص الشعرية الألمانية المعاصرة.
مقتطف من الرواية
نعود بعد الظهر إلى المكتب، وبعد مرور ساعة نسمع صراخًا وجلبة قادمة من منزل آل كنوبف.
يقول لي جيورج: "ليرقد رماده بسلام. هيا، يجب أن نذهب إلى هناك لكي نقول كلمات التعزية المُعتادة".
أقول: "أرجو أن يكن قد انتهين من صنع ملابس حدادهن كلها، فتلك هي التعزية الوحيدة التي يحتجنها الآن".
الباب غير مُغلق. نفتحه دون أن نقرع الجرس ونتوقف. تستقبلنا صورة غير متوقعة. يقف الكهل كنوبف في الغرفة، وعصاه في يده، ويرتدي ملابسه استعدادًا للخروج. تتزاحم زوجته وبناته الثلاثة خلف آلات الخياطة الثلاثة. يضربهن كنوبف بالعصا، ويمسك برقبة ماكينة الخياطة التي في المقدمة بيد واحدة ليحافظ على توازنه، ويضربهن باليد الأخرى. الضربات ليست قوية بشكل خاص، لكن كنوبف يفعل ما بوسعه. تتناثر ملابس الحداد على الأرض في كل مكان.
من السهل تخمين الموقف: فبدلًا عن قتله، أنعش خمر الذرة الرقيب بما فيه الكفاية حتى إنه يرتدي ملابسه، ربما ليذهب في جولته المعتادة في الحانات. ولم يخبره أحد أنه مريض مرضًا عضالًا ولم تستدع زوجته، خوفًا عليه، رجل دين ليعده للنعيم الأبدي، ولم يفكر كنوبف في الموت. لقد نجا بالفعل من العديد من الهجمات، وهذه واحدة من العديد من الهجمات التي تعرض لها. من المفهوم أن يكون غاضبًا الآن - فلا أحد يبتهج عندما يرى أن عائلته قد شطبته تمامًا لدرجة أنهن ينفقن أموالًا باهظة على ملابس الحداد عليه.
يقول كنوبف بصوت كالنعيق: "أيتها العصابة الملعونة! لقد تطلعتن إلى هذا، أليس كذلك؟ سوف ألقنكن درسًا!"
يفشل في إصابة زوجته، ويغلي من الغضب. تمسك الزوجة العصا بإحكام وتقول: "ولكن، أيها الأب، لقد كان علينا أن نستعد. إن الطبيب-"
يقول: "إن الطبيب أحمق! اتركي العصا، أيتها الشيطانة! اتركي العصا، أقول لك، أيتها المتوحشة!"
تترك المرأة القصيرة المستديرة العصا بالفعل، فيلوح به الغاضب الواقف أمامها، ويصيب إحدى بناته. كان بإمكان النساء الثلاث نزع السلاح عن الكهل الضعيف بسهولة؛ ولكنه يتحكم بهن بإبهامه، كما يفعل الرقيب بجنوده. تمسك البنات العصا الآن بقوة، ويحاولن بأعين ممتلئة بالدموع أن يشرحن له الأمر، لكنه لا يستمع لهن.
يقول: "اتركن العصا، يا نسل الشيطان! تنفقن المال، وترمين به من النافذة! سوف ألقنكن درسًا!"
تُترك العصا، ويضرب كنوبف من جديد، لكنه يخطئهن، ويقع على ركبتيه من قوة تأرجحه. تقف فقاقيع اللعاب على شاربه النيتشي وهو ينهض مرة أخرى ليواصل ضرب حريمه كما أوصى زرادشت.
تصرخ الفتيات وهن يبكين: "سوف تموت، يا أبانا، إن انفعلت هكذا! هدئ من نفسك! إننا سعيدات أنك ما زلت حيًا! هل نصنع لك بعضًا من القهوة؟"
يقول كنوبف: "قهوة؟ سوف أصنع القهوة لكن! سأضربكن حتى الموت! لقد ضيعتن الكثير من النقود-"
قالت الفتيات: "ولكن، يا أبي، يُمكننا أن نبيع الأشياء مرة أخرى!"
يقول: "تبعنها! سأبيعكن أنا، أيتها الوغدات اللعينات!"
تصرخ فيه السيدة كنوبف بانزعاج شديد: "لكننا لم ندفع ثمنها حتى الآن، أيها الأب!"
تصل الجملة إلى مسامع كنوبف، فيخفض العصا.