في محبة محسن يونس

كُتّاب وأدباء منتدى السرد باتحاد كُتّاب مصر فرع الشرقية ومحافظات القناة وسيناء يتحلقون حول تجربة سردية جاوزت نصف القرن لكاتب نذر حياته للأدب والفن.

حول التجربة الإبداعية للكاتب الكبير محسن يونس، تحلق كُتّاب وأدباء منتدى السرد باتحاد كُتّاب مصر – فرع الشرقية ومحافظات القناة وسيناء، في محاولة جادة وأمينة ومخلصة منهم، للوقوف على معالم تجربة سردية جاوزت نصف القرن لكاتب نذر حياته للأدب والفن، وأخلص لفن السرد العربي، وأثراه بتجارب قصصية وروائية حميمة وجديدة ومدهشة، حلق فيها خارج السرب، وطرق دروبا لم تكن مطروقة من قبل، وعبد طرقا غير ممهدة لأجيال جاءت بعده، فحملت له هذا الصنيع، وكان لهم أستاذا ورائدا وناقدا ومُعلما ومقوما ومرشدا وموجها، يوجهم بلين وينتقدهم برفق.

أدار الندوة الأديب مجدي جعفر، وتواصل الشاعر إبراهيم حامد رئيس مجلس الإدارة والشاعر السيد داود سكرتير النقابة عبر الهاتف مع الكاتب الكبير محسن يونس الذي أصابته وعكة صحية منعته من الحضور، وشكر الكاتب الكبير اتحاد الكُتّاب فرع الشرقية ومحافظات القناة وسيناء على هذه الندوة، وقدم مقدم الندوة في عُجالة لمحات من السيرة الحياتية والإبداعية لكاتبنا الكبير:

محسن يونس كاتب مصري من مواليد محافظة دمياط، له العديد من الأعمال الإبداعية في القصة القصيرة والرواية وأدب الطفل، ومن مؤلفاته: "الأمثال في الكلام تضيء" (مجموعة قصصية)، من ديوان "الحمقى" 1995، "حلواني عزيز الحلو" 1998، "بيت الخلفة" (رواية 2004)، "لكل منا شجرته" 2005، "أوسي وسيزي في الفضاء" 2005، "سيرة جزيرة تدعى ديامو" (مجموعة قصصية 2008)، "حكاية عن الألفة" (رواية 2009)، "يوم للفرح" (رواية 2005)، "ما تبقى من بدايات بعيدة" (رواية 2016)، "حرامي الحلة – شطحة روائية لوقائع إقامة جبرية" (رواية)، "الملك الوجه – متن واحد وأربع نهايات" (رواية 2013)، "تدوير مفتاح الخزينة" (رواية 2013)، "خرائط التماسيح – مقامات معاصرة" (رواية 2015)، "حسن السماع وطيب المقام – ملاحقات تاريخية" (مجموعة قصصية 2016)، "منام الظل .. إطلالة على حياة قنبلة موقوتة" (رواية 2017)، "بانتظار المنقذ الأعظم" (رواية 2018)، "منطق الزهر" (رواية 2020)، "40 ألف كلمة" (رواية 2021)، و"جزيرة هرموش (رواية) الفائزة بجائزة أفضل رواية بمعرض القاهرة الدولي للكتاب 2025.

وتناول الباحث والناقد بهاء الصالحي روايتي "خرائط التماسيح" و"حرامي الحلة" في ورقتين نقديتين، جاء فيهما:

"أدب الفانتاسيا أو الغرائبية له طبيعة خاصة ولكن مبدعوه يعانون من فكرة الإجادة المستحيلة أو الملامسة مع الواقع أو البعد عن فكرة الهبوط في هوة الخرافة وذلك لأن أدب الفانتازيا تعكس عدة معاني رئيسيه:

  1. التمترس خلف الرموز أو خلف التأويل الإجباري أو التأويل المفترض لدى المتلقي وفق وعي المبدع خوفا من فكرة غياب الحرية.
  2. إعادة التوافق مع مذهب الطبيعة حيث أنسنة الأشياء الأخرى وكذلك إعادة طرح الواقع من وجهة نظر مختلفة صالحة لفكرة التأويل عبر العصور التالية ذلك تأثرا بفكرة 1984 التي أنشاها جورج أوريل في روايته الرائعة وإن كان قد سبقه لها هذا الرائع ابن المقفع وإن كان قد دفع حياته ثمنا لذلك كما جاء في كتاب كليلة ودمنة وذلك توافقا مع الجانب الخرافي أو الجانب الحكائي في العقل البشري فالعقل البشري ليس دوما منظما ولكنه يميل دوما لفكرة الغرائبية.

وفي "خرائط التماسيح" يدخلنا الكاتب في حالة من الحيرة هل مات عزيز الوصيف أم ظل عزيز الوصيف يحيا من خلال فكرة تناسخ الأرواح وكذلك إعادة توظيف الأسطورة سوبك تلك الأسطورة المصرية القديمة التي جسدت الإنسان وعليه وجه تمساح هنا فكرة تأويل الأسطورة وطرحها كمبدأ لفهم العالم وليس كعقيدة دينيه هنا يصبح عزيز الوصيف مدخل للعالم كصانع له وفق مصالحه كذلك تصبح الأسطورة نوع من أنواع التوافق أو التوحد مع القاهر وذلك لما للتماسيح من قدرة على فرض وجودها وفرض فكرة الرعب وبالتالي الإنسان يريد أن يتعايش مع تلك الفكرة لعجزه بالأصل عن محو فكرة الشر من العالم وبالتالي تصبح فكرة السخرية منه نوع من المقاومة وهنا منهج التأويل الاجتماعي إذا جاز ذلك التعبير وذلك لأن منهج علم الاجتماع الأدبي لا يقتضي في النهاية فكرة التحليل المحض بل يتوافق معه التأويل الدلالي أي مفهوم البيان العربي وفق القضية وليس البيان العربي كبعد جمالي فقط لأن البيان ليس حلية بقدر ما أنه وسيلة للتعبير عن مكنون النفس كذات اجتماعية.

ونجد أنفسنا خلال خريطة التماسيح أن الشخصيات الرئيسية في هذا المجال شخصيتان فقط هما عاشور الجن وعزيز الوصيف لأن كلاهما يتصارع على خلق الصورة الذهنية حول العالم من أجل ضمان أو زعزعة ذلك العالم وبالتالي يأتي مشهد الافتتاحية حول ذلك القارب ذي العشر أشخاص والذي مات قائده عاشور الجن لتكتشف أن المبدع يشكك أصلا في رواية عزيز الوصيف ويشكك أيضا في وجود المقهى ولكن الأحداث بمجملها عبر تلك الرواية هي قضية صراع حول صنع الصورة الذهنية حول العالم الموجود، حيث عاشور وابن اخيه يملكان القدرة على فهم فكرة أسطرة التماسيح من خلال فكرة التوافق مع الطبيعة والقدرة على الحديث معها لتأتي التماسيح مرادفا لذلك الواقع وكيفية التعامل معه وحتى في مقولاتنا الشعبية المعبرة عن أدوات الملكية فنقول على السيارة المرسيدس الضخمة تمساحه وهو نوع من الذكاء اللغوي والمعرفي بمعنى قدرتها على افتراس السوق ولعل الغرض الرئيسي أو البعد المعرفي من كتابة هذه الرواية هو نقد ذلك الواقع الانفتاحي السائد وتأثيره على مفهوم القيم، نأتي إلى فكرة حديث التماسيح وهنا توظيف الغرائبي لصالح الواقع وهنا نعود إلى فكرة شروط تحقق الغرائبية وهي لا بد أن يحمل النص القارئ على اعتبار عالم الشخصيات كعالم أشخاص أحياء وعلى التردد ما بين تفسير طبيعي وتفسير فوق طبيعي للأحداث المروية وينجز هذا الشرط في وحدات المستوى اللفظي بإعتبار الفانتاستيك حالة خاصة ذات رؤية غامضة.

لأن القارئ العادي عندما يأتي إلى ذلك النص يعامله كبعد ممزوج بفكرة التسلية ولكن الرهان على نوعية القارئ من خلال تكرار الأبعاد المختلفة للواقع حتى على لسان التماسيح ونعود هنا إلى العقدة الرئيسية عبر تلك الرواية من الأجدر بالتعامل الواعي والتاريخ والإنسانية مع واقع الانفتاح المستغل الذي يبحث عن جلد التماسيح من أجل ترويجها أم ذلك الباحث عن حياة طبيعية متوافقة يتوافق فيها الحيوان مع الإنسان لخلق نموذج إرادة الله هكذا من خلال حكمة التوافق ما بين الإنسان والحيوان وقدرة الإنسان على تطويع الحيوان في الحياة المجتمعية. هنا نظرة التماسيح للوصيف من خلال افتراسها له لأنها تعي فكرة الفقد بفعل الغريزة حيث تفقد أبنائها وتفقد إخوانها الذين يسلخ جلودهم حتى تباع وكذلك حوار التمساح مع عاشور الجن عبر تلك المعدية، نعود إلى المعنى الدلالي أو إستراتيجية المكان لدى تلك الرواية فالجزيرة مستقلة بحكم سيطرة عزيز الوصيف عليها وقدرته على إجتلاب خبرة التايلندي القادر على ترويض التماسيح من أجل الاستغلال والقتل بينما عاشور الجن يمثل تلك الخبرة التاريخية والتي تمثل واقع الوعي المصري والقادر على الحديث مع التماسيح وإشعارها بأن هناك عوالم أخرى غير عالم جزيرة يامو وبالتالي يحدث نوع من الوعي المضاد: نحن لسنا مادة للتجارة بقدر ما أننا أحياء أراد الله لنا نمطا أخر من الوجود.

فكرة الواقع المجسد في الاستغلال المنظم وكذلك الوعي المضاد وقدرة ذلك الوعي المضاد على العبور بذلك المجتمع المنعزل إلى منطقة الأمان شريطة الوعي الذي يمتلكه ابن حكيم وعاشور الجن. وفي النهاية أجاد الكاتب فكرة التوافق ما بين عالم الإنسان وعالم الحيوان من خلال إطار الغرائبية. هنا ليست غرائبية عقلية بقدر ما أنها مبررة من خلال فكرة أنهم عوالم مثلنا تلك الفكرة التي رسختها سورة النمل كما جاءت في القرآن الكريم. الرواية حافلة بعدد من الخطوط الروائية مثل خط نسرين هانم والمرعي أفندي ولعل إلقاء المرعي أفندي للتماسيح بسبب تجرئه على النقد المجتمعي ورفض كل الصحف نشر هذه المقالة له لأنها تنقد كل تماسيح ذلك الواقع وهو خط يؤكد صلاحية ذلك البعد الغرائبي للواقع الروائي والأدبي وذلك هروبا من فكرة التكرار ولكن البعد الغرائبي هنا في ذلك الواقع يكون قادرا على إفراز المبدع الحقيقي دون المبدع الوهمي وذلك من خلال قدرته على بناء ذلك العالم الغرائبي بترتيب منطقي قادر على أن يخلق المعادل الموضوعي لذلك الفهم التركيبي للواقع مستعينا بمسألة الغرائبيه، وذلك مرتبط بفكرة الوعي الثقافي والوعي الإنساني للمبدع بعيدا عن فكرة امتلاك القدرة على صياغة الشخصيات لأن المبدع غير الحقيقي ستبدو شخصياته مهلهلة واستدعائه للأسطورة قائما على النسخ وفكرة  القص واللصق.

وعن رواية "حرامي الحلة" قال الناقد والباحث بهاء الصالحي:

أي عنوان هذا وأي استعارة على ذلك العنوان من خلال مضمون تلك الرواية؟ الكاتب يتناول ببساطة فكرة المعاناة الإنسانية لمحمد نجيب في معزله في قصر زينب هانم الوكيل في المرج ولكن الغرائبية هنا ضرورية جدا حيث لا بديل لها. السخرية هنا تبدأ من أن لصا أراد سرقة ذلك القصر المهجور الذي لم يدخله أحد ولم يتابعه أحد، وهنا نوع من البعد الزمني ليصف سلام محمد نجيب مع نفسه وسلامه مع الحيوانات التي رافقته في رحلة اغترابه الداخلية وكذلك شجرة البمبوزيا ولكنه هنا يؤنسن الأشياء الطبيعية ليستطيع من خلال تلك الغرائبية بث مجموعة من الحكم القائمة على فكرة إدانة ذلك الحدث التاريخي ولعل كلمة حرامي الحلة بكل دلالتها الشعبية القادرة على تحقيق ذلك، هنا الذكاء في اختيار ذلك العنوان ولعل أنسنة الطبيعة معه جعل السحابة تستجديه أن تصنع له حكاية تكون قادرة على إلفه مع الوحدة حيث رفات كليبر ورفاة سليمان الحلبي التي حملها مينو معه عند رحيل الحملة الفرنسية ووضع الإثنان في متحف انفاليد في فرنسا حيث صرخات رفات كليبر وطلبها بأن تبعد رفاة سليمان حلبي عنه، هنا فكرة أنهم يخافون من وجودك حتى الطبيعة جاءت لتسلية محمد نجيب عن مأساته التي عاشها.

ولعل فكرة الإخراج العام للرواية والإتيان بحديث ذلك اللص حرامي الحلة باللون الأحمر وهو لون الدم بما يحمل من دلالة معينة هو أمر متوافق مع الرسالة المعرفية التي أراد القاص الإتيان بها وهنا ضرورة الغرائبية لأنه لو عالج هذه المسألة في شكل آخر لكانت خارجة في إطار مقال قصصي أو بورتريه صحفي وهو أمر خارج إطار فكرة الرواية، وفكرة الصراع هنا فكرة التخييل حيث فكرة استدعاء سنوحي ذلك الراحل إلى خارج الوطن ولكنه يعود فاقدا لأهليته فاقدا لتواصله مع غيره ولكنه يسرد معاناة نجيب عندما ينظر للمرآه فيرى ذاته مشروخة حيث استدعاءاته لعرابي حيث تشابهت الأزمة عنده وعند عرابي وحول غياب فكرة الفلاح الفصيح وأن من استمع إلى الفلاح الفصيح أعجبته فصاحته دون رغبة منه في العدل. 

الرواية هنا تتحدث عن التحول النوعي في وعي الحرامي الذي ظن أن في ذلك القصر المهجور كنزا رائعا سيغنيه ولكن لصوصيته الصغيرة ضاعت أمام لصوصية التاريخ وهذا هو المعنى الخفي الذي أراد طرحه عبر الرواية. لما حرامي الحله هو البطل هل لأنه شم رائحة دخان الغليون الذي كان يدخنه نجيب وقد ديس بأقدام الجنود الذين حملوه إلى محبسه في قصر زينب الوكيل فظل رحالا باحثا عن تلك الرائحة حتى وجدها في قصر زينب الوكيل وهنا بمناسبة كلمه هذا القصر كان التحدي الرئيسي عند المبدع أن يتخذ القصر بيئة روائية وبالتالي كان الأمر لزاما عليه أن يكون للحشرات الكامنة في ذلك القصر دورا في الحدث ليكون حرامي الحله وفيا بدلا من البشر يكون هنا الحوار ما بين الكلب الأسود الذي أراد الخروج أو عزل محمد نجيب بأن يتحدث من خلف الشباك ليدافع عن سائق الباص الذي تعطل أمام باب القصر فظنه الحرس معاديا جاء لإخراجهم وعندما تمرد الكلب تم استدعاؤه عند فكرة المستبد العادل هنا، لأزمة 1954 من خلال حوار الكلاب وهنا تقوم الغرائبية بدورها كمعادل موضوعي أو جزء من إسقاط الحديث على ذلك الواقع وإدانة فكرة المستبد العادل. 

اللغة الفنية التي أوردها الكاتب عبارة عن حوار ثلاثي أو صعود متوازي لوعي ثلاث طبقات الأول طبقة اللصوص التي جاءت على مستويين المستوى الأول اللصوص الذين سرقوا كنوز قصر زينب هانم الوكيل مقر إقامة نجيب، واللص الجاهل الذي بدأ وعيه في التطور مع رؤية نجيب وإشفاقه على الحياة التي يحياها، أما طبقة العامة، فقد جاء خوفهم من مشاهدة محمد نجيب الافتراضية في المقهى حتى لا يصابوا بفكرة أنهم علموا ولم يبلغوا السلطات، هنا فكرة الخوف الموروث باتجاه تلك القضية وكذلك فكرة الضمير المفقود والمضمر الذي مثله هؤلاء الكلاب والقطط التي عاشرت نجيب والتي أرادت دفعه دوما إلى فكرة الهروب من ذلك المأزق الذي يحيا فيه وبالتالي تصبح الرواية جزءا من ضمير هذا الوطن لأن الخلاف هنا ليس على مسؤولية نجيب أو ما حدث في أزمة مارس 1954 ولكنه إدانة إنسانية لتلك الأزمة التي تعرض لها شخص بحجم محمد نجيب وهنا يصبح السؤال المهم هل كان محمد نجيب ينوي الهرب؟ محمد نجيب لا ينوي الهرب محمد نجيب كان يراهن على فكرة أن الزمن سينصفه، وبالتالي جاءت تلك العبارة على لسان الصقر الذي عاير الكلاب بأنهم يريدون أن يكونوا مستعبدين في قيد الحرية ولكنهم يقولون أننا أحرارا بوعينا ولكن البعد الأهم في هذه القضيه أن الأمر إعادة إنتاج محمد نجيب وأزمة مارس 1954 من وجهة نظر إنسانية بعيدة عن فكرة البعد السياسي وهنا البعد الإنساني قادر على إدانة ما حدث وأن الأمر لم يكن ليستحق مساحة القهر الإنساني التي تعرض لها ذلك الرجل وكذلك ورود تقنية الحكاية الدالة ليصبح ذلك الضخ الحكائي كنوع من الاستدلالى المتروك تقديره لطبيعة فهم المتلقي لما وراء الحدوتة داخل النص الأصلي، يمارس الكاتب تقنية الأسئلة في مفتتح الفصول: متى يظهر الخونة وفي أي أرض ينبتون؟ والرواية في مجملها لا تأخذ موقفا معينا ولكنها تطرح عددا من الأسئلة الوجودية: لماذا صمت محمد نجيب؟ وهل كان صبره آلية من آليات البقاء على الحياة. 

هي جرأة روائية أوتيها محسن يونس ليطرح ذلك الموضوع من خلال ذلك البعد الغرائبي بعيدا عن فكرة الإدانة السياسية. 

فشكرا له على تلك التجربة الرائعة.

وكان للشاعر والمترجم الكبير السيد النماس شهادة عن صديقه الحميم والمقرب إلى قلبه وابن بلدته دمياط، جاء فيها:

"محسن يونس ٠٠ بدايات بعيدة واقتراب لا ينتهي"

الزمان  .. أوائل سبعينات القرن الماضي 

المكان، لعله الشقة التي كانت تحتلها "الجامعة الشعبية" (إحدي مآثر ثورة يوليو في مجال الثقافة والتنوير في أواسط الخمسينات وحتى أوائل السبعينات) بأحد عمارات وسط مدينة دمياط، غير بعيد كان النيل يجري شاقا طريقه نحو المصب في رأس البر. ربما التقيته في مكتبة تلك الجامعة الشعبية أو لعل اللقاء كان بمكتبة قصر الثقافة الذي انتقلت إلى رحابه مؤممة، إن صح التعبير، لتدخل الثقافة في دمياط كما دخلت في غيرها من المحافظات، طورا مختلفا مغايرا فمن الوسم "جمعية الرواد الأدبية" إلى "جمعية رواد بيوت وقصور الثقافة"، من عهد الاستقلال النسبي الذي كانت تتيحه بعض الليبرالية المتبقية وخلاله راحت الجمعية تمارس فعالياتها من بداية الستينات فتصدر النشرات والمطبوعات والكتب وتقيم الندوات والمحاضرات الخ دون تدخل يذكر من جانب الجهات الحكومية أيا كانت إلى الاندماج في كيان مؤسسي دولتي تحت عين وبيد الدولة ومؤسساتها الثقافية والأمنية. التقينا شبابا مصريا طامحا للمشاركة في الشأن العام وخصوصا في الشأن الثقافي والفكري والأدبي.

كان المناخ السائد آنذاك مظللا بسحابة قاتمة هي سحابة نكسة يونيو/حزيران 1967 وكان أن التقينا كل في سجن ذاته وسجن البلاد المهزومة المكلومة المأزومة المحتلة في بعض أرضها. كل يبحث عن المفتاح.

هكذا التقينا على مسرح سبقنا إليه بقليل يسري الجندي وأبوالعلا السلاموني وع رائدا الكتابة المسرحية ومصطفى الأسمر ومحمد كمال محمد وسعد الشرباصي ويوسف القط وطاهر السقا رواد كتابة القصة والرواية في دمياط وشعراء العامية والزجالون محمد النبوي سلامة، السيد الغواب، محمد العتر، عبدالقادر السالوس ليتسع المجال وينضم إليهم جيل آخر بينهم كاتب هذه السطور في شعر الفصحى ومعه آخرون مثل حسام أبوصير ومصطفى العايدي وقد سبقنا بقليل د عيد صالح، ثم يفد جيل جديد من شعراء العامية أمثال محمد الزكي وجيل آخر من كتاب القصة مثل بشير الديك، حسين البلتاجي، محسن يونس، سمير الفيل (قاصا وروائيا) وبعض هؤلاء وبعض أولئك هاجروا على فترات قاصدين المركز في القاهرة مثل يسري الجندي وأبوالعلا السلاموني ومحمد كمال محمد وبشير الديك وظل الآخرون يمارسون حياتهم وإبداعاتهم من الطرف بدمياط ومنها راحت إبداعاتهم تشع على ربوع مصر كلها وعلى المركز ليشكل بعضهم ثقلا إبداعيا وازنا على الصعيد الثقافي والأدبي المصري في عمومه. وقد كان من أبرزهم وأميزهم القاص والروائي محسن يونس. لن ابتعد كثيرا عن الغاية من الشهادة المطلوبة لو قلت بأن محسن يونس قد انعجم عوده الأدبي ورسخت مداميكه القصصية والروائية التي تعرفها الأجيال الجديدة في  صورها الأخيرة عبر مسيرة قراءات وكتابات جد شاقة وعاكفة وباحثة حيثما كان ثمة إبداع مصري وعربي قصصي وروائي أهل للقراءة وحيثما كان ثمة إبداع أجنبي مترجم يستأهل القراءة والتتبع ويكفي أن أقول إن كاتبنا وهذه شهادة عن قرب وعشرة بأنه قد قرأ أمهات الأدب الروائي المصري والعربي وتعرف إلى أساليب الكبار السابقين من أول نجيب محفوظ ويحيي حقي ويوسف إدريس وغيرهم وصولا إلى الجيل الأقرب منه مثل صنع الله إبراهيم ومحمد البساطي وإبراهيم أصلان وعبدالحكيم قاسم وإدوار الخراط (الذي وقف عنده طويلا واتصل به وتفاعل مع رواياته) وكذلك عبدالفتاح الجمل (ابن قرية محب جارة قرية محسن السيالة) وصاحب الأيادي البيضاء على سائر أدباء الستينات المائزين وهو الذي نشر فيما بعد أوليات قصص محسن يونس وبشر بإبداعه وذلك بالملحق الأدبي لجريدة المساء. ولا يفوتني في هذا السياق أن أذكر كيف كان محسن يونس منكبا عاكفا على التراث العربي المتمثل في ألف ليلة وليلة وعلى المقامات وغيرها وقد أتت قصصه القصيرة الأولى شاهدة وحافلة بآيات من البلاغة القصصية الجديدة والانتحاءات المفرداتية التي ستنمو وتشرئب وتستوي على سوق بلاغية ومجازبة من نحته وتثويره اللغويين (انظروا مجموعاته الباكرة الأمثال في الكلام تضيء والكلام هما المساكين).

في ذات الوقت تشاركنا تفعيل وإشاعة ترجمات بعينها من الأدب الأوروبي والعالمي، ولا يفوتني هنا أن أذكر اهتمام محسن يونس الفائق بكتابات الروائي الألماني الكبير هرمان هيسه خاصة روايتيه الفذتين "ذئب البوادي" و"سيد هارتا" وغير ذلك من عيون الرواية الأوروبية المترجمة ولا أشك في أنه كانت للجوانب الغرائبية الخوارقية أثرها في استراتيجيات الكتابة عنده. ولا يفوتني هنا أن أشير إلى خروج محسن يونس بعيدا بعيدا عن صندوق الإبداع الروائي المتمثل في بعض مبدعي الرواية في دمياط إلى براح العلاقات الحرة لنشهد على علاقات عميقة ومنتجة جدلية الطابع مع قصاصين وروائيين من أقرانه خارج دمياط مثل محمد المخزنجي ومحمد المنسي قنديل وجار النبي الحلو بالمحلة الكبرى، ثم تأتي لحظة فارقة نكتشف فيها سويا أدب أميركا اللاتينية وكان ما كان من أمر افتتان محسن يونس بأدب أميركا الجنوبية بعد الانفجار الماركيزي العظيم المتمثل في روايته الأشهر "مائة عام من العزلة" ووقوفه طويلا عند البرازيلي خورخي أمادو والأرجنتيني خورخي لويس بورخيس. وهنا أحب أن أسجل لمحسن يونس ارتياده طريقا سردية نسيج وحدها انصبت على قرية وشبه جزيرة ديامو التي اقترنت باسمه وبإبداعه حتى صارت عنوانا مثلها مثل الجمالية عند العم الكبير نجيب محفوظ. لقد حاولت جاهدا ألا تغلبني المحبة الشخصية وأن أشير وأحدد قدر المستطاع في شهادة مقتضبة المنابع التي تفاعلت داخل وعي ومخيلة وروح محسن يونس فأخرجت لنا ما أبدعه وياله من إبداع خلاق.

ومن مدينة الإسماعيلية تكبدت الدكتورة والكاتبة صفية فرجاني مشقة السفر في هذا الجو البارد، وحضرت خصيصا للاحتفاء بمحسن يونس وبتجربته الإبداعية، وقدمت ورقة نقدية مائزة تحت عنوان "قوة الأنا ومقاومة التهميش في قصة 'بذرة مانجو' لمحسن يونس – قراءة من منظور نفسي"، جاء فيها:

الأديب محسن يونس له سماته الخاصة كمبدع حيث أنه من جيل تميز بكتاباته في القصة القصيرة والرواية التي وصلت إلى حد التمييز بمعنى أنك تقرأ رواياته أو إحدى قصصه فسوف تتعرف على أن هذه كتابة المبدع محسن يونس ابن دمياط ويتجلى هذا الإبداع في مجموعته "حسن السماع وطيب المقام (ملاحقات تاريخية)" الصادرة عن الهيئة المصرية للكتاب سلسلة إبداعات قصصية عام 2016 وسوف نتناول بالدراسة إحدى قصص المجموعة بعنوان "بذرة مانجو"

إن العلاقة وثيقة بين الإبداع وعلم النفس حيث أكد على هذه الصلة عالم النفس الشهير سيغموند فرويد، بالإضافة إلى كثير من المدارس النفسية التي استهدفت قراءة النصوص الأدبية وكشف النقاب عن الدلالات النفسية للنص أو ما يطلق عليه لاوعي النص مرورا بالفرويديون الجدد حتى مدرسة جان لاكان الفرنسية فى علم النفس.

ولقد تميزت كتابات محسن يونس بدراسة المهمشين وإعادة الكتابة عنهم من منظور إبداعي يعيد فيه ترتيب الواقع ويمزجه بالخيال والأسطورة بسرد حكاء شعبي تنصت لتفرد حكاياته التى تعيد الحياة لما غيبوا بقصد، حتى يستعيدوا دورهم الذي غيبه الآخرون، وكأنما استعادتهم هو استعادة لروح الوطن مرة ثانية. 

يعد مصطلح (الأنا) من المصطلحات الأساسية في مدرسة التحليل النفسي، ويتكون الجهاز النفسي طبقا للعالم النفسي "فرويد" من ثلاث مكونات (الهو- والأنا - والأنا الأعلى) ولقد أشار إلى أن الأنا القوية - التي نمت نموا سليما - هي تلك الأنا القادرة على التوفيق بين هذه القوى الثلاث، دون أن تصاب باضطراب أو تتأثر في قسم من وظائفها أو في كل تلك الوظائف، في حين أن الأنا الضعيفة غير الناضجة تهتز وتتخاذل أمام تعارض تلك القوى.

و(الأنا) هي التي تقوم بأكثر من الدفاع عن نفسها، وتتعلم مهارات التكيف وأساليبه مع البيئة على الرغم من أن لها سمات تعمل لا شعوريا، والأثر الإيجابي للأنا لا تقتصر على الجانب السلبي في تجنب القلق، فهي تقاس بقدرة الشخص على توحيد المواقف المتناقضة لإدراك الجوانب الإيجابية والسلبية التي تؤدي إلى ثقة الفرد بنفسه.

تتجلى "قوة الأنا" في شخصية "خميس جمعة" المواطن الذي خرج مع من خرج فى هوجة عرابي يدعم ويؤيد الثورة ذلك النبت الأخضر الغض والذى نمي واشتد عوده على مدار القصة والذي عاقته ظروف داخلية  وخارجية. 

يظهر الحكاء الشعبي الراوي في بداية القصة بجمل افتتاحية ذات دلالات نفسية عميقة كمدخل للقصة.

"الجنة كانت في المنفى والنار كانت في القلب، وفي اليد ثمرة مانجو أين إذن الوطن؟"

محسن يونس

1- ضغوط الأنا في شخصية أحمد عرابي في النفي عن الوطن والبعد عنه: أين يكون الوطن عندما يكون المنفى جنة في الظاهر، وفى عمق الأنا نار فى القلب.

هكذا كان يعاني عرابي يا سادة يا كرام بينما داخل الوطن الخديوي توفيق يرفض مطالب عرابي ويقول "أي خرسيس فلاح يمكن أن يأتي بين يديه خيرا؟" وبعدها يحطم كأس النبيذ الأحمر متعمدا أو غيظا من خروج عرابي عليه.

2- ضغوط الأنا في إطلاق أسماء بلا معنى:

ثم يسخر الحكاء الشعبي "الراوي" ويتهكم من إطلاق الأسماء بلا معنى على من يحكم فيطلق على "توفيق وليس موفقا، شريف وهو ندل، اشرف تعني أوسخ، محسن وهو بخيل، عترة جبان، جعبة الأسماء، تخرج الأسماء وهي غير بصيرة بالمصير، أين إذا الوطن؟"

وهكذا يذوب معنى الوطن الذى يطلق على أبنائه أسماء ليس لها مدلول حقيقي يثبت هويتها ومعناها، هي فقط حروف ليس لها دلالة أو معنى هذا أول ما يسبب ضغوط الأنا أسماء بلا مدلول بداية من اسم الخديوي توفيق ورئيس وزرائه شريف باشا.

3- ضغوط الأنا في تفشي الفساد وخيانة الوطن:

ويوضح النص كيف استغل الأجنبي الوطن والحاكم (الخديوي) واستنزف طاقته على المستوى الشخصي والمادي بطريقة عبثية بلا طائل. 

فيقول الراوي "كم حذاء انتعلته أوجيني في حياتها المديدة؟ اثنان وتسعون سنة عاشتها في الحياة الدنيا هذه الحسناء التي استعمرت رأس إسماعيل وبدنه بلا طائل، كم مرة استبدلت حذاء اليوم في هذا العمر المديد؟"

وتزداد ضغوط (الأنا) عند معرفتها تفاصيل دقيقة تهز من صورة هيبة الحاكم وكيف استعمرت امرأة رأسه وبدنه بلا طائل لإشباع رغبات الخديوي الشخصية، مما يضيع معاني القدوة والنموذج الذي تحتاجه الأنا في تمثل وتكوين (الأنا الأعلى) وتكوين (الضمير) من السلطات بداية من السلطة الوالدية، هنا فقدت (الأنا) التى تمثل مبدأ الواقع وأيضا نموذج للمهمشين مما يضعف قوتها في التعامل مع تلك المتناقضات.  

ثم يستكمل الحكاء الشعبي تفشي الفساد وخيانة الوطن.

وتصل السخرية والتهكم من ذات الراوي إلى نفسه لنفسه "يا شيخ اسكت واقفل بوابة أسنانك خارج منها يأس". 

مما يزيد من ضغوط (الأنا) ومعاناتها من نفسها حتى وهي تكشف الحقيقة الخيانة وتدخل الأجنبي في الوطن مما يزيد من سوء توافقها النفسي.

4- ضغوط الأنا في معرفتها لزيف القائمين على تربية النشء:

تعاني الأنا من القائمين على تربية النشء في الوطن والاكتفاء بظاهر المحتوى دون جوهره والاكتفاء بصور صماء عن أحداث الثورة لا تذكر ولا تعبر عن الحقيقة، والذي تراه الذات المبدعة موت ما بعده موت ومما يزيد من معاناة الأنا أن هذا الفعل تم من أبناء الوطن وليس من مستعمر.

"وهل عاش خميس جمعه صاحب المصبغة بباب الخلق ليرى مناهج التعليم بداية من منتصف الخمسينيات مرورا بالستينيات من القرن العشرين؟"

ويؤكد هذا ما قاله الراوي الشعبي في القصة: "مع أن حكمة تدور في المقاهي وعلى نواصي الشوارع وعند محطة الركوب وفي الأسواق تقول عدوك اللدود موجود داخلك"

5- ضغوط الأنا والصراعات النفسية في شخصية البطل خميس جمعة:

تتناول القصة فترة ثورة عرابي وترصد معاناة أحد أفراد الشعب المهمشين "خميس جمعة" وكيف شارك فى أحداث الثورة كأحد أفراد الشعب المصري فى ذلك الوقت، يرصد المبدع محسن يونس شبكة من العلاقات المكثفة الدلالات في القصة، حيث علاقة الخديوي توفيق بالشعب والزعيم أحمد عرابي، والخديو إسماعيل وأوجيني، وبعض المهمشين الذين لهم أدوار ثانوية ومؤثرة فى سير الحدث الرئيسي العميق الذى يرصد مدلولات تنعكس أيضا على الواقع المعاش كيف يذوب ويتلاشى دور المشاركين الذين يمثلون روح الوطن الحقيقية مقابل الآخرين الذين يبرزون على السطح ليجنوا ثمار زرعها غيرهم.

"رأى هوجة وعساكر، سأل وعرف أن الراكب حصان أبيض هو أحمد عرابي، وإنه له بمطالب وسوف يواجه بها الخديو، فمشى مع الركب يتفرج، وفجأة لعبت مصارينه بقسوة، وشعر أنه لا بد له من دخول بيت الراحة، تقهقر جريا إلى بيته، فخرج من الصورة حينما التقطتها عين الكاميرا أو ريشة الرسام".

الخروج من الصورة التى سيظل يذكرها التاريخ لا يوجد فيها خميس جمعة والذى أقسم في وقت سابق على الحدث وهو يجلس على أبواب أحد المقاهي المطلة على قصر عابدين أنه موجود ضمن اللمة حول عرابي مع الأهالي التي التقطتهم الصورة لتهديها للزمن والكتب. والآخرين في الصورة هم رفاعي ابن شهيرة اللبانة، وقشتمر تاجر الأقمشة، وعتريس العايق تاجر ومؤجر حمير النقل. كانوا معي كتاف بكتف.

ويتعاطف الحكاء الشعبي (الراوي) مع شخصية خميس جمعة إلى حد بعيد لأنه لم يتمتع بأبسط حقوقه ولم يظهر في الصورة بل حرم من وجوده الفاعل بعدما غيب دوره تماما وها هو يناديه "بحبيبي" ويعطيه الحياة في امتداده واستمرار وجوده فى أولاده وأحفاده.

"يا حبيبي خميس جمعة عاش في أولاده وأحفاده وشافوا الصورة"

6- ضغوط الأنا في وجود الآخر "من المزيفين في الوطن":

ويتذكر الحكاء الشعبي من شارك في الهوجة ولم يغب في الصورة، وحقق مكاسب بمهارات الخاصة بهلوانية وسعى بكل طاقته لتحقيق مصالحه الشخصية دون الآخرين، هذا النوع من المهمشين الأنانيين يستغلون الأوضاع لصالحهم، بل يخططون لذلك.

ضغوط الأنا في التعامل مع واقع يتصدره كذابين الزفة على مرأى من الجميع (على ضوء الكلوبات) مقابل تهميش آخرين بلا إرادة منهم.

7- ضغوط الأنا مع الاستعمار الجديد ورصد التناقضات:

ويستمر الحكاء الشعبي في رصد التناقضات في الواقع المعاش في زمن آخر عندما يظهر في المشهد صورة أخرى من المستعمر التركي الذي يستغل البلد ويساوم في البيع والشراء، رغم وجود عقد بالاتفاق مسبقا على السعر، وهذا المستعمر الجديد يدخل إلى الوطن تحت ستار عمل الخير، يتظاهر بالتدين وإن كان له غرض آخر هو السيطرة والتحكم..

8- بداية إشراق قوة الأنا واستعادة الروح والوطن في شخصية خميس جمعة. 

تتجلى "قوة الأنا" في شخصية "خميس جمعة" المواطن الذي خرج مع من خرج في هوجة عرابي يدعم ويؤيد الثورة ذلك النبت الأخضر الغض والذى نمي واشتد عوده على مدار القصة والذي عاقته ظروف داخلية  وخارجية. 

يستمر الحكاء الشعبي في سرد حياة خميس جمعة الذي يتعاطف مع معاناته ويجعلنا نتعاطف معه، حتى لا تفارقه أمنيته أن يكون في الصورة مع أحمد عرابي رغم مرور الزمن فيتماهى الخيال مع الواقع ويحضر المصور لالتقاط الصورة التي طالما حلم بها خميس جمعة (والراوي) منذ أن كان عمره خمس عشرة عاما بطريقة تظهر الثقة بالنفس والتحكم.. فتكون هنا بداية إشراق قوة الأنا واستعادة الروح التي سلبت منها. 

ويعد مفهوم الأنا بحسب نظرية اريكسون Erikson في الشخصية أنها ذلك الجزء من العقل الذي عن طريقه يكتسب الفرد الخبرات الشعورية، ومن وجهة نظره أن الأنا هي التي تقوم بأكثر من الدفاع عن نفسها، وتتعلم مهارات التكيف وأساليبه مع البيئة، فهي بحسب رؤية اريكسون تقاس بقدرة الشخص على إدراك الجوانب الإيجابية والسلبية التي تؤدي إلى ثقة الفرد بنفسه.

بهذا المعنى يتضح قوة الأنا عند بطل القصة خميس جمعة حيث أنها بعد عدد من التجارب قد تعلمت أن تأخذ قرارها بكل إصرار "رأسه والف سيف يقف بجانب الحصان، أو يركب فوقه" تبدأ بالمشهد الذي تراه الأنا يؤكد وجودها المادي الظاهري أن تكون في صدر الصورة، ثم لإثبات الأنا ذاتها توصى المصور الذي يشهد الحدث معها أن تكون لقطة الصورة بزاوية محددة مرة تكون مع الحصان بقوامه كاملة، ومرة أخرى رأس الحصان بعرفها مع رأس خميس جمعة وهو مرجعها للخلف حتى يكون لحضورها حضور إيجابي أولا مع الحصان، ثم مع الآخرين حيث تزداد الأنا ثقته في نفسها، بأن تكون نظرتها نظرة مباشرة في عيون الناس. هذا التحدي الذي تصر الأنا عليه حتى يكون لها وجود ومكان في المشهد والتاريخ.

وعندما يرد عليها الباشا "أحمد عرابي" وهنا أول مرة يظهر لفظ "الباشا" والذي تخاطب به (الأنا) أحمد عرابي مما يدل على أنه عندما استعادت الأنا قوتها وثقتها أصبحث ترى الآخرين في مكانهم الحقيقي، بل إنها ترفض أن تأخذ أي حصان يقدم لها وإنما تصر على أن تكون صورتها مع حصان أحمد عرابي باشا فيقول خميس جمعة: "لا يا باشا النفس والهوى في حصانك أنت".

قوة الأنا هي الجزء الشعوري الواعي من شخصية خميس جمعة والتي أصبحت تتعامل مع الواقع والمجتمع الخارجي بشكل مباشر، وهي تتولى الدفاع عن الشخصية وحل صراعاتها، فقد أصبحت بمثابة أداة للتكيف والدفاع النفسي.

فما كان من أحمد عرابي أمام إصرار وقوة الأنا عند أحد أبناء شعبه خميس جمعة وهو الذي خرج بمظاهرة على الخديوي انتظار لبزوغ هذا الأمل الذي يتحقق أمامه الآن، لذا فقد قد له بذرة مانجو كان قد أحضرها من "سرنديب" وهو منفى، ودلالة إعطاء بذرة المانجو إشارة إلى أن البذرة تحمل كل معاني الحياة والإنبات والبعث والاستمرار والخلق والنمو مثلها مثل شخصية خميس جمعة، مما يدل على استمرار مواصلة الكفاح والمقاومة الاستعمار بكل صوره وأشكاله. 

ثم تأتي شخصية "خميس جمعة" لتتحقق النبوءة في زراعة بذرة المانجو الذي ستطرح يوما شجرة مانجو وتزهر ثمارها، وتعطي الهواء رائحة ذكية، بدلا من هواء الوطن الذي كان ملوثا وفاسدا بوجود الاستعمار، وكان لا بد من تغييره بإنبات بذرة المانجو كمعادل موضوعي لمقاومة المحتل وانتظارا لغد أفضل.

وتنتهي القصة بأسطرة الواقع وتصل فيه (قوة الأنا) لدى "خميس جمعة" في جمع الحسنيين بالآتي. 

 أولا: الفوز الأول أن تدخل الأنا الصورة كمشاركة في ثورة أحمد عرابي وتلتقط لها صورة وهي مرفوعة الرأس بجوار الحصان ناظرة مباشرة في عيون الناس. بل وتلتقط له بعدها عدة صور عند جنينة الأزبكية تنتهي بصورة "لخميس جمعة" يركب نفس الحصان معلقة بصدر مقهى مما يوحي أنه استطاع مواصلة السير في طريق الثورة.

ثانيا: والفوز الثاني بالإضافة إلى الدخول فى الصورة بجوار عرابي بعد التغلب على كل الضغوط الداخلية والخارجية والتحول من الهامش للمتن، وخاصة بعد أن أخذ بذرة المانجو من عرابي ليغرسها في تراب الوطن لبعث واستمرار عطاء الثورة جيل بعد جيل.

.................................................................

وقدم الكاتب الكبير محمد عبدالله الهادي دراسة معمقة تحت عنوان ("التحول في رواية ما تبقى من بدايات بعيدة" لمحسن يونس) جاء فيها:

الروائي محسن يونس عاش الثورة، وهو ككثير من المبدعين كتب من قبل محرضا وكاشفا وداعيا للتغيير من خلال أعماله الأدبية، لا بد أنه وجد قلمه حائرا، تناوشه أسئلة الكتابة، من أين يبدأ؟ وأي الطرق يسلك؟ ليكتب أدبا حقيقيا معبرا عن روح الثورة من ناحية، وآمال مفجريها في التغيير من ناحية أخرى.

ويضيف الهادي: أعتقد أن محسن يونس كان موفقا في اختيار الفكرة، ومن ثم الشكل والمضمون اللذين انتشلا عمله الروائي من فخ المباشرة والمعاد والمكرر والمستهلك، وأعتقد أيضا أنه كان محصنا بحصيلة وافية من الأعمال الذي مارس فيها التجريب بأشكال مختلفة من قبل، فوضعته على بداية الطريق الصحيح للكتابة، ليكون عمله الروائي واحدا من الأعمال القليلة الناضجة التي تناولت الثورة.

كانت البداية هذا الجسد الذي سقط في ميدان التحرير إثر ضربة عصا من جنود الأمن المركزي "لحظة تلقي رأسي لهبدة عصا في هجوم جنود الأمن المركزي انهرت عقبها علي الأرض، وداستني الأقدام" ص8، هذه هي اللحظة الإبداعية التي تجلى فيها "التحول" الذي نقصده، منفصلا عن الجسد، ومحلقا في فضاء ميدان التحرير، وصانعا للحدث الروائي فيما بعد. هذا هو المشهد الاستثنائي لواحد من الشهداء بين الملايين الذين يملأون الميدان بأصواتهم الهادرة ضد النظام: ارحل.. ارحل..

من الفضاء، وعبر الجسد المحلق الذي يطل على الجسد المرمي أرضا، تتوالى مراحل هذا التحول، مجسدة تاريخا طويلا ممتدا، لعتاة وأوغاد وأشرار وقتلة وفاسدين ولصوص وخونة من أجيال متعاقبة لآل (زمش)، ابتلى بهم التاريخ الوطني وحتى اللحظة الراهنة التي صنعت الثورة، بداية من كبير الأسرة (زمش الزامك) الملقب بـ"وش القملة"، وانتهاء بـ"أدهم زمش" أحد وجهاء العصر المباركي المخلوع، وكأن الراوي ينبهنا بأن هؤلاء الطغاة الجدد ليسوا نبتا شيطانيا وليد اللحظة الراهنة، بل هم ما تبقى من بدايات بعيدة لعصور ظلامية، وحقب تاريخية فاسدة ما زالت جذورها ضاربة في تراب الوطن، انتقلت جيناتهم الوراثية، أبا عن جد، وجيلا بعد جيل في شجرة الأسرة الزمشية.

التحول الذي لجأ إليه الراوي هنا، هو حيلة فنية للولوج في عمق التاريخ بطريقة مبتكرة، استعرض من خلالها وقائع آل زمش، ليست الوقائع أو التراجم التفصيلية لحياة أفرادها، لكنها الوقائع الانتقائية الفنية للماضي من أجل الحاضر، والتي تصب في مجرى العمل الروائي، وتنمو بأحداثه، مستحضرة موتهم غير المكتمل لحيواتهم في الزمن الفائت، فالتاريخ هنا مرجعية معرفية وخلفية للبعد الإنساني في النص.     

الراوي يقول إن رحلته لها تجليان:

  1.  الأول حياتي وهو نازل من شارع ريحان إلى ميدان التحرير كموظف ذاهب لعمله ثم اندماجه في تيار بشري يزحم الميدان في احتجاج علني ثوري.. ومن ثم دخوله المعمعة.
  2. الثاني عقب تلقيه لهبدة العصا وسقوطه بجوار الكعكة الحجرية للميدان.

والموت عنده شيئان متعارضان ومكتملان، ورحلته تستمر دقائق منذ ارتمى جسده علي أرض الميدان، وخرج هو منه للفضاء (التحول)، وسمع من يصيح "شهيد!!":

تجاوز كل شيء، ورأى كل شيء: الميدان والمتحف والجامعة الأميركية، الطوابق والسكان شفافة بلا أستار وبلا جدر أو حوائط، استقبله ثلاثة رجال من آل (زمش) ينتظرون امرأة ليكتمل عقدهم، كانوا عرايا هائمين، أرواحا مجوفة على ماض، وراح يشاهد معهم (الوقائع) التي يشاهدونها عن أنفسهم، كل في زمنه، ويلتقون بآخر العنقود من سلسال العائلة: "أدهم زمش" الذي مات على صدر عشيقته أثناء الفعل، وهو رجل أعمال مهم من رجال العصر، حيث يتوافد لجنازته وزراء وأعضاء مجلس شعب ورجال أعمال علي شاكلته، أما "مخازيه وآثامه" تنفصل عنه، لتعيش بجوار كوبري قصر النيل حيث تتوالد على صورة حشائش، فلا يحصل على موت كامل كباقي الطغاة من عائلته الذين لم تكتمل دائرتهم، فيتعذب مثلهم في بالبحث عنها.

ذهبوا إليه وأحضروه معهم لينضم إليهم: زمش وش القملة ـ الكاشف زمش ـ حماطة زمش.

كانوا يتسربون كالهواء من فتحة القبر طائرين فوق المقابر حتى جاءتهم وانضمت إليهم أيضا ممثلة المرأة في العائلة الزمشية: غرام زمش.

وقائع حياة آل زمش وتحولاتهم 

مؤسس العائلة "زمش وش القملة" قتال قتلة، ومجرم عتيد، قاتل يستأجر ليزهق أرواح الناس، فالوقائع تأخذنا قبل حوالي 1339 عاما لزمن "يزيد بن معاوية"، لنلقاه سجينا في سرداب، ثم وهو قاتل زميل محبسه، ثم قصة عشقه لتلك الفتاة التي رفعت اليشمك ليرى ضحكتها ووجهها الأبيض، وعندما يطرده أبوها يقتله شر قتلة، فتتحول قصة هذا العشق لسيرة على أفواه مغنيو السير على الربابة، ثم عندما يكلف من والي السجن أو الضامن أو أحد المقطعين بمهمات قذرة ضد المعارضين فيخرج ليؤديها ثم يعود، وكأن ما فعله "البلطجية" قبل الثورة وأثناءها من أدوار قذرة لخدمة النظام السابق بتكليف من أجهزته هو امتداد طبيعي لأفعال الجد البلطجي الأكبر زمش.

والرواية لا تغفل استخدام وسائل تعذيب العصر: الضرب بالدرة، العصر بالآلة، التسمير على لوح خشبي، السلخ، تقطيع الأطراف، الخوذات المحماة، التجريس، وهذه الأخيرة هي ما يخافها كبير العائلة الزمشية. 

وهذا يحيل لاستحداث طرق أخرى في العهود التالية، كما في عهد العثمانلي: الخازوق ـ الحفر في جسد المتهم وإدخال الشموع فيها وإشعالها لتذوب شحومها ـ الدفن حيا في رمال الصحراء.  

وباستعراض الوقائع يتجلى التحول أيضا في تحولات أخرى مثل: 

ـ قدرتهم من الفضاء على الدخول والاندماج في أحداث حيواتهم السابقة، ثم العودة منها مرة أخرى.

ـ التراوح في التواصل مع الفاعل في الزمنين.

كما تتجلى علاقة هؤلاء المجرمين بالحكام من خلال توظيف الحادثة التاريخية التي تقول بأن يزيد أراد قتل كل من تبقى من آل البيت، فأمر والي مصر بإرسالهم إليه في دمشق ليقطع رءوسهم، فيتفتق ذهن الوالي عن حيلة تقيه ذنب آل بيت النبوة، فيجمع المجرمين والسفلة من سجونه بعد أن يهيئهم ملبسا وعناية باعتبار أنهم من آل البيت ويرسلهم ليزيد فيتخلص منهم من ناحية ولا يرتكب الذنب من ناحية أخرى. ويجد "زمش وش القملة" نفسه واحدا من قافلة الأشراف المساقين عبر الصحراء نحو دمشق، لكن يزيد في لحظة ندم يقرر عدم قتلهم بل إكرامهم بالهدايا والهبات والمرتبات ويأمر بعودتهم مكرمين لمصر، فيعود "زمش وش القملة" شريفا ثريا باعتراف الخليفة..

و"الكاشف زمش" بائع لحوم البشر، عاش منذ 942 عاما زمن المستنصر بدين الله لايقل سوءا عن والده، ويتجلى تحول آخر لغرام زمش مؤكدة على دورها التاريخي الداعر، و"حماطة زمش" هرب من القاهرة إلى ربوع العربان بالبحيرة، حاملا حمولته من العطارة وغيرها من البضائع، لأن القاهرة يدق أبوابها العثمانيون من 492 عاما، طالبا منهم الحماية، عاقدا مع شيخ عربانهم صفقة لبيع البنادق له، يعود ليسرق سلاح الجنود القتلى في المعارك بين العثمانيين والمماليك، وحماطة زمش خائن اصطادته بقية من المماليك ودفنوه حيا في صحراء المقطم.

و"غرام زمش" اللعوب الغنية في زمن الحملة الفرنسية وهي تستقبل الجنرال كليزيو في حجرة نومها، و"أدهم زمش" الملياردير وصاحب مجموعة شركات، صرحها الرئيسي عشرون طابقا ومركزا لأربع شوارع، يقول الراوي المتحول أنه شعر بالرهبة من البهاء واللمعة والنظام عند دخوله المبنى مع "شمس محمدين" عالم الأنساب. أدهم زمش يتآمر على منافسيه في السوق فيقضي على الزفتاوي بأحط الأساليب التي تصل حد توزيع منشورات تتهمه بالكفر. ويتحول لملذاته ليسبح ليلا على أجساد أربعة نساء عرايا على سريره، وشمس محمدين الذي ذهب إليه ظافرا وحاملا له تاريخ عائلته الزمشية لا يتوقع المصير الذي ينتظره بإلقائه من أعلى المبنى ليسقط قتيلا أو منتحرا كما تقول الأدلة، وكان على أدهم أن يكذب ليغير ألقاب ومهن عائلته مع النصب الذي يعلن وجوده بين كاميرات قناته الفضائية التليفزيونية وهتافات المنافقين حوله "يعيش أدهم زمش"، الذي يموت على صدر عشيقته.

وتظل كل التحولات المادية والمعنوية بكافة تجلياتها ترتبط بعدة روابط:

ـ أواصر القربى الزمشية ممتدة عبر التاريخ من الجد الأكبر المؤسس وحتى الحفيد.

ـ كلهم من أصحاب المخازي والآثام، مجرمون وقتلة ومذنبون وموتهم غير مكتمل.

ـ رغم أن وقائع كل منهم مرتبطة بالعصر الذي عاشه، ورغم تباينها وتنوعها، إلاَّ أنها تتجمع بخيوط مشتركة مشيرة للتاريخ الذي يكرر نفسه بمسميات مختلفة.

ـ جسد الراوي المتحول للفضاء بعد سقوطه شهيدا، هو رابطة العقد الأولى بين الوقائع التاريخية لآل زمش في التاريخ ووقائع الثورة في ميدان التحرير.

ـ الوقائع وهي تعرض التاريخ المنصرم تشير بقوة للحاضر المعاش.

الرواية تطرح كثير من الأسئلة المشروعة، وقد تبدو الأسئلة قديمة، لكنها بالقطع لا تبتعد عن أسئلة الواقع، خاصة أسئلة الثورة التي لم تكتمل بعد.

ندوة محسن يونس

وتقدم الكاتب والناقد العربي عبدالوهاب بورقة نقدية تحت عنوان "الأمثال فى الكلام تضيئ للكاتب محسن يونس"

ما بين بدايات تشكل وعي الطفل الرواي في أول قصص المجموعة، وبين ارتحاله من القرية للمدينة في آخر قصة "أهل القرية يرحلون" يتشكل ذلك العالم المدهش لشخصيات وأبطال قصص محسن يونس "الأمثال في الكلام تضيئ"

فماذا كان يبحث الراوي الطفل منذ تفتح وعيه الطفولي فى قصة بعنوان "البحث"؟، فالنص إعادة تمثيل لعالم الكبار، حيث ألعاب الأطفال تقدم عالما يعد معادلا موضوعيا لممارسات الظلم والاستكانة، يكشف وعي الطفل بخياله الوثاب، سطوة العمدة وشيخ الخفراء، في ألعاب أقرانه، عندما يقررون إعادة عرضه حسب قوانينهم القائمة على مبدأي العدل والمساواة، وكما امتطى الولد حسونة الذي قام في اللعبة بدور العمدة وعطا بدور شيخ الخفراء ظهور العيال الآخرين، رفضوا تبادل الأدوار معهم. رفضوا أن يكونوا مركوبين، وتشاجروا معهم، كما رفضوا لعبة المراكب، بسبب دور ريس المراكب، واستمرار تشاجرهم من أجل اقتناصه، حتى عندما انتقلوا إلى لعبة "طاقية الاخفاء" رفضوا أن تبقى الطاقية مع الراوي، وكل واحد منهم كان يسعى للاستحواز عليها، هنا يتغلغل الكاتب فى أعماق الشخصيات مستخرجا بذرة الخلاف المحركة للأحداث، وهي غريزة التملك والأناوية، والتسلط.. الكاتب يمس هذه المكونات الأولى في النفس البشرية،  ومن خلال تكبير الصورة نستقرأ الدلالات النصية المبثوثة من خلال وعي الطفل، فرفض "عطا" القيام بتقبيل يد العمدة، وانصياعه لأوامر والده كناية ودلالة عميقة على نقاء الطفل وستقامته دون انحناء؛ ووصفه ليد العمدة بأنها ثمينة وخالية من العظم كناية أخرى، وهذا ما يجعل الراوي يتوجه بالسؤال لوالده "العمدة بتاعنا نزل م السما"

تناول من قبل الروائي خيري شلبي في قصة "كلوا بامية" من مجموعة "أسباب للكي بالنار" لعبة الراكب والمركوب أيضا، ومن طول انحناء الراوي المركوب ظن أنه سوف يظل منحيا ومركوبا حتى يوم القيامة، ربما تكون قصة خيري شلبي معتمدة في بنائها على تمرير السياسي في إطار من الفكاهة والتثرية من خلال الاطلال على مواقف من الطفولة تصلح للكتابة، هنا الكتابة عند محسن يونس قائمة على إعادة توظيف العديد من الحكايات في إطار خدمة الرؤية المركزية.

وهذا العالم "حكايات عالم الطفولة" بما يتميز من زخم وسخاء يظل هو اللبنة الأولى التي مسَّت الوعي وتركت آثاره متعمقة في النفس ومحركة للإنسان في قادم أيامه.

ومن ثم فاستعادة هذا العالم وإعادة قراءته وإنتاجه ليس فقط للتثرية، أو استمراء الكاتب واستعراضه لقدراته على ممارسة الحكي بقدر ما هو استفتاح لعالم مزدحم بالرؤى والدلالات.

في قصة "أبو مالك" يستعرض قدرات أبومالك الخارقة مثل سيطرته على النار، وتكسير الزجاج بأسنانه ومضغه، إن نسيم القهوجي أحب أن يستقطب شباب القرية من انشغالهم عن مقاهه بالمسلسلات والفرجة الجديدة، بإعادتهم لزمن الشاعر الذي يغني قصائده على الربابة، ويقول بأن التليفزيون ـ  فى بدايات ارساله ـ يقفل بعد العشاء، بينما الشاعر أبومالك والمقهى يسهر حتى الفجر، هنا نلاحظ أن نسيم يحاول استبقاء زمنه من أجل مصالح قهوته، ورغبة في جر شباب القرية لأن يكون السهر مع الشعر والغناء الجميل، ولذلك يأتي بأبومالك ويستضيفه ويطعمه، ليقوم له بدور الشاعر، ولكن ثمة سر يتعرف عليه يجعله يضرب أبومالك حتى يجدوه في اليوم التالي ميتا ويهجر نسيم القهوجي قهوته محتفظا بسره عن أبومالك.. ذلك السر الذي يبقى خافيا عن القارئ، ولكن رموزه فى النص صارت جليه، ذلك زمن عبر، وجاء التلفزيون والمسلسلات، وانتقلت القرية من مرحلة لأخرى رغم أنف نسيم وأبومالك الذي ابتدأ الكاتب به وهو في مشهد الرحيل وهو مسجى ومبتسم.

أما القصة الأخيرة "أهل القرية يرحلون"، فيشير الكاتب من خلالها أن معظم من تعلموا وحصلوا على شهاداتهم يأتيهم خطاب التعيين ويهجرون القرية إلى المدينة، وتلك الإشارة تؤكد أولا عدم انتفاع القرية بشبابها المتعلمين وبعلمهم، وباستقطاب المدن لهم، وفي مستوى دلالي آخر نلاحظ أن الكاتب يرصد التحولات التي ستمر بها القرية لا محالة من تبدلات عمرانية في البنية العمرانية، فسوف تتبدل بيوت الطين لتكون بيوتا من الحجر، والشباب يتحولون إلى أفندية، ولكن يبقى للكاتب تقديم عالم القرية بهذا الشكل الأسطوري الأثيري، فبمجرد مجيء خطاب القوى العالمة بتعيين الراوي بطل القصة في المدينة يحتفلون بابنهم بذبح عجل وإطعام الفقراء، وإقامة حفل يحضره المنشد، وكأن القرية تزف ابنها كعريس إلى عروسه وهي المدينة، الكاتب يقدم غالبا في قصصه أكثر من مستوى دلالي.

يتعامل الكاتب مع الشخصيات بطريقة حداثية، لا يحكي عنهم فقط، بل يستخرج مكنوناتهم، ويجسد رغباتهم وجشعهم، يعيد الكاتب طرحهم باقتصاد شديد، وبدرجة عالية من التكثيف، ولا يقدم أفاعالهم كأحداث ولكن كبقايا أحداث، وبقايا حكايات.

كما أن الزمن نفسه مراوغ دائما يتمدد أحيانا في بعض القصص، ويتوقف ليعكس لنا مقدار عنفه وسطوته.

يقدم الكاتب في هذه المجموعة وهي من بداياته الأولى كتابة دالة ومعبرة عن كاتب كبير يمتلك أدوات وجماليات وعالم شديد الخصوصية والبهاء.

وجاءت دراسة الكاتب والناقد محمد الديب تحت عنوان "محسن يونس .. صانع الأساطير - قراءة في قصة 'جبل الحكمة'"

حين يتمكن الكاتب من تحويل اليومي إلى عجائبي، والواقع إلى حلم، واللغة إلى تعويذة سحرية، فإنه يصبح صانع أساطير حقيقيًا. ليس بالضرورة أن يخلق مخلوقات خرافية أو عوالم خيالية، لكن عليه أن يجعل القارئ يشعر أن ما يقرأه يتجاوز حدود الحكاية العادية، ليصبح جزءًا من نسيج الكون، الأسطورة الحقيقية ليست في الخيال وحده، بل في القدرة على جعل القارئ يصدق المستحيل، أو على الأقل، أن يشك في أن الواقع أكثر غرابة مما يبدو عليه.

والزمن في الكتابة الأسطورية ليس خطًّا مستقيمًا، بل كائنٌ مطاطيٌّ ينكمش ويتمدد وفقًا لحاجة السرد، قد يتوقف الزمن فجأة، أو يعود للوراء دون أن يشعر القارئ بأي غرابة، أو يتداخل الماضي بالحاضر حتى يصبح كلاهما جزءًا من نسيج واحد، محسن يونس لا يحكي القصة فقط، بل يعيد تشكيل الزمن بحيث يبدو وكأنه كائنٌ حيٌّ يتحرك بإرادته.

ولم أطلق على كاتبنا أنه "صانع الأساطير" هباءً، فهو ليس مجرد حكَّاء يعيد إنتاج الحكايات القديمة، بل هو مجدد يعيد تشكيلها بطرق غير متوقعة، قد يأخذ قصة من الفلكلور الشعبي لكنه يضعها في سياق جديد، أو يستخدم أسلوبًا حداثيًا في السرد ليجعل الأسطورة تبدو وكأنها تنتمي إلى عالمنا المعاصر

محسن يونس يستخدم الحكايات التراثية لكنه يضفي عليها طابعًا عصريًا، فلا تبدو كما لو كانت مجرد إعادة إنتاج للماضي، بل كأنها تتجدد في كل مرة تُروى فيها.

وتعتمد قصة "جبل الحكمة" على بنية معقدة تتداخل فيها الحكايات داخل بعضها البعض، فنجد السرد الأساسي عن تجربة الراوي في "التخشيبة"، ثم ينفتح النص على حكاية المرآة التي يسردها الراوي، ثم تمتد الحكاية إلى مستوى ثالث يتحدث عن علاقة المرآة بشاهين بك والمماليك. هذا التداخل السردي يُشكّل بنية حلقية تتكرر داخل القصة، حيث تتشابه تجربة الراوي مع تجربة الصبي الذي أغوته المرآة، ومع تجربة شاهين بك الذي واجه مصيره من خلالها.

الزمان والمكان:

المكان في القصة يحمل طابعًا رمزيًا واضحًا:

• "التخشيبة" ترمز إلى القيد الجسدي والنفسي.

• "المرآة" تتحول إلى بوابة للزمن، حيث تنعكس عبرها الأحداث التاريخية.

• "جبل الحكمة" هو فضاء أسطوري تتجمع فيه الشخصيات الباحثة عن الحقيقة.

أما الزمن، فهو متشظٍ وغير خطي، بل كما قلنا هو كائنٌ مطاطيٌّ ينكمش ويتمدد وفقًا لحاجة السرد .. حيث ننتقل بين الماضي والحاضر والمستقبل عبر المرآة، مما يعكس تفكك مفهوم الزمن التقليدي في القصة.

ثانيا: الشخصيات ودورها في بنية السرد     

1- الراوي

الراوي شخصية متأملة تشارك القارئ أفكارها حول العالم والزمن والتاريخ، مما يمنح النص طابعًا فلسفيًا. يظل الراوي غامضًا، ولا يقدم تفاصيل كثيرة عن هويته، مما يعكس طابعًا بنيويًا حيث يكون الراوي مجرد وسيلة لنقل الحكايات بدلًا من أن يكون محور القصة.

2- المحتجز صاحب المرآة

يمثل البُعد النفسي والاجتماعي للإنسان المسجون داخل الأوهام، فهو يهتم بمظهره حتى في مكان لا يعني فيه المظهر شيئًا، مما يكشف عن عبثية محاولات الإنسان للتحكم في مصيره.

3- شاهين بك

شخصية تنتمي إلى التاريخ، لكنها تظهر هنا باعتبارها انعكاسًا لمصير الشخصيات الأخرى. إنه نموذج للقوة التي تتلاشى، والمصير الذي يتحدد رغم الأوهام.

ثالثا: الرموز في القصة ودلالاتها:

محسن يونس لا يروي قصة واحدة، بل يصنع سردًا متعدد المستويات، حيث يمكن فهم الأحداث على المستوى الواقعي، أو باعتبارها استعارات لكوارث إنسانية، أو حتى كبُعد ميثولوجي يعيد إنتاج رموز قديمة في سياقات جديدة .. فالكتابة المباشرة تفقد سحرها بسرعة، بينما الرموز المعقدة تترك مساحة للغموض، مما يجعل القارئ يظل مشدودًا للنص. محسن يونس يدرك أن الحكاية المباشرة قد تُنسى سريعًا، لكن اللغز الذي يتركه خلفه يبقى حيًا في ذهن القارئ.

وقصة "جبل الحكمة" تقوم على مجموعة من الرموز العميقة التي تمنح النص بعدًا فلسفيًا وتأويليًا، حيث ترتبط هذه الرموز بمفاهيم الهوية، الحقيقة، الخداع، والتاريخ. وسوف أحاول فك بعض الرموز في هذه القصة:

1- المرآة: رمز الحقيقة والخداع في آنٍ واحد

المرآة هي الرمز الأهم في القصة، وتظهر بأكثر من شكل ومعنى:

• مرآة التخشيبة: تعكس المفارقة بين الواقع والوهم، حيث ينشغل المحتجز بمظهره رغم وجوده في بيئة يفترض ألا يكون للمظهر فيها قيمة، مما يبرز عبثية الإنسان ومحاولته خلق نظام جمالي وسط الفوضى.

• مرآة الصبي: تتحول إلى وسيلة للتلاعب بالهوية، حيث تدفعه إلى الشك في صورته الذاتية، مما يعكس فكرة تأثير الصور الاجتماعية والانطباعات الخارجية على تصور الفرد لذاته. 

• مرآة شاهين بك: تمثل المواجهة الحاسمة مع الذات، حيث لم يجد صورته فيها، مما يرمز إلى فقدان السلطة أو الاقتراب من المصير المحتوم، كما تعكس انكشاف الحقيقة بعد الوهم الذي عاش فيه.

2- الظل: رمز الهوية الزائفة والمصير المتحول

يظهر الظل في القصة كعنصر محوري له عدة دلالات:

• سرقة الظل: تشير إلى إمكانية استبدال الهوية أو تزييفها، فالإنسان قد يسرق ظل غيره، لكنه لا يستطيع امتلاك حقيقته.

• ركوب الظل: يعكس السيطرة على المصير، حيث أن بعض الأشخاص قادرون على توجيه حياتهم وفق إرادتهم، بينما الآخرون تسيطر عليهم أوهامهم.

• الرجال بلا ظلال: يرمزون إلى الشخصيات التي فقدت هويتها أو وجودها الحقيقي في المجتمع، مثل الأشخاص الذين تُمحى آثارهم عبر الزمن.

3- جبل الحكمة: رمز البحث عن الحقيقة والضياع في الأوهام

الجبل في القصة ليس مجرد مكان، بل فضاء رمزي يتجمع فيه الباحثون عن الحكمة. لكنه في الوقت نفسه يعكس مفارقة، حيث أن من يصلون إليه لا يستطيعون العودة، مما يدل على أن البحث عن الحكمة قد يؤدي إلى عزلة عن الواقع أو انفصال عن العالم الذي جاؤوا منه.

4- القلعة: رمز السلطة الزائفة والمصير المحتوم

القلعة في القصة هي المكان الذي يُدعى إليه شاهين بك، مما يحيل إلى فكرة الفخ السياسي الذي يُنصب له، كما أنها ترمز إلى السلطة الهشة التي يظن الحاكم أنها دائمة، بينما تكون في الحقيقة مؤقتة وزائلة.

5- الثلوج التي تغطي القلعة: رمز الزمن الذي يُخفي الحقيقة

تظهر الثلوج فجأة في مشهد القلعة، مما يرمز إلى نسيان التاريخ، حيث يمكن أن يغطي الزمن الأحداث ويمحوها، لكن الحقيقة تظل كامنة تحت هذا الغطاء، تنتظر من يقوم بإزالة الثلوج ويكشفها.

إن الرموز الغامضة والمركّبة تُخرِج القارئ من منطقة الراحة، فلا تسمح له بالاستسلام لسياق تقليدي. بدلاً من ذلك، يواجه القارئ لحظات من الدهشة والاضطراب، تجبره على التفكير بشكل مختلف.

6- صوت سنابك الحصان: رمز الإنذار والتحذير

حينما يسمع شاهين بك وقع سنابك الحصان، فإنه يدرك أن هناك خطرًا قادمًا. يمثل هذا الصوت علامة تحذيرية على المصير الوشيك، كما أنه يرمز إلى اللحظة التي يدرك فيها الإنسان اقتراب نهايته.

فصوت سنابك الحصان هنا نذير شؤم أو علامة على قدر لا مفر منه. 

7- التاريخ: رمز العمى والتكرار

يتم تصوير التاريخ في القصة ككائن أعمى يسير في طريق مزدحم، مما يعكس فكرة أن التاريخ لا يرى الحقيقة بوضوح، وأنه يعيد نفسه بأخطاء متكررة لأن من يكتب التاريخ أشخاص يزورون الأحداث لصالح آخرين. فجعل محسن يونس المرآة في هذه القصة أسطورة تظهر من خلالها حقائق الناس تُوحي للصبي ليقول ما يريد محسن يونس قوله، بلغة تنبض بالحياة، لغة تقترب من العامية دون أن تفقد عمقها، وتحمل في طياتها طبقات من المعاني والتأويلات، فهو لا يسرد الوقائع بطريقة تقريرية، بل يستخدم صورًا مدهشة، واستعارات تتجاوز المعنى المباشر، لتصبح الكلمات نفسها جزءًا من اللعبة السردية، وهو في معظم القصص يُدخل لعبة "الميتاسرد" 

والرموز المعقدة لدى محسن يونس ليست مجرد حيلة أدبية، بل هي امتداد لتراث الحكّائين الشعبيين والأساطير القديمة. كما في الحكايات القديمة التي تحمل في طياتها معاني متعددة، يستخدم رموزه ليبني عالمًا سرديًا يجمع بين الحداثة والجذور العميقة للحكي الشعبي.

ومع ذلك لا أدعي أن ما يريد قوله قد وصلني بالفعل لأن محسن يونس لا يمنح قارئه إجابات واضحة، بل يتركه معلقًا بين التصديق والتكذيب، هل ما يرويه حقيقة أم خيال؟ هل هي رؤى هلوسية أم وقائع حدثت حقًا؟ هذا اللعب على حافة الإدراك يجعل النص الأدبي أكثر تأثيرًا، لأنه يخلق تجربة تترك أثرها بعد الانتهاء من القراءة.

وتناول الكاتب والمبدع أحمد عثمان رواية "40 ألف كلمة" في ورقة نقدية تحت عنوان: (تأملات انطباعية لقارئ حول رواية "40 ألف كلمة" للروائي والقاص الأستاذ/ محسن يونس) جاء فيها:

بداية هذه الرواية هي من اختارتني قبل أن أختارها.. فقد كان أمامي ست روايات لكاتبنا الكبير، ولم يكن من المنطق والمعقول قراءة الروايات الست، فلا الوقت يسمح ولاالجهد يعين، لذا كان علي أن أختار، ولأنها كانت على رأس القائمة فاختار كل منا صاحبه.

ولعل ما لاحظته في مطالعة سريعة للصفحات الأولى للروايات الست أنني وجدت أن هذه الرواية هي الوحيدة بينهم التي سماها أستاذنا من البداية (رواية) أسفل عنوانها عكس الروايات الخمس الأخرى التي تعددت توصيفاتها: ما بين "شطحة" في "حرامي الحلة"، و"تعديدة" في "بيت الخلفة"، و"حكاية في صورتين الأول فردي والثاني جمعي" في "حكايات الألفة"، و"متن واحد وأربع نهايات" في "الملك الوجه" .. ولكن يبدو أن كاتبنا تذكر أنه لم يوصِّف هذه الرواية التي نحن بصددها، فكتب ملاحظة تصفها بأنها "شطحة أملاها عليَّ عفريت الفراغ" وترك لكل قارئ أن يذهب في توجيه إسقاطاته إلى الوجهة التي يراها، أو تستنفر في قناعاته "وكل قارئ حر فيما يذهب إليه"، والشطح ـ وفق المعجم هو التباعد والاسترسال، بمعنى الانفلات من دائرة المألوف إلى فضاءات خارج التصور، والابتعاد غير المحسوب عن الجادة.

السفر وراء مقالات محسن يونس القارئة لنصوص الآخرين سفر مُمتع.. رؤاه النقدية مغروسة في أرض النص تماما وليست سياحية، ناقلة لجوانب وعروق الفن بتذوق وحساسية هائلة

أما عن العنوان "40 ألف كلمة"، فنجده مأخوذ من داخل النص، وبالتحديد مما جاء بنهاية الشطحة أو القصة الثانية، حين قال راوي القصة أنه حكاها في ثلاثمائة كلمة، ثم تزايدت في تناقلها من جيل إلى جيل من ألف إلى ثلاثة آلاف .. وهكذا، ليتساءل أحدهم: فيما لو أن قصتهم هم في الحياة كُتبت، أو أراد واحد أن يتلوها سماعياً، كم عدد كلماتها من وجهة نظرهم؟.. ليجيب: "أعتقد قصة الواحد منا يلزمها أربعون ألفاً وبضع مئات من الكلمات، وهي وافية جداً .." .. وقصة الواحد منهم هي قصتهم جميعاً لأنهم كل متوحد، ومنها جاء العنوان كونها "وافية جداً" .. ليعلق كاتبنا على هذا الطرح قائلاً: "هذه هي النسخة الأولى، بينما سوف تتعدد نسخها في خمسين ألفاً أو ستون ألفاً أو مائة ألف حسب طول نفس الذي يحكي، أو قدرة من يكتب"

فإذا استعرضنا المتن، فإننا نجده قائماً على أربعة دعائم أساسية تحمل البناء السردي للرواية من البداية وحتى نهايتها، وتتمثل في: 1) الأصحاب الأربعة، ويمكن أن نطلق عليها القوي المحركة للفعل على طول السرد .. 2) القطار: الذي يمثل حركة الحياة، ..3) يوم الجمعة: ويمثل غالب زمن الأحداث على مدار الرواية من ناحية، وكونه يوم الانفلات من الروتين الأسبوعي الرتيب، والتفرغ التام للاستمتاع، .. 4) محطة البداية: وهي محطة مدينة الأربعة التي تبدأ منها رحلة الذهاب، وتنتهي إليها رحلة العودة.

ومن هذا المنطلق، ومن وجهة نظري ـ التي تحتمل الصواب والخطأ ـ أرى أن هذه الرواية في مكوَنها؛ ما هي إلا مجموعة من القصص القصيرة التي تتباين في الطول يجمعها معاً أن بطلها واحد وهم الأصحاب الأربعة الذين أراهم افتراضيون، أو وهميون موظفون في السرد لتسيير الأحداث ونقل رؤى السارد، بدليل أنه لم يسمهم، أو يحدد لهم ملامح، أو سمات يتمايزون بها فيما بينهم، كما لم يحدد لأي منهم دوراً محدداً "على طريقة الكل في واحد"، فنجد (الفعل) ـ دائما ـ غيرمحدد فاعله من بينهم، وربما هذا ما قصد إليه السارد، فدائما ما يقول: تساءل أحدهم .. تكلم "واحد" منهم، وقال "واحد" منهم، وقال أحدهم .."أكبرهم" كان أكثرهم صياحا "فمن أكبرهم هذا؟ .. غير معروف لنا!" ويقول: "واحد من الأربعة" من هو؟ .. لا ندري ـ "أشار صاحبهم الذي يحكي" .. فمن هو؟ وهكذا ... وكأنما أراد لهم السارد أن يكونوا بالفعل كعرائس الماريونت ـ كما ألمح بذلك في المفتتح ـ أو كتماثيل بلا روح، لا علاقة لهم بما يدور حولهم أو بين أيديهم، بلا أي استجابة، فيقول: "الأربعة لم يروا، أو يسمعوا، كانت عيونهم هادئة، لاشبهة عمى أو غشاوة  .."، منفصلون عما يموج به محيط العربة من حولهم، وهو ما سوف يفاجئنا به السارد ونحن على أبواب النهاية، حين تأتي هذه الفقرة على لسان أحدهم؛ فيقول: "نحن عرائس ماريونيت .. وهل ادعينا يوما أننا لسنا دمى أودميات؟!" ونتجاوز الإسقاط هنا، ليُكمل: "المجد لعرائس الماريونيت .. لتحيا الدمى .. إنها لا تكذب، ولا تسرق، ولا تقتل، ولا تحب أو تحب، كنا نرى القصص من حولنا، بين شباب وفتيات الفرقة .. كنا نضيق بأنفسنا لأننا لانستطيع أن نفعل مثلهم، ليس لدى أي منا قلب يادمية .. هاهاهاها ..دمية، لفظ جميل، سواء كان لفظ دمية أو عروسة .. المجد لنا سواء دمى أو عرائس"

ويؤكد المعنى نفسه الصول الذي صاحب الأربعة في القصة الأخيرة في مهمتهم التي اصطنعها لهم الكاهن الساحر الغابر في مدينة "الكوشة" التي تشبه في وصفها أرض مصر التي يقسمها النهر نصفين، فيقول لهم: "منذ قابلتكم وأنا أحاول إفهامكم أنكم وأنا عرائس ماريونيت، هناك من كان يحركنا"         

فقط هم أربعة (بالعدد فقط) يعملون في مصلحة واحدة، تجمعهم اهتمامات ورغبات وتطلعات مشتركة، فتصادقوا ليبدأوا رحلة الإجابة عما يدور بخلدهم ويصبون إلى معرفته .. فكانت رغبة ركوب القطار "وهو هنا المعادل الموضوعي لرحلة الحياة" ـ كما عبر عنها أحدهم ـ تحقق لهم عدة أهداف يسعون إليها تتمثل قيما قاله هذا الواحد: 

ـ التفرج على الناس في سلوكياتهم
ـ وتصرفاتهم في كافة المواقف
ـ ممارسة التأمل
ـ محاولة النفاذ إلى روح كل فعل يأتيه رجل أو امرأة
ـ وأخيراً الاستمتاع

وقد عزا السارد العليم كل ذلك إلى طابع الفضول الإنساني، وشغف المعرفة الذي قرَّب بينهم، وإذا كان هذا حالهم فإنهم لم يستبعدو أن يكونوا "هم أيضاً في نظر الآخرين فرجة لنفس أسباب الرغبة لديهم"

وكما تغاضى السارد عن تحديد سمات الأصحاب الأربعة، فإنه لم يذكر اسماً لمدينتهم "محطة القيام"، ولا اسماً لأي بلد توقفوا بمحطتها وعادوا منها، أو نزلوا بها، أو جالوا بين دروبها، فلا تحديد لمكان بعينه، ولا هوية له تميزه، وكأنما أراد الكاتب أن يقول لنا: لا تشغلوا بالكم بكل هذا الإبهام، ولا تجعلوا له أهمية، المهم هو المطروح عبر مسار نسيج هذا الحكي من شطحات فكرية تأملية، أو رصد لوقائع أو أحداث، أو غوص في أغوار النفس البشرية وتطلعاتها، أو ... الخ، وفي النهاية ينفض يديه ويُلقي بالقلم، ليقول لنا: لكل منكم حرية التأويل وتوجيه الإسقاطات وفق ما يتراءى له

وإذا جاز لي التشبيه؛ فأرى أن هذه القصص التي تشكل ما يشبه المتتالية أو المتواليه؛ كما قطع الملابس المغسولة بعناية فائقة، المتنوعة في أشكالها وألوانها واستعمالاتها؛ يجمعها حبل غسيل واحد يمثله هؤلاء الأربعة محور هذه المسرودة .. تتنوع هذه القصص في مراميها ومضامينها بين النظرة الفلسفية، كما في شطحة أو قصة البداية التي يرى فيها أحدهم أن القطار برمزيته ماهو إلا: "حياة تسير للأمام" لا يستطيعون الانفصال عنها مهما حاولوا، وأن عليهم أن يستفيقوا من عبثيتهم هذه أمام الحقيقة الأزلية التي يحذرهم من الإغماض عنها، فيرفع سبابته في وجوههم ـ على سبيل الإنذار من خطر قائلاً: "ليكن في علمكم أن القطار مهما طال به العَدْو على قضبانه؛ فسوف يتوقف في النهاية".

وإذا كان القطار يمثل الحياة النمطية المألوفة المأمونة الجانب؛ فإن القارب برمزيته أيضاً يحيلنا إلى الحياة الأكثر صخباً ومخاطرة تستوجب المغامرة .. هو حياة أخرى إذن .. 

ثم نأتي إلى ما جرى بين الأربعة وصاحب القارب الذي ركبوه للعبور إلى الضفة الأخرى من النهر ونظرة كل منهما لصاحبه.. فصاحب القارب الذي يمسك بالمجدافين تعملقت فيه الذات حتى بدا كإله يتحكم في مصير الأربعة وحياتهم، حتى أنه يقف بهم في وسط النهر يساومهم عليها إن لم يدفعوا ما يريد، فتتعالى ضحكاته الهازئة بلا توقف ـ من منطق اليد العليا ـ أمام مشاعر الخوف التي انتابتهم وهم على وشك الغرق .. فنحن أمام مُتحكِم، ومُتحكَم بهم، يراهم وفق المستفر بقناعاته أنهم أحياء من الدرجة الدنيا في عالم الأحياء، وهو المهيمن على مصائرهم، فيراهم مجرد أسماك بياض ضعيفة يمكنه صيدها إذا أراد .. على الطرف الآخر من المعادلة يراه الأربعة كلٌ حسب الصورة المستفرة داخله، وانطباعاته عنها "ورمزيتها عنده": فيراه الأول في صورة جَدي ماعز، ويراه الثاني مسجوناً وهو سجَّانه الذي سينتقم منه، ويراه الثالث يسير في الصحراء لا يملك نقطة ماء فيتركه لمصيره دون أن يلوث يديه، أما الرابع، فكان محايداً ملتمسا العذر له في تصوره لهم كأسماك.

ثم ينقلنا (الكاتب/السارد) نقلة أخرى تستجلي النفس وما يعتمل بدخيلة النفس البشرية من رغبات وتطلعات في الشطحة أو القصة التالية؛ حيث طيور الذهب التي تلوح أمام المتطلعين الراغبين في اقتناصها، ولكنهم لا يستطيعون صيدها إلا الأقلية منهم للصعوبة والمعاناه في سبيل الإمساك بها في رمزية إلى ما يخايل النفس البشرية من أحلام الثراء بلا اجتهاد ولا مشقة في سبيلها، وهي الأحلام نفسها التي يتمناها كل من بعربة القطار "الأصحاب الأربعة، وباقي الركاب، والكمساري" كحال أهل القرية محل الحدث برمزيتها للمجتمع بكل أطيافه .. لذا لو نظرنا حولنا لوجدنا أن الأثرياء أصحاب الثروات قلة معدودة في المجتمع، بينما الأغلبية دون ذلك.

وفي النقل الثانية تغطي سماء القرية بكثافة طيور من نوع آخر، المسماه طيور اللحم، وهي طيور سهلة المنال تطولها أيادي أهل القرية بلا تعب ولامشقة، فيقعدون ويسترخون، ويملأون بطونهم "لحم طير مما يشتهون" لم يسعَوا إليها، حتى أن أحدهم ليمد يده فتمسك بما يريد وهو لم يحرك ساكنا في قعوده ودِعته، فالطير كثيف يحجب عنهم أشعة الشمس، فتضعف همتهم وأجسامهم ـ بمرور الزمن ـ ويكِلُّ بصرهم، وترق جلودهم، ولا يقدرون على شئ، وليس هذا إلا مآل المتواكلين ..

ثم يرصد السارد في أخريات بعض السلوكيات المذمومة، كالمداهنة في قصة المدير أسير صورته وأحد موظفيه .. وسلوك العدوانية كهذا الذي يحدث بين الحماهير المتعصبة في مباريات الكرة .. وسلوك الجهل بالقواعد والنظام الذي تسبب فيما نال الأربعة من إيذاءٍ وعقاب، كما في واقعة الكاتدرائية والأمن.

ثم هذا الانتقال الدرامي لإلقاء الضوء على ضعف النفس البشرية أما جبروت الإغواء المادي، والذي اعترى هؤلاء الأربعة، والنزول من مثاليتهم إلى مهاوي الفساد ومخالفة ضمائرهم بالعمل ضد قوانين المصلحة، وبيع ذمتهم المهنية لقاء نزهة وسهرة حتى الصباح على يخت ذلك الثري السمين الذي يتمتع بعضوية مجلس النواب، مقابل التغاضي عن وضع يده على أرض ملك الدولة بدون وجه حق، والتي لم تسجل بعد بدفاتر مصلحة الأملاك محل عملهم، إقرارا بمبدأ "الورق ورقنا والدفاتر دفاترنا" .. وفي ملمح آخر وإعمالاً لمبدأ القوة الغاشمة أو القاهرة في ذلك الصراع الذي دار بين "النوارس" ذلك الطائر الضعيف، و"الحوت" الضخم، ولم يكن للنوارس أن تفوز فيه مهما تكاثفت أعدادها إلا بتدخل سافر من قوة غادرة إلى جانبها "ممثلة في رصاصات المخرج التي وجهها إلى رأس الحوت" ليعلق بعدها على هذه النتيجة غير المنطقية بقوله: "هنا يمكن للنوارس أن تفوز" والإسقاط واضح.

ولا يخفى هذا الإسقاط الذي جاء على لسان أحد الأربعة في مسألة الدب "هذا الحيوان الضخم الغشيم، ابن البيئة الباردة"؛ وإشكالية عيشه في الصحراء العربية، وهل الدب يعيش فيها؟ إذ اراد ـ هذا الواحد ـ أن يضيف الدب والحال هذه ليكون رابع مستحيلات العرب الثلاثة "الغول والعنقاء والخل الوفي"، ليرد على نفسه مبرراً: "أن الدب يعيش في الصحراء العربية لو أراد أن يعيش، لا أحد يستطيع لا عربي ولا أوروبي منعه من أن يعيش في صحراء من صحاري الأقطار العربية". 

ولم ينس عفريت الفراغ أن يأخذ بيد كاتبنا ليعرج به نحو إشكالية كتابة التاريخ  للمدينة المسماه بالكوشة وتناحر المؤرخين فيما بينهم كل يريد أن ينتصر لرؤيته  إزاء أي حدث مما مر بهذه المدينة، فيقول على لسان الرجل العجوزواصفاً حاله مع أقرانه كتبة التاريخ: "في مرة طالت مدة تسكعي .. المهم أنني قرب وضعي نهاية له، وعودتي للمناهدة والصراخ في وجوه بعضنا البعض لأننا لم نتفق على حدث واحد مما نكتب ..." على اعتبار أن التاريخ وجهات نظر تتباين وتتصادم بين المشتغلين بالتاريخ حول الحقيقة الواحدة ..!

النص الروائي مكتنز بالإسقاطات التي تتعاقب مع تعاقب الحكايات أو المحكيات بلا توقف من بداية القص حتى آخره عبر الواقعي، والمتوهَم، والأسطوري، والإيحائي، والمسلمات المنطبعة خارج النقاش في تلافيف اللاوعي، ومن العسير والشاق الإحاطة بها كلها، وهذا الذي ذكرت غيض من فيض حسب قدراتي المتواضعة.                  

وأشار الشاعر أبانوب لويس في مداخلته إلى البُعد الفلسفي في رواية "40 ألف كلمة" وربط بين ما تطرحه الرواية من أسئلة وجودية وبين فلسفة جون بول سارتر، وجُل هم الشخصيات البحث عن معنى في عالم بلا معنى، وإذا كان المعنى غير موجود فعلينا أن نصنعه بأنفسنا، وهذا ما تحاوله شخصيات الرواية، وأشاد ببراعة الكاتب في استبطان ما بداخل الشخصيات، وملامسة ما يشتجر في نفوسهم وما يدور في عقولهم، والرحلة لم تكن داخل القطار وحسب ولكنها داخل النفس البشرية أيضا.

وربط الشاعر أبانوب لويس أيضا بين بعض مقولات سارتر وبين الرواية، فعن الحرية والمسؤلية الفردية في الفلسفة الوجودية، يرى سارتر أن الإنسان محكوم عليه بالحرية، وأنه مسؤول عن قراراته في أبسط الأمور، واختيار الأصدقاء في الرواية للقيام برحلة أسبوعية نوع من المقاومة الصامتة، فالإنسان لا يملك إلا أن يختار، حتى لو كان الاختيار بسيطا.

وأبطال الرواية يعانون من الملل وروتينية الحياة وجمودها، والدوران في فلك تكرار الفعل اليومي، والرحلة الأسبوعية أعطتهم إحساسا بالتحرر وهو مشابه لما حدث لبطل سارتر في الغثيان، والقطار يرمز إلى الحياة، وإذا كان الإنسان حر في اختيار أفعاله، فإنه يعيش في عالم يفرض عليه بعض القيود.

وتحت عنوان "محسن يونس.. الأمانة قبل كل شيء" أرسل المبدع والكاتب حسام المقدم من مدينة ميت غمر شهادته عن أستاذه محسن يونس، قرأها مقدم الندوة وجاء فيها:

"تواصل الأجيال ليس كلمات أو أكليشيهات تُقال هنا وهناك، التواصل هو أمانة الكلمة في النصيحة والتوجيه ونقل الخبرة، دون تصدير أستاذية أو ادّعاء بذلك. بالنسبة إلي حين يحضر التواصل الحقيقي لا بد أن أقف أمام الأستاذ الكبير الغالي محسن يونس، كان –ولا يزال- قادرا على إصابتك بعدوى البحث عن الكتب العظيمة والبدء على الفور في قراءتها، سيُطلق صيحته: "ياااااه" حين تُذكّره بكتاب مُهم قرأه من قبل، يبدأ لحظتها في استدعاء ما فعله ذلك الكتاب فيه، وكيف استفاد منه. حدّثني عن كُتب عظيمة أذكر منها: "السرايا الخضراء" لماشادو دا أسيس، و"تقرير إلى جريكو" لكازانتزاكيس. 

له طَبع في قراءة النصوص لا يحيد عنه أبدا، يقرأ بحب ومعايشة لكل الأجيال، يُنبه إلى تفاصيل لم نكن نراها، يدخل إلى قلب العمل ولا يلف ويدور، لا يقول كلمات مائعة مثل: "جميل"، أو"الله ينور". يحدث أن يُبدي إعجابه البالغ بنص ما لدرجه أن يضعه فوق نصوصه هو نفسه! وفي نص تالٍ قد تسمع منه مباشرة وبلا مُواربة: "لا لا، أي كلام!". هذه القسوة الظاهرية هي الأمانة ولا شيء غيرها، لا يُمكن أن يقول محسن يونس ما لا يقتنع به، سواء مع أحبابه أو مع كاتب يقرأ له لأول مرة. حتى الآن حين يُذكر التواصل الجميل للأجيال يذهب خاطري إليه بلا تردد.

أما إبداعه فالتجريب هو هَمّه الأول، من تجارب نهَلت من التراث ونوَّعت على أوتاره، ومزَجَت كل ذلك بنبرة زمنية معاصرة، كما في رواية "المَلِك الوَجه"، إلى تجربة التماس مع تاريخ حقيقي في البدء، ثم الصعود به إلى ذُرى الخيال والتَّصرُّف المبدع الخَلاق، كما في رواية "حرامي الحَلّة".. شَطحة روائية لوقائع إقامة جبرية. أما "بيت الخِلفة" فلغتها متفردة فعلا، لامَسَت فن "العَديد" بشكل سردي جريء وجديد. 

كثيرة هي روايات وأعمال محسن يونس، تكاد كل تجربة أن تكون عالما بذاتها، من حيث قدرته الفريدة على خطف الذهن والسفر به إلى آفاق بعيدة، عبر لغة من الصعب توصيفها. لا زلت أذكر بدايات بعض رواياته أو قصصه، أُرددها لتذكير نفسي بضربة البداية في السرد، حين تكون مقتحمة وداخلة مباشرة في الحدث أو الشخصية. من الذاكرة أتلو أول جملة في "بيت الخِلفة": "رأيتُ الشاب ابن العِيلة، السوّاح في البلاد، حَنَّ وكَنَّ..". ومن "المَلك الوجه" أتذكر: "اقرأْ يا مَليح ما قاله ابن خلدون وتأَمَّلْ سهمَه النافذ..". هذه اللغة، على سبيل الاستدلال، آخذة من التراث الشعبي والكتابي، لم تُهمِل واحدا على حساب الآخر لتصعد عرجاء أو مستوردة أو هجينة، لغة أنت تعرفها لكنك لم تر هذه الخلطة إلا عند صاحبها. هذا طبيعي، فلا نزال نتذكر "يحيى الطاهر عبدالله"، على سبيل المثال، بلغته وأسلوبه الخاص جدا، الذي قال عنه "إبراهيم أصلان" إنه أفضل لغة قَصّ في جيله كله. 

القصة عند محسن يونس هي ضربة فأس، شرارة خيال حارقة. لا تزال بعض شطحاته القصيرة التي تابَعَ نشرها مؤخرا عالقة بدماغي، في أقل من نصف صفحة يسطر مشهدا غريبا لا يتركك إلا مرتابا، ذلك الارتياب الفني الجميل المُحرض عل القراءة من جديد لتصل أو تقف على شاطئ ما ترتضيه من النص صغير الحجم، واسع الرؤية. أتذكر أيضا قصته الطويلة "بِرْكَة الزّئبق"، التي سافَرَ فيها إلى أيام الحاكم "خُمارَويه" الطُّولوني، واستخرجَ من كُنوز خياله فانتازيا حية ساخرة وأسيانة في نفس الوقت.

السفر وراء مقالات محسن يونس القارئة لنصوص الآخرين سفر مُمتع، فكما ذكرتُ من قبل، هو لا يقرأ أو يكتب عن كتاب إلا إذا أعجَبه ورأى فيه شيئا، وبالتالي تبدو رؤاه النقدية مغروسة في أرض النص تماما وليست سياحية، ناقلة لجوانب وعروق الفن بتذوق وحساسية هائلة. محظوظون هم الذين قرأ لهم محسن يونس أو كتب عنهم، نتذكر مقالاته الإبداعية الموازية بحب وعرفان ومحبة لأستاذ كبير، لا يزال، أطال الله في عُمره، مندهشا هذه الاندهاشة البكريّة التي لا تشيخ".