سخرية الواقع في 'عورة في الجوار' والزمن المغلق
تتجلى رواية "عورة في الجوار" لأمير تاج السر كأثر أدبي مُعقَّد، يتشابك فيه ما هو اجتماعي وسياسي وفلسفي، ما يجعلها محطَّ اهتمام ليس فقط على مستوى الحبكة السردية، بل أيضًا على مستوى الرؤية الفلسفية والنقد الاجتماعي الذي يتخللها. تحاكي الرواية محيطًا ضاجًّا بالمتناقضات، حيث يتقاطع الهم الجماعي مع الفشل الشخصي، وتتداخل التفاصيل المحلية مع هموم سياسية كبرى. يبرع تاج السر في تقديم هذه الثنائية المتشابكة، باستخدامه أسلوبًا سرديًا يتراوح بين السخرية الحزينة والتعبير عن مرارة الواقع الاجتماعي. فهل البلدة والزمن كأفق فلسفي هي سمة الرواية؟
تبدأ الرواية في تقديم صورة مُجزَّأة ومعقَّدة للبلدة وسكانها، حيث يظهر في الصورة تأثير المكان والزمان على تشكيل الذاكرة الشخصية والجماعية. تضع الرواية القارئ أمام ساحة تتداخل فيها الصور والتجارب من أفراح وأحزان، ومن مسرحيات سياسية إلى صراعات اجتماعية. يطرح الكاتب، من خلال هذه الساحة، تساؤلات فلسفية حول الزمن ومفهومه كعنصر مركزي في تشكيل الوجود البشري، ما يثير، في الوقت نفسه، العديد من التوترات بين الأفراد ومحيطهم الاجتماعي. فالزمن ليس مجرد انتقال بين اللحظات، بل هو عنصر مشوش يتداخل مع مشاعر الشخصيات وأحلامهم. هذا التصور يذكّرنا بفكر الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون، الذي يرى أن الزمن ليس مجرد سلسلة من اللحظات، بل هو تجربة حية ومشاعر تتداخل مع الذات. لكن ماذا عن النقد السياسي والاجتماعي من خلال الشخصية المحلية؟
يغوص القارىء مع الشخصيات المحلية، مثل الرمانة العوض وزوجها هارون، إذ تُظهر التفاعلات المعقدة بين الأفراد من جهة والمجتمع من جهة أخرى، ما يعكس التوترات بين الهويات الجماعية والذاكرة التاريخية. هذه الشخصيات لا تمثل فقط كيانات شخصية، بل هي أيضًا رمز للمجتمع بأسره: شخصية الرمانة، التي تتميز ببراءتها واندفاعها العاطفي، تكشف لنا عن أبعاد الإنسان الذي يسعى للتمرد على قيود المجتمع. هذا التمرد هو في جوهره صراع وجودي، يُختصر في سؤال فلسفي قديم: هل يُمكن للفرد أن يحقق ذاته في سياق مجتمعي يعترف فقط بالقيم التقليدية؟ هذا التوتر يتجسد في أسلوب الرواية الساخر والرمزي، الذي يعكس بوضوح التوتر بين التقليد والرغبة في التغيير. فهل من هيمنة أعلى للحظات المتكررة؟
من خلال الأسلوب السردي المتداخل، لا تقتصر الرواية على تقديم الزمن كإطار مكاني فحسب، بل تكشف عن تناقضاته النفسية والفلسفية. يواجه الشخصيات صراعًا مستمرًا مع فكرة "الاستمرارية"، إذ تتحول اللحظات نفسها إلى قيود تصدّ الشخصيات عن النمو والتحرر. هذا يعيدنا إلى أفكار نيتشه عن "الخلود" واللحظات المتكررة التي تصبح، بمرور الوقت، عائقًا أمام تحرر الفرد. في هذا السياق، يبدو الزمن هنا كقيد، لا كوسيلة للتحرر. فماذا عن الصراع بين الفرد والمجتمع؟ وهل الرمانة "كرمز للأزمة الوجودية" هي العمق الفلسفي الروائي المبطن؟
إنَّ شخصية الرمانة تمثل أحد أبرز المحاور الفلسفية في الرواية، حيث تصوّر لنا المرأة التي تشعر بالضغط الاجتماعي والتوقعات المفرطة التي تحاصرها. من خلال تفاعلاتها مع والدتها ومع نفسها، تنكشف أبعاد الصراع الداخلي بين رغبتها في التحرر من التقاليد وبين الانتماء إلى مجتمع يشدّها إلى قيوده. هذا التوتر بين "الهو" و"الأنا" يتحول إلى جدلية فلسفية حول الهوية والحرية. فهل هي تعبير عن رغبات عفوية ومشاعر حقيقية، أم أنها مجرّد محاكاة للأعراف التي تُملى عليها؟
إحدى أبرز الأسئلة التي تطرحها الرواية هي: كيف يمكن للفرد أن يواجه التوقعات الاجتماعية المرهقة التي تحد من نموه الشخصي وتطلعاته العاطفية؟ وهل يتعين على الإنسان أن يظل محاصراً بين توقعات المجتمع وحنين الذات إلى الحرية؟ يبدو أن الرواية تسعى للإجابة عن هذه الأسئلة عبر تصوير "الرمانة" في صراع دائم مع القيود التي تفرضها العادات والتقاليد، ما يعكس التوتر الداخلي للإنسان في مواجهة الضغوط الاجتماعية.
تتسع الرواية لتطرح إشكالية فلسفية أعمق حول التفاعل بين الحرية الشخصية والقيود الاجتماعية. الشخصية العاطفية للرمانة، والتمرد الذي تحاول أن تظهره في سعيها نحو الحب، هو مجرد تمرد على المجتمع وليس على الواقع ذاته. تجسد هذه الصراع بين الأحلام العاطفية والواقع الاجتماعي الذي يصبغ السلوكيات. هذا الصراع يُقدّم الرواية كدعوة فلسفية لإعادة النظر في معاني الهوية والتطور الشخصي، في ظل مجتمع يفرض قيودًا على الفرد ويمنعه من الوصول إلى ذاته الحقيقية.
نهاية الرواية تشكل قمة في استدعاء اللامعقول والواقع المرير بأسلوب سردي مشوق، يحمل في طياته عمقًا فلسفيًا وتوجهًا نقديًا حادًا. عبر تكرار العبارة "دعونا نتآلف"، يصبح النص أشبه بشعيرة تتكرر لا إراديًا، لا لتشكّل جسرًا للتواصل والتعايش، بل لتخلق حالة من الاستسلام التام للواقع، الذي تحوّل إلى سجن جماعي لا مفر منه. هذا الاستسلام ليس مجرد انعكاس لخيبة الأمل في الشخصيات، بل هو تجسيد للآلية التي يتحكم بها الشعور الجمعي في مجتمعات تغرق في الهويات الزائفة والاحتياجات المفتعلة.
جملة "دعونا نتآلف" ليست مجرد تكرار للمعنى ذاته، بل هي دعوة لمزيد من الاستسلام المطبق للواقع المهزوم. إذ تتبدى، من خلالها، فكرة لا يمكن تجاهلها؛ مجتمع يرزح تحت ثقافة قمعية وتقاليد جامدة، لا مكان فيه للتمرد ولا للرفض، بل يتعذر الهروب من هذا العبء المستمر من الغرائبية والعجز. كل شخص في هذه البلدة، من "كلب الحر" إلى "الرمانة بنت العوض"، يجسد نوعًا من التسلط الداخلي على الذات؛ حيث لا فكاك لهم من ضغوط اللحظة الراهنة. ومع هذا، لا تُظهر الرواية أيًا من علامات الأمل، بل تنزلق الشخصيات عبر محطات من الفشل والتكرار بلا جدوى.
نرى كيف أن "كلب الحر" الذي كان رمزًا للتمرد أو الجنون، يتحول تدريجيًا إلى مجرد قطعة من واقع ثابت، لا مفر من تقبّلها. "عورة في الجوار" هو تجسيد للواقع الذي لا يكف عن إخراج نفسه إلى العلن، عبر تقاطع العوالم الخيالية مع الخراب المجتمعي. إن "كلب الحر" الذي لا يتردد في إهداء أغنيات إلى "الرمانة بنت العوض" التي أصبحت الآن تحت طائلة الروتين، هو في الحقيقة مرآة لما وصل إليه الإنسان في محاولات ساذجة للتمرد على مصيره المغلق.
تُظهر الرواية أيضًا المدى الذي يمكن أن يصل إليه الإنسان في محاولاته للتأقلم مع تناقضاته الداخلية. فمن الواضح أن الشخصيات لم تجد في النهاية أي مخرجٍ إلا بالانصياع لما يُفرض عليها. المجتمع الذي طالما كان في حالة تمرد داخلي، يجد نفسه في مواجهة مع جدارٍ من العجز لا يقدر على تحطيمه. كل محاولة للهرب، سواء عبر "السينمائي" الذي يحاول تحويل قصة "كلب الحر" إلى فيلم، أو عبر تصعيد التوتر داخل العلاقات الإنسانية، تجد نفسها مجبرة على العودة إلى نفس النقطة: التآلف مع الوضع القائم.
وإذا نظرنا إلى لغة السرد، نلاحظ سمة مميزة تسير بها الأحداث: تكرار الأفكار والمشاعر، والاعتماد على شعارات مألوفة تصبح غير ذات معنى. هذا التكرار لا يعكس فقط حالة من الشلل الذهني، بل يعكس نوعًا من التأطير الاجتماعي والسياسي الذي يسعى إلى فرض هذا التآلف الكاذب على الأفراد بشكل قسري. في الحقيقة، إن النص يختتم بهذه العبارة ليست كدعوة للأمل أو التآلف الاجتماعي، بل كتوجيه محبط يشير إلى الاستسلام.
في النهاية، تظل "عورة في الجوار" نافذة تطل على تعقيدات الحياة البشرية، حيث لا يوجد مجرد تماهي بين الفرد ومجتمعه، بل صراع مستمر من أجل تحقيق الذات في عالم مليء بالمتناقضات. الرواية، بجمالها السردي وعُمقها الفلسفي، تطرح أسئلة عن الزمن والوجود والهوية، لتستفز القارئ للتأمل في مصير الإنسان في هذا العالم المُعقَّد. فكل شخصية في رواية "عورة في الجوار" تمثل جزءًا من المجتمع كمصدر للسخرية اللاذعة من الواقع الاجتماعي والسياسي. ليس هناك متسعٌ للخيال، ولا أملٌ في التغيير، فقط المزيد من "التآلف" مع الواقع الذي لا يغادر، حتى لو كانت هذه الحيلة الاجتماعية تآلفًا في فخاخها الخاصة.