'أنطون البائس' رواية تفضح معاناة الفلاحين الروس في عصر العبودية
يعتبر الكثير من النقاد والأدباء الروس أن هذه الرواية "أنطون البائس" للكاتب الروسي ديمتري غريغوروفيتش أحد أوائل الأعمال التي صدرت ووصفت بدقة الأهوال التي كان يعانى منها الفلاحون الروس في عصر القنانة "العبودية" منتصف القرن الثامن عشر، هذا بالإضافة إلى تأثيرها الواسع على كبار كتاب الأدب الروسي مثل ليف تولستوي وسالتيكوف شيدرين وغيرهما، حتى قال عنها بيوتر كروبوتكين "لن يأتي مثقف واحد في أيامنا والأيام القادمة يمكنه أن يقرأ "أنطون البائس" من دون أن يذرف الدموع من فرط العاطفة وكراهية أهوال العبودية اللعينة".. فيما قال ليف تولستوي "لكتابة غريغوروفيتش تأثير هائل ونسيج ملحمي، ويتجلى هذا بوضوح في "أنطون البائس".
الرواية التي صدرت حديثاً عن دار آفاق للنشر، بترجمة يوسف نبيل، ربما تكون هذه هي الترجمة العربية الأولى لها ولكاتب بحجم ديمتري غريغوروفيتش الذي كان داعما مهما لدوستويفسكي وتشيخوف وإيليا ريبين وغيرهم من كبار الكتاب والفنانين الروس، حيث رأى المترجم أنه "حان الوقت ليطلع القارئ العربي على عمالقة الأدب الروسي الذين أهملت حركة الترجمة العربية أسماءهم بالرغم من أهميتها الشديدة".
وأضاف نبيل أنه يمكن اعتبار هذه الرواية القصيرة أحد أهم الأعمال التي قدمها الأدب الروسي عن حياة الفلاحين في عصر القنانة (العبودية). بالنظر إلى تاريخ صدورها: 1847 حيث ندرك مدى جرأتها في مهاجمة نظام القنانة، ومدى أهميتها في كشف الظروف غير المحتملة التي عايشها الفلاح الروسي. كعادة بعض الأعمال العظيمة نجد هذه الرواية تتكئ على حدث أساسي محوري، ورحلة قصيرة يبدأها البطل، ونصحبه فيها لنتعرف كل الظروف المحيطة بحياته، وحياة الريف بوجه عام في هذه الفترة، حتى تحل النهاية المأساوية.
ولفت إلى أن هذه الرواية على الرغم من قصرها تشكل بداية حقيقية للكتابة عن الريف والفلاح الروسي بعد ذلك على يد عمالقة الأدب الروسي، مثل: تولستوي، وتورجينيف، وليسكوف، وغيرهم. وقد اشتهر ديمتري غريغوروفيتش في الأساس بهذا العمل وبروايته القصيرة الأخرى: "القرية"، وجلب له هذا العمل شهرة سريعة. كان ديمتري صديقًا لدوستويفسكي في الدراسة والسكن لبعض الوقت، وهو من قدَّم مخطوطة روايته "الفقراء" للنشر. كان له دور مهم أيضًا في تشجيع أنطون تشيخوف، بعد أعوام طويلة، على الإيمان بموهبته الأدبية، وندرك من الرسالة التي أرسلها تشيخوف له كم تأثر بكلماته هذه. في الحقيقة كان ديمتري غريغوروفيتش رجلًا متعدد الاهتمامات، حيث لم ينصب نشاطه كله على الأدب فقط، بل وجَّه الكثير من جهوده إلى مجال الفنون، وعمل في أكاديمية الفنون لفترة، واكتشف ودعَّم بعض الرسامين الروس المهمين، وعلى رأسهم إيليا ريبين.
وأوضح نبيل أن الريف كان المورد الحقيقي لكل المصروفات التي عاش عليها السادة في ظل نظام إقطاعي متخلف. وقد استخدم غريغوروفيتش في روايته القصيرة هذه حوارًا شديد الحيوية، وقد كتبه بعامية روسية ريفية، وهي اللغة التي كان الفلاحون يتحدثون بها في هذا الوقت، ليُكسِب روايته مزيدًا من الواقعية. ألحق الكاتب بهذه الحوارات مقاطع سردية رائعة، مكتوبة بلغة صافية، تتضح فيها موهبته في وصف العالم الخارجي الذي يحيط بشخوصه، كما أولى عناية كبيرة للتعبير عن العالم الداخلي لشخوصه. أدت المهارة الأولى إلى إكساب العمل أهمية شديدة، من حيث أنها ترسم للقارئ بوضوح الأماكن التي يعيش فيها الفلاحون، وشكل حياتهم وأدواتهم، والطرق التي يسلكونها، والطبيعة التي يحتكون بها يوميًّا. كما أدت عنايته بعالم الأشخاص الداخلي إلى التزام الصدق في رسم ردود أفعال الشخصيات، واستخدام لغة واقعية غير مزخرفة.
وأكد أن العمل على صغره وبساطة حبكته الشديدة ينم عن مهارة وصنعة أدبية واضحتين. من الأمور اللافتة أيضًا في الرواية الدقة التي يرصد بها الكاتب ردود أفعال الفلاحين وطريقة تفكيرهم، واستجابتهم للمواقف المختلفة التي يتعرضون لها. إنه لا يتهم العقل الريفي ولا يمدحه في الآن ذاته، بل يحاول عرض طريقة تفكيره بدقة شديدة. لا شك أن هذه الدقة يمكن أن توضح لنا أمورًا كثيرة عن العلاقة بين القامعين والمقموعين.
ولفت نبيل أنه لأسباب غير مقنعة أهملت حركة الترجمة العربية ترجمة أعمال شديدة الأهمية لأسماء تشكل علامات في الأدب الروسي. قدمنا سابقًا عملًا "عمدة" لجيرتسن، واليوم نقدم هذا العمل لكاتب لم يُترجم له شيء إلى العربية تقريبًا - على حد علمي - بالرغم من أن هذا العمل يُعتبر أحد أهم الأعمال التي تُكسب القارئ فهمًا واضحًا لطبيعة الحياة الاجتماعية والاقتصادية في الريف الروسي إبان عصر القنانة. لكني حرصت في اختيار هذه الأعمال أن تكون قيِّمة أيضًا من الناحية الجمالية والأسلوبية. تشير بعض المصادر إلى اضطرار الكاتب إلى تغيير نهايته الأصلية التي وصف فيها تمرد الفلاحين على ناظر الأرض وحرقهم لمنزله. عانى الأدباء الروس كثيرًا تحت ضغط الرقابة القيصرية، ثم تطور الأمر إبان الحقبة السوفييتية إلى درجة مرعبة. إلا أن النهاية البديلة التي قدمها الكاتب واقعية تمامًا، بل وربما تفوق في واقعيتها نهايته الأولى. إن هذا العمل - على صغره - جعلني أواجه تحديات ترجمية شديدة الصعوبة، خاصة في الجمل الحوارية التي استخدمت لغة ريفية عامية، واتكائه على الكثير من التعبيرات الشائعة في هذا الوقت والأمثال الشعبية والألفاظ الأسطورية وما إلى ذلك، وفي كل مرة كنت أواجه اختيارات عديدة، ولا أظن أبدًا أنها اختيارات سهلة. أرجو أن أكون قد وُفِّقت بنسبة مقبولة في تخطي هذه الإشكاليات، وتقديم العمل بصورة جيدة.
مقطع من الرواية:
ظل أنطون يركض هنا وهناك لثلاثة أيام، باحثًا عن جواده بلا جدوى. لم يظهر الجواد في أي مكان. من فرط حزنه لم يلحظ أنطون المطر المثلج الذي انهال على رأسه ما إن ترك المدينة، بل إنه في حقيقة الأمر لم يلحظ الإنهاك ولا البرودة ولا الجوع. ظل يتخبط كالثمل من قرية لقرية، من دون معطف أو حزام أو قبعة، فقد ضاع منه الأخيران في مكان ما ليلًا، يسأل كل من يلتقيه في الطريق عن جواده الأرقط. لم يعرف أحد شيئًا عنه، ولم يجبه أحد حتى إجابة واضحة. منهم من ابتعد عنه لضيق الوقت، ومنهم من تخلص منه بإرساله بعيدًا بلا مبالاة، ومنهم من أجابه بسخرية على حالة ذهوله وحديثه غير المرُتَّب. لكن يلزم القول إنه بالرغم من ذلك، حتى لو كان أنطون قد عثر على سارق الجواد، فلم يكن حظه ليصير أفضل من ذلك، لأنه لم يكن بحوزته أي مال. كان الفلاحون الذين ودَّعوه عند بوابة مدخل النُّزُل محقين تمامًا عندما أجمعوا بصوت واحد على الآتي: "لن يجد الجواد، فما دام ليس معه مال سينهك المسكين نفسه بلا جدوى".
في النهاية توقف أنطون عن بحثه عن الجواد، وقد امتلأ بيأس أبكم تزايد في داخله تدريجيًّا حتى أحرق قلبه وضبَّب عقله، ومن ثَم توجه إلى منزله. عندما وطئت قدماه أرض تروسكينو كانت ليلة مضطربة، وكان في ساعة متأخرة من الليل، وكانت ليلة من تلك الليالي الخريفية البغيضة التي يشعر فيها المرء بالكآبة والحزن لسبب غير مفهوم، حتى لو كان تحت سقف دافئ، وحتى لو كان جالسًا بالقرب من موقده المحبب. ضربت ريح ثلجية عنيفة وجه أنطون، وفي كل دقيقة كان يجد مياهًا باردة تنهال على رأسه وتتدفق على أطرافه الهزيلة، وكان المسكين يسقط بين الحين والآخر في حفر عميقة مليئة بالماء، أو يعلق في الأرض التي صارت كتلة من الطين بفعل المطر الغزير. زاد الضباب الكثيف من عتمة الليل، ولم يكن بوسعه أن يرى ما أمامه على بُعد خطوتين، ومن ثَم كان يحاول تلمس طريقه أحيانًا. بعدما هبت الرياح بقوة ثم انقطع هزيزها لبرهة، امتلأ المكان من حوله بضجيج غير منتظم، نتج عن هطول المطر وتدفق المياه التي أخذت تجري على طول الطريق الريفي. بدا كما لو أنه لا توجد بقعة واحدة في هذا العالم في تلك اللحظة يمكن للشمس فيها أن تشرق وتبعث دفئها في إنسان. مع كل خطوة كان يخطوها للأمام كانت نفسه تزداد كآبة أكثر فأكثر.