'البرج المقلوب': الفلسفة في صميم الواقع
يبحث الكاتب العراقي كه يلان محمد (1981) في كتابه "البرج المقلوب" مكتبة جدل 2024، في دور الفلسفة في عالمنا المعاصر؛ عالمِ التطور العلمي. والكيفية التي جعلت دورها على المحك، والظروفِ التي دفعت لإعلان موتِ الفلسفة بعد أن صار العلم بديلاً لها.
وأشار إلى رأي الباحث والفيلسوف الأميركي جون ديوي (1859-1952) في قوله: "إن كلمتي الديمقراطية والعلم أسدلتا الستار على مهنة الفلسفة". ينطلق الباحث نحو الأحاديث التي تقول بوصول الفلسفة إلى دربٍ مسدودٍ، مؤكداً بأنَّ كل ما يدور على هذا الصعيد لا يعدو عن كونهِ افتراضاً خاطئاً؛ وهو هنا يشير إلى تصدي برتراند راسل لمحاولات تشيع الفلسفة في مقبرة التاريخ من خلال رصده لتوالي الإصدارات الفلسفية، والمناقشات والأطروحات التي تبحث في شؤونٍ حياتيةٍ راهنة، وقولهِ بعدم صوابية الاعتقاد بموت الفلسفة، مشيراً إلى أن ذلك يدفع للتساؤل حيال السعادة، وكذلك حيال قلقِ المكانة لدى الفرد في عالم اليوم، وخوفه من المستقبل، وتجلياتهِ لمفهوم الحب أيضاً..
من هنا يتطرق محمد إلى ما قدمهُ الكاتب السويسري آلان دو بوتون (1969) الذي يعدّ نهجهُ بمثابةِ عيادةٍ فلسفية؛ وذلك عبر استخلاصه آراءَ الفلاسفةَ وسِيرهم، وتقديمها كوصفةٍ للتهدئة من حدة انفعالاتِ المرءِ في عالمٍ تحوّلَ إلى سوقٍ كبيرٍ. لذا فإن التغيرات التي حجبت وظيفة الحواس والتفكير، جعلت الواقع يفرضُ حاجات فكرية عدة، فضلاً عن خطر عودة التيارات العنصرية، وهو ما يجعل من الفلسفة عزاءً وحيداً، وضرورة لا محيد عنها.
وفي هذا السياق، يشير مؤلف "كهف القارئ" إلى التزام الباحث المغربي سعيد ناشيد (1969) بالميثاق الفلسفي الذي يفندُ انعدام الصلة بينه وبين الحياة الواقعية، ذلك أنه وجد في دراسة الفلسفة أهميةً من خلال قدرتها على تعزيز الإرادة لمواجهة أكثر ظروف الحياة قسوة. وإذا غاب هذا الهدف؛ فإن متابعة الفلسفة تصبح مضيعة للوقت. لكن ناشيد في الوقت ذاته، يشير إلى أن معظم دارسي الفلسفة يعيشون وهم امتلاك المعرفة؛ ويطلق عليهم لقب "ضحايا ثقافة النصوص" ما يعني عدم إدراكهم وظيفة الفلسفة على مستوى الحياة الواقعية، وهو هنا لا يريد إلغاء تجارب المتصوفة والحكماء، ولا إضافاتهم للتراث الإنساني. لكنه يجد أن تلك الممارسات لا تعوّضُ عن مهمة الفلسفة في الإرشاد إلى إعمالِ الفكرِ، وتعميق الفهم لمحدداتِ السلوك البشري.
هكذا يستمر كه يلان محمد في بحثه عن دور الفلسفة في مواجهة أزمات الواقع. وفي فصلٍ آخرَ من كتابهِ، يبدأ بمقولة "مع الفلسفة وليس ضد الدين" يشير إلى أن العلاقة بين الفلسفة والدين لم تكن علاقةً وديةً؛ وعلى الرغم من وجود محاولاتٍ لرأب الصدع بين الاتجاهين على غرار ما كان يصبو إليه ابن رشد (1126-1198)، إذ وَجد أن قراءة النص الديني والتبصرَ بهِ يتطلب الانفتاح على الفلسفة البرهانية، وإلا فإن الفهم سيكون مبتوراً وبعيداً عن المقاصد النصية. إلا أن الأمر تعدى في العلاقة بين الفلسفة والدين لإقامة المحارق للفلاسفة بمباركة رجال الدين المتواطئين مع السلطة. ربما كان يُراد من هذا المناخ المثخن بالصراع للقول بأن الفلسفة والإلحاد وجهان لعملة واحدة "فمن ينشر الحكمة الفلسفية لن يكون إلا ملحداً بالضرورة" وفي هذا الكلام يقول الكاتب محاولةٌ للتضليلِ والتلاعب بالعقول، لأن معظم الفلاسفة كانوا معارضين للقشور والمظاهر الاستعراضية في الدين وتطويعه لمآرب شخصية، ومحاولات توظيفه كغطاءٍ للأنظمة السياسة.
هكذا يُظهرُ الكاتب الفلسفة بجوهرها الذي لا يعدُ بعالمٍ خالٍ من الأزمات، وتسودهُ تطلعات الإنسان الساعي إلى السعادة، بل إن دورها في الخروج بالعقل من منطقة الكسل. ويكون ذلك حين تغادرُ الفلسفةُ برجَهَا العاجي، وتستعيدُ روحها السقراطية. حينها تمسي شأناً حياتياً، قبل أن تكون مفاهيم مجردة أو فعلاً يخص النخب. هكذا تكتسب الفلسفة قيمتها؛ عندما تفتح الطريق للتأمل، وتستوحي الحكمة من معطيات الواقع، وحركة الزمن، وتحمي العقول من البلادة والوهم. ولا يتوقف الكاتب عند علاقة الفلسفة بالفكر والواقع، بل يتعداه لدراسة علاقتها بالفن، وعلاقة الفن بالواقع من جهة أخرى، فالفن يبلغ مدى أكثر عمقاً بكثير من تلك التي تبلغها الفلسفة بفضل المخيلة الفعالة؛ ويُدرِجُ في سبيل ذلك أمثلة؛ كروايات سارتر مع شريكته دي بوفوار، ويعدها نموذجاً حياً للصوت الوجودي الذي يُكسب العمل الفني صلابته، أما تلك القيمة النفعية والأداتية؛ فهي تفسدُ الروحَ في العمل الإبداعي، وتغرقُ الكاتبَ في وهم تغيير المجتمع. لذا لا يمكن أن تكون الفلسفةُ بديلاً عن الأدب، ولا يصح العكس أيضاً، بل يتقاطعُ كلاهما في الرغبة بالخروج بالإنسان من ضيق الاهتمامات المادية نحو رحابة التفكيرِ وتذوقِ الافتراضات في المخيلة.