الغيرة والخطيئة في 'نزوة العاشق والشركاء' لغوته

د.مصطفى ماهر يترجم مسرحيتين شكلتا بداية المسيرة الإبداعية لـأديبُ ألمانيا الأشهر حيث تتناول الاولى موضوع الغيرة مستلهمةً عناصرها من 'ألف ليلة وليلة' والثانية كوميديا اجتماعية تكشف شهوة المال والفضول والعشق.

تشكل مسرحيتا "نزوة العاشق" و"الشركاء" بداية حياة أديبُ ألمانيا الأشهر يوهان فولفغنغ فون غوته الإبداعية، ﻓ "نزوة العاشق" هي أول مسرحية كتبَها، وتَتميَّز بانتمائها إلى المسرح الرعوي الذي يُصوِّر الطبيعة والبيئة الرعوية، فضلًا عن انبثاقها من يَنبوعٍ شرقي؛ هو "ألف ليلة وليلة" وهي تُصوِّر العِشق والغيرة وحُب التملُّك. أما مسرحية "الشركاء" فهي كوميديا اجتماعية، مُتأثِّرة بالطابع الفرنسي، تُصور شهوةَ المال، والفضول، والعِشق؛ إذ يَتورَّط الجميع في جريمةِ سرقة، فنَتبيَّن أن الجميع شركاءُ في الخطيئة، ومُتساوون في الذنب.

المسرحيتان التي ترجمهما عن الألمانية د.مصطفى ماهر، وصدرتا في مؤسسة هنداوي، تأتي أولهما "نزوة العاشق" في فصل واحد وتسعة مشاهد، أشخاصها أربعة: أمينة وصديقها إريدون، وإيجله وصديقها لامون. إريدون يحب أمينة حبًّا شديدًا، ولكن الغيرة تستبد به إلى أقصى درجة، فلا يقبل أن يدعها تذهب إلى الرقص، الذي لا يحس بميل إليه، وكيف يمكن أن يتركها ترقص، والرقص لا يكتمل إلا براقص رجل يشترك مع البنت في تأدية الحركات؟ كان إريدون لا يتصوَّر أن شابًّا غيره يمكن أن يمسك أمينة من يدها، ولا يتصوَّر أن تكون أمينة الجميلة مَحطَّ أنظار الشباب المعجبين. وكان تفكيره في ذلك يحزنه أشد الحزن، ويدفعه إلى نزوات غضب يوشك أن يقترب من الجنون. وبلغ تعسُّفه مداه عندما فرض على أمينة فرضًا أن تجتنب الرقص وأن تكره الشبان. ولم تجد أمينة لديها ما تردُّ به على هذا التعسُّف سوى الحب المخلص الذي لا ينتهي عند حد، ولكن حبها هذا لم يكن يزيد تعسُّف الحبيب إلا شدة. وتلتقي أمينة الرقيقة بصديقة لها نصوحة هي إيجله، تعرف لمحنتها حلًّا. هذه الصديقة تحب لامون حبًّا صادقًا مخلصًا يختلف عن حب إريدون وأمينة في أمر الغيرة والتجبُّر. إيجله ولامون لا يسرف أحدهما في الغيرة ولا في التجبُّر، حتى أن لامون ليغفر لإيجله إن قبَّلها أحد عن غير قصد سيِّئ أو رغبة أو طلب أو لهفة منها. هذه الصديقة المرنة تعرف كيف تنقذ صديقتها من صنوف الآلام وألوان العذاب التي تذوقها على يد حبيبها الغيور المتجبِّر. فتعمد إلى إلقاء شباكها حول إريدون وإغرائه وإثارته بحب تصطنعه. وما تزال تلف حوله وتدور حتى تجعله يقبِّلها. هنالك يفيق إريدون إلى نفسه، ويعرف خطأه ويعرف ما في نفسه من ضعف أمام الإغراء، ومدى ما تستطيعه إرادته وما لا تستطيعه. وتبين بفضل إيجله أنه يعذب حبيبته المخلصة النقية بدون سبب، وأنه على الإنسان قبل أن يثقل على الآخَرين، أن ينظر إلى نفسه أولًا.

يشير د.مصطفى ماهر أن هذه المسرحية جات تعبيرًا عن فصل معيَّن في حياة غوته.. يحكي غوته في "شعر وحقيقة" القصة: "كنت قد نقلت حبي القديم لجريتشن، إلى إنشن (صيغة التدليل من أنَّا)، التي لا أعرف ما أقوله عنها إلا أنها كانت صغيرة وجميلة ومَرِحة وظريفة حتى أنها كانت تستحق أن تُوضَع في خزانة القلب زمنًا كقديسة صغيرة، ليكرس لها التبجيل كلَّ التبجيل، كنت أراها كلَّ يوم دون ما عائق، فقد كانت تُعين في إعداد الطعام الذي كنت أتناوله، وكانت على الأقل تأتيني مساءً بالنبيذ الذي كنت أشربه، وقد تبيَّنت الجماعة الصغيرة المقفلة التي كانت تتناول طعام الغذاء في الحانة، أن هذه الحانة الصغيرة، التي لم يكن يتردَّد عليها، باستثناء أيام انعقاد السوق، إلا القليل من الروَّاد كانت جديرة بالسمعة الطيبة التي حظيت بها. وكانت فرص التسلية والكلف بها لا تفتأ تعرض. ولكن مجال التسلية كان ضئيلًا لأن الفتاة لم تكن تستطيع ولم يكن لها أن تترك البيت قليلًا. فكنا نغني أغاني الشاعر "تساخاريا" ونؤدي "الأمير ميشيل" لكروجر ونعقد منديلًا ليمثِّل البلبل. وانقضى وقتٌ على هذا النحو لطيفًا. ولما كانت أمثال هذه العلاقات، كلما زادت براءة، قل تنوعها بمرور الوقت، فقد تملكني ذلك الداء الوبيل، الذي يُغرينا بالتماس المتعة في تعذيب الحبيبة، والإثقال عليها بنزوات التسلُّط والطغيان. واعتقدت أن لي أن أعمد إلى غيظي من فشل محاولاتي الشعرية الأولى ومن استحالة الوصول إلى شيء واضح في أمرها استحالة ظاهرية، ومن كل ما كان ينغصُّ عليَّ من أمور، فأصبه عليها، لأنها كانت تحبني من قلبها حقًّا، وكانت تفعل كلَّ ما كانت تستطيع فعله لإرضائي. فأتلفت عليها وعلى نفسي أجمل الأيام بفصول من الغيرة السمجة التي لا تستند إلى سند. وتحمَّلَتْ هي ذلك حينًا بصبرٍ لا يمكن تصوُّر مداه، وكنتُ أنا من الفظاعة بحيث أسرفت في فعلي إلى أقصى درجات السرف. ثم كان عليَّ أن ألاحظ ما أخجلني وأنزلَ بي اليأس، ألا وهو أن روحها بعدت عني، وأني أصبحت أتحمَّل نتيجة حماقاتي التي سمحت لنفسي بها دون ما حاجة أو سبب. وحدثت بيننا مشاهد فظيعة لم أجنِ منها شيئًا، وشعرتُ لأول مرة أني أحبها حقًّا وأنني لا أطيق البُعد عنها. ونمَت عاطفتي واتخذت كل الأشكال التي يمكنها في هذه الظروف أن تتخذها. وانتهيت في النهاية إلى القيام بالدور الذي كانت البنت تقوم به من قبل. وحاولت ما استطعت أن أفعل ما يجعلها ترضى، بل حاولت أن أهيِّئ لها على يدِ آخَرين المتعة والبهجة، لأنني لم أكن أقوى على كتمان أملي في استعادتها لنفسي. ولكن الأوان كان قد فات. كنت قد فقدتها فعلًا. وأدَّت حماقتي التي دفعتني إلى الانتقام لذنبي من نفسي، وإلى القسوة على جسمي بطُرق جنونية مختلفة بغية إيذاء طبيعتي الخلقية، أدَّت إلى كثير مما أصابني من أنواع البلاء الجسمانية التي خسرت فيها عددًا من خيرة أعوام حياتي، بل لقد أشرفت على الهلاك نتيجةً لفقدانها، ولكن أنقذتني الموهبة الشعرية بما لها من إمكانيات الشفاء. وكنت قبل ذلك قد أحسستُ في فترات متعدِّدة إحساسًا واضحًا بطريقتي القبيحة، كانت البنت المسكينة تثير الأسى في نفسي فعلًا، عندما كنت أراها أمامي جريحةً دون ما ضرورة. وطالما تصوَّرتُ حالها وحالي، وقابلته بحال اثنين من جماعتنا، وأتعبتُ نفسي، حتى لم يكن في مقدوري أن أحول بيني وبين تحويل هذا الموقف إلى تكفيرٍ قاسٍ واعظ عن ذنبي، وصياغته في مسرحية. وهكذا نشأ أقدَمُ عمل بقي من أعمالي المسرحية، المسرحية الصغيرة "نزوة العاشق"، التي يتبيَّن فيها الإنسان البراءة والعاطفة والمتأجِّجة جميعًا".

ويؤكد ماهر أن موضوع المسرحية في جوهره هو موضوع الغيرة التي تدفع المحب ضيق الأفق، إلى نزوة التعذيب، وإلى إصابة الحبيبة بجروح، في نفسها أو في جسمها.ويقول حول علاقة المسرحية ألف ليلة وليلة "أمينة في نزوة العاشق تجمع في شخصيتها بين عناصر من قصة أمينة (ألف ليلة وليلة) وبين عناصر من شخصية أنا كاتارينا شونكوبف وآثار من شخصية "جريتشن" التي تحوَّلَت في وجدان غوته إلى "رمز الفتاة المظلومة". من قصة ألف ليلة وليلة أخذ عناصر تظهر في هذه الجمل "فأخذتني الرحمة والرأفة، فقلت: سمعًا وطاعة"… "فلما سمعت كلامها، ورأيت نفسي قد انحجزت في الدار، قلت للصبية: سمعًا وطاعة".. "فحلفت له على ذلك ففرح فرحًا شديدًا وعانقني".. "استأذنته في أن أسير إلى السوق"، "ولا زالت تحسِّن لي الأمر حتى أدخلت رأسي في الجراب ورضيت بذلك".. "وكيف صرت إلى الذل، بعد العز".. "فجرت عَبْرتي، وبكيت.. واستعطفته".. "فإنها ما فعلت ذنبًا يوجب ذلك" وليست الصورة التي تظهر أمينة في نزوة العاشق عليها غير هذه الصورة، وليست صورة كاتارينا شونكوبف إلا هذه الصورة أيضًا. صورة البنت المحبة، الممتثلة لنصيبها، المطيعة، المحبة في صدق، التي تفعل كل ما يمكن أن يُرضي حبيبها.

ويضيف "كذلك شخصية إريدون تشبه في كثير شخصية الأمين في قصة ألف ليلة وليلة وشخصية غوته في فترة حبه لأنَّا كاتارينا. فهو شخص جميل المنظر، جذَّاب، يتحايل على البنت الطيبة حتى تقع في غرامه. ولكنه يتصف بأمرين هما الغيرة والتجبُّر. الأمين يشترط على محبوبته شرطًا: "احلفي لي أنكِ لا تختارين أحدًا غيري، ولا تميلين إليه"، وغوته يغار على أنَّا كاتارينه "غيرة سمجة". كذلك إريدون يقول: "ليتني أستطيع تعويد نفسي على رؤية هذا في الرقص، يضغط على يدها، وذاك يتطلَّع إليها، ورؤيتها وهي تنظر إلى غيري. إنني لا أكاد أفكِّر في ذلك حتى يمتلئ قلبي بالغيظ فيكاد أن يتفتق". بل ويطلب من أمينة أن تكره الآخرين جميعًا حتى يرتاح قلبه، وشخصية "إريدون ـ غوته ـ الأمين" تتجبر على المحبوبة وتعذِّبها. إريدون يعذِّب حبيبته، إذ حرمها من التحدُّث إلى الآخَرين، وإذ يحرمها من الرقص والغناء مع الرعاة وما تتم حياة الرعاة إلا بالغناء والرقص الجماعي، وهو يعذِّبها بالشك فيها وافتراض السوء افتراضًا، ثم التصرُّف كأنما لم يكن افتراضًا بل كان واقعًا. إريدون يقول لأمينة متهكِّمًا غاضبًا: "سوف تخلبين الأبصار. ستشعلين في قلوب الفتيان نار الحب وفي قلوب الفتيات نار الغيرة".. وإيجله تثور فيه: "ما هذه المتعة التي تجدها في تعذيب أمينة إلى هذا الحد؟ إذا كنت تظن أنها لا تحفظ العهد فاتركها، أما إذا كنت تعتقد أنها تحبك، فارضَ، ولا تعذبها". وغوته أتلفَ على نفسه وعلى محبوبته "أجمل الأيام بفصول من الغيرة السمجة التي لا تستند إلى سند".. ويقول: "وكنت أنا من الفظاعة بحيث أسرفت في فعلي إلى أقصى درجات السرف.. وحدثت بيننا مشاهد فظيعة". أما الأمين فقد بلغ الذروة في القسوة على أمينته، ولم يتركها عندما ظنَّ أنها خانت العهد، بل أصرَّ على أن "يعمل فيها أثرًا يبقى عليها بقية عمرها.. وأحضر قضيبًا من سفرجل ونزل به على جسدي بالضرب ولم يزل يضربني ذلك الشاب حتى غبت عن الدنيا من شدة الضرب".

ويرى ماهر أنه بينما قصة "ألف ليلة وليلة" تُفرد مكانًا للعجوز، تلعب دور الشريرة وتلعب دور الواسطة ودور المنقذة، وصاحبة النصيحة، يُعطي غوته في مسرحيته نزوة العاشق إيجله ولامون دور العجوزة مجرَّدًا من الشر. إيجله تلحُّ على أمينة حتى تقنعها بضرورة تغيير موقفها من إريدون، وتلجأ للحيلة لتثبت لإريدون بالدليل الملموس أن العنف بالمحبوبة، وأن حبسها في قفص، لا يمكن أن يؤدِّي إلى تقوية الحب بل إلى هدمه، ولا إلى تدعيم الإخلاص بل إلى تقويضه. وقد اتخذ غوته في تصوير شخصيتَي إيجله ولامون صديقه "هورن" وحبيبته "كونستانتسه براينكوبف" نموذجًا له يجسِّم الحب الحق، الذي لا يسرف في الغيرة، والذي يحفظ للإخلاص قيمته.

في مسرحية "الشركاء" التي تعد ثاني أعمال غوته تتجلى شهوة المال وشهوة الفضول وشهوة العشق، هناك الأب صاحب الفندق وابنته زوفيه وزوجها زولر وألتسست، وألتسست هو الغواية التي يدور في فلكها الثلاثة، فالابنة تربطها به قصة عشق قديمة باءت بالفشل، لكن أوبته تزكي النار من تحت الرماد، وزوجها ولر عاطل وفاسد، يلعب بالقمار ويحصل على نفقته من زوجته وأبيها، ولا يركض إلا خلف المال، الأب كان فضوله قاسيا، يحب التلصص على ألتسست لمعرفة أخباره وما يأتي له من خطابات، تنفر الزوجة من زوجها وتواعد ألتسست على القدوم لغرفته، في نفس الليلة يصر الزوج على سرقته، ويود صاحب الفندق الدخول للغرفة مدفوعا بالفضول لمعرفة ما بداخل الخطاب الذي وصل للرجل.. تحدث السرقة وتحوم الشكوك حول الأب وابنته، وبالنهاية يعرف أن السارق هو غريم ألتسست وزوج معشوقته.. إن غوته هنا يبرز بلمسة كوميدية اجتماعية جشع المال والفضول البشري، حيث تكشف أسرار جريمة سرقة أن الجميع شركاء في الخطيئة، ومن ثم ينتهي لأمر بصفح كل واحد عن الآخر، ونخلص إلى أن كل إنسان لديه شهواته وخطيئته الخاصة..