ليالي القدر: حين يتحول التدين إلى مسؤولية
في القرن السابع الميلادي، ومع بزوغ فجر الإسلام، شهدت الجزيرة العربية تحولًا جذريًا لم يكن مجرد تغيير ديني، بل كان ثورة شاملة أعادت تشكيل النسيج الاجتماعي والثقافي للمنطقة.
كانت حادثة الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة المنورة في عام 622م نقطة تحول تاريخية، حيث أسس النبي محمد (عليه السلام) أول مجتمع قائم على قيم العدل والتكافل والإخاء. لم تكن هذه الهجرة مجرد انتقال جغرافي، بل كانت بداية لتكوين حضارة إنسانية متكاملة، حيث ارتبطت الممارسة الدينية بالحياة اليومية إرتباطا وثيقا.
فالمساجد، التي ارتفعت مآذنها في سماء المدينة، لم تكن مجرد أماكن للصلاة، بل تحولت إلى مراكز إشعاع علمي واجتماعي وسياسي. والمواسم الدينية، مثل شهر رمضان المبارك كانت منصات حية لتجسيد قيم التكافل الاجتماعي.
غير أن هذه الصورة النابضة بالحياة تبدو اليوم وكأنها تتراجع أمام تحولات عميقة في جوهر التدين المعاصر. والذي يقترب بشكل مقلق من النموذج الحضاري المادي الذي ظل المتدينون ينتقدونه لعقود.
المساجد، التي كانت تاريخيا حاضنات للعلم ومناراتٍ للعدالة، تتحول اليوم إلى "واجهات معمارية فاخرة"، تختزل الدين في قباب فخمة ومآذن شاهقة، بينما تتعمق الفجوة بين زخرفتها الخارجية وفراغها الداخلي من اي مضمون.
هذا الانزياح ليس سوى تعبيرا عن أزمة أعمق ملخصها انفصام الممارسة الدينية عن القيم الإنسانية، وهو ما يذكرنا بتحذير المفكر مالك بن نبي من "القابلية للاستعمار"، عندما تستخدم الرموز الدينية كأدوات لتكريس التبعية لا كأدوات للتحرر.
في ليالي القدر، يبلغ الانفصام ذروته، حماس جماعي لإحياء الليل بالصلاة والدعاء، يقابله صمت مريب عن انتهاكات حقوق الناس، من قبيل التمييز ضد المرأة، واكل حقوق العمالة، والظلم الصارخ في النزاعات الأسرية، والعنصرية المقيتة في الخطاب الاجتماعي.
هنا يتحوّل التدين إلى "طقس دفاعي" يُطفئ الضمير بدلا أن يحركه، ويمسح على رأس الظالم بدلا من ان يردعه، إن جوهر الأزمة يكمن في انفصال الجزء عن الكل، وهو ما ينطبق على التدين المعاصر حين تختزل العبادة في حركات جسدية، وتنزع عن سياقها الأخلاقي والاجتماعي.
الصلاة – بحسب هذه الرؤية – لا تتصل بمنظومة العدالة، والصيام لا يرتبط بمواجهة الجوع الممنهج، والزكاة تختزل في معاملات رقمية دون ربطها بالعدالة في توزيع الثروة، وكلمة الحق لا تقال في وجه الاهل والاقارب وان فعلوا السوء.
هذا التفتيت يضعف المتدين ويعطله عن مواجهة التحديات المصيرية، فيتحول الدين من قوة تحريرية تغير الواقع إلى مجرد "ديكور روحي" يزين نظاما تقليديا قائما على الاستغلال، دون أن يمس جذوره العميقة أو يعيد تشكيله.
ولإعادة بناء التدين كقوة أخلاقية، يجب تفعيل ثلاث آليات أساسية: أولاً، تحويل العبادة إلى فعل تحرري من خلال استعادة مفاهيمها القرآنية العملية. ثانياً، جعل المساجد فضاءات نقدية للحوار حول قضايا العصر. ثالثاً، اعتبار التدين مسؤولية وجودية تتطلب ربط العبادات بتحسين الواقع.
باختصار، فان ليالي القدر ليست مجرد طقوس تُستعاد، بل هي دعوة لمراجعة الذات. إنها فرصة سانحة لتحرير الانسان من قيود المظاهر السطحية، وتحويلها إلى قوة دافعة تحرره من أسر المادة والأنانية. فإما أن تبقى ليلة القدر مجرد ذكرى عابرة تُتلى، أو أن تتحول إلى مشروع واقعي يُجسد إنسانا متكاملاً على أرض الواقع.