ألكسندر سولجنيتسين يصقل روائيا مرآة كاشفة لمجتمع سوفيتي مظلم
تُعد رواية "عنبر السرطان" للكاتب الروسي ألكسندر سولجنيتسين، التي نُشرت عام 1968، عملًا أدبيًا خالدًا يتجاوز حدود الزمان والمكان. فهي ليست مجرد قصة عن مرضى السرطان في مستشفى سوفيتي، بل هي مرآة تعكس واقع المجتمع السوفيتي في فترة ما بعد ستالين، وتطرح تساؤلات عميقة حول معنى الحياة والموت، والحرية والقمع، والإيمان واليأس.
تدور أحداث الرواية التي ترجمها وقدم لها يوسف نبيل وصدرت عن دار آفاق، في جناح السرطان في مستشفى بمدينة طشقند بأوزبكستان عام 1955. يجمع هذا الجناح مجموعة من المرضى الذين ينتمون إلى خلفيات اجتماعية وسياسية مختلفة، ويعانون من أشكال متنوعة من السرطان. من خلال قصصهم وتجاربهم، يرسم سولجنيتسين صورة بانورامية للمجتمع السوفيتي، ويكشف عن جوانبه المظلمة.
لذا ربما غير مرغوب فيه لكثير من الروس اليوم. كل من اليمين واليسار، الليبراليين والمحافظين، بما في ذلك أجهزة الدولة. بالنسبة للبعض، هو "المدمر الملعون للاتحاد السوفياتي"، وبالنسبة للآخرين هو عدو للمثقفين، حتى ليشار إلى أن الذكرى المئوية لميلاده عام 2018 الذي اطلق عليه عام سولجينتسين، تم تمرير هذه الذكرى بشكل غير محسوس تقريبا، حيث كان من الضروري الإبلاغ عن نصب تذكاري ، وتسمية شارع باسمه، وعقد مسابقة ابداعية في القصة أو الرواية أو حتى موضوع حول "كيف نبني روسيا"، لكن شيئا من ذلك لم يحدث. وربما يكشف ما جرى ليلة عرض فيلم "محادثات مع سولجينتسين" من إخراج سوكوروف في نادي موسكو "إلدار" حيث كانت القاعة شبه فارغة.
ينصب تركيز سولجنيتسين على الشخصيات ذات المصائر والأوضاع الاجتماعية والقيم الإنسانية والطموحات المختلفة تماما. بعد سماع التشخيص القاتل للسرطان، تقبله كل شخصية بطريقتها الخاصة: شخصية تنسحب على نفسها وتدخل في عزلة. شخصية، على العكس من ذلك، تخشى أن تكون بمفردها مع أفكارها وتتوق إلى التواصل والدعم، شخصية تنغمس في العمل من أجل أن يظل مفيدا للمجتمع، شخصية تلوم نفسه على أخطاء الماضي التي لم يعد لديها وقت لتصحيحها. شخصية تحاول القتال بكل قوتها تمسكا بالحياة، لأنها عاشت القليل جدا. وشخصية يائسة تماما وتصلي من أجل نهاية سريعة لعذابها.
في مقدمته توقف نبيل عند ملامح الفترة التي كتب ونشر فيها سولجنيتسين أعماله، يقول "في عام 1953 أفاق سكان الاتحاد السوفيتي على خبر مفزع؛ وفاة زعيمهم ستالين. مثلما مات ملايين إبان عهده، مات أيضًا عدد من الناس دهسًا أثناء جنازته من قوة الضغط والتدافع. منذ اندلاع الثورة البلشفية في عام 1917، وحتى وفاة ستالين، عايشت البلاد حربين عالميتين وحربًا أهلية وعصر إرهاب غير مسبوق راح ضحيته ملايين من الناس، سواء في معسكرات الاعتقال أو بسبب المجاعات والتهجير القسري، واقترن كل ذلك بحملات غسيل أدمغة لا مثيل لها، جعلت قطاعًا لا بأس من السكان يتوحد نفسيًا مع الزعيم الملهم والمخلص.
ويضيف "بعد وفاة ستالين، وفور أن تولى خروتشوف زعامة الحزب، قبضوا على بيريا، وزير ستالين الذي تولى ما عُرِف بـ"حملات التطهير" التي راحت ضحيتها أعداد هائلة من الناس، وأعدِم. ترددت في هذا الوقت تدريجيًا لفظة "عبادة الشخصية" وبدأت الانتقادات تُوجَّه علنًا إلى حكم ستالين، لكن بشكل تدريجي وخافت، وجرت حملات للإفراج عن المعتقلين. واحد من هؤلاء المعتقلين الذين أُفرِج عنهم، كان كاتب هذا العمل: ألكسندر سولجنيتسين.
ويلفت إلى أن سولجنيتسين ولد في عام 1918 ، وتزامنت طفولته مع سنوات الحرب الأهلية. درس الرياضيات في جامعة روستوف، كما درس بالمراسلة في معهد موسكو للفلسفة والأدب. جرى تجنيده إبان الحرب العالمية الثانية، وأثناء هذه الفترة كتب خطابًا لأحد أصدقائه يتضمن بعض الانتقادات لسياسة ستالين، وعثرت عليه الرقابة. اعتُقل في 1945 وحُكِم عليه بالأشغال الشاقة لمدة ثماني أعوام في معسكرات الاعتقال. أُطلِق سراحه في عام 1956، وعمل بالتدريس في إحدى المدارس نهارًا، بينما قضى لياليه في الكتابة.
ويؤكد نبيل أن الكتّاب عانوا طوال أعوام من القمع والإسكات، ولم يجد الأدباء الروس سبيلًا إلا الهجرة أو السكوت أو الكتابة بحسب مطالب الدولة المتمثلة في مذهب الواقعية الاشتراكية. انطبق الأمر ذاته على مناحي الحياة كلها، وحتى العلوم الطبيعية لم تسلم من القمع الأيدولوجي.
بعد موت ستالين وخفوت الرقابة تدريجيًا، شعر الناس في الاتحاد السوفيتي برغبة جارفة في قراءة نوع حقيقي من الأدب، يشرح لهم ماذا حدث طوال هذه الأعوام ويُحلله ويصف الحقائق بدقة. هذه الفترة ـ بعد وفاة ستالين ـ تُسمّى فترة "ذوبان الجليد" وقد اتسمت بسمات خاصة على المستوى السياسي والاجتماعي والأدبي.
ويرى أنه بالرغم من هذه الانفراجة، إلا أن السلطة لم تستطع تحمل توجيه انتقادات حقيقية إلى الاستبداد، ولذلك لم ينجح سولجنيتسين في نشر شيء من هذه الرواية سوى الفصول الأولى فقط في مجلة "العالم الجديد" تحت رئاسة رئيس التحرير ألكسندر تفاردوفسكي، وأبرِم الاتفاق مع المؤلف، ثم توقفت الطباعة بأمر من السلطات. نُشر العمل، وأعمال أخرى للكاتب في الخارج كاملًا، وأثار هجومه على الاستبداد السوفيتي اهتمام الغرب الذي انشغل في هذه الفترة بحرب باردة مع الاتحاد السوفيتي، فرحب بنشر هذه الأعمال، ونال سولجنيتسين جائزة نوبل في الأدب في عام 1970، واضطرت السلطة السوفيتية إلى تهجير الكاتب.
ويتابع نبيل "في كل الأحوال، وبعيدًا عن المضامين السياسية لأعمال سولجنيتسين، إلا أنه مثّل التوجهات الأدبية الرئيسة في عصره، وصار من ألمع الأسماء في العالم الأدبي الروسي، والقارئ المتمعن لأعماله يمكنه إدراك كيف أعاد سولجنيتسين وجيله تقاليد الأدب الروسي الكلاسيكي العظيم في القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين، لتظهر أعمال أدبية رفيعة المستوى تستلهم القيم الإنسانية الكبرى. وقد كتب رواية "عنبر السرطان" بناء على ذكرياته في قسم الأورام بمستشفى طشقند في عام 1954. من الصفحات الأولى للكتاب تنكشف نية الكاتب في تصوير المجتمع السوفيتي كله داخل عنبر السرطان. تشمل الرواية شخصيات عديدة من طبقات ومهن مختلفة، وتتناول الرواية حكايات المرضى والأطباء والممرضات، وفي هذه الحكايات يتضح للقارئ كيف أصيب جسد المجتمع السوفيتي كله بمرض خبيث، وعانى من سرطان قاتل.
تضمنت الرواية بالطبع شخصيات تظن نفسها حرة، لكن جهلها وعماها وصل إلى درجة مؤسفة. كل هذا يجعل صورة البلد المريض بالسرطان أشد مأساوية. إذا كان الناس عميانًا وصمًا، وإذا انخدعوا، فلن يُشفوا من هذا المرض القاتل!. هكذا يصور الكاتب ما حدث في المجتمع السوفيتي. يتحدث عن ضياع معايير التمييز بين الخير والشر، وهي المعايير التى ترشد الإنسان في رحلة بحثه عن المعنى.
ويشير نبيل إلى أن قراءة العمل تشبه رحلة صعود تدريجية. في البداية لا يرى القارئ سوى سرير في مستشفى وصورة مصغرة للشخص الذي يعاني من المرض. يصعد بضع درجات أخرى فيتسع مجال الرؤية، وإذ به يرى العنبر برمته بمرضاه البائسين. بعد ذلك، يرى البناية المخصصة لمرضى السرطان كلها، بأطبائها ومرضاها وممرضاتها، ثم يتوالى الصعود ويرى مساحات شاسعة فتنكشف له البلاد بماضيها وحاضرها. أثناء هذه العملية لا يكف القارئ عن التفكير مع شخوص العمل في القضايا الإنسانية الخالدة مثل الحياة والموت والضمير والحب والسعادة. كتب سولجنيتسين ذات مرة أن مهام الكاتب لا تقتصر على الدفاع عن الحكومة أو انتقادها، بل تتعلق بأمور أشد عمومية وأبدية؛ تتعلق بأسرار القلب والضمير البشريين وتصادم الحياة بالموت وقوانين الإنسانية التي تضرب بجذورها في أعماق آلاف السنين. لذا فإن اختيار عنبر السرطان كمكان رمزي يُصوَّر من خلاله المجتمع السوفيتي كله، لا يحول دون تركيزه على تصوير روح الإنسان وتفكيره في الموت الذي يتخلل العمل كله. ومن هنا ضمت الرواية أشخاصًا من مختلف التوجهات؛ تناولت المؤمنين بالحزب والمنشقين عنه، الوشاة والجنود والأطباء والمرضى والمديرين والعمال والصغار والكبار.. إنه عمل بانورامي شاسع يرسم لنا صورة دقيقة عن المجتمع السوفيتي، بأدق تفاصيل حياته الاجتماعية والروحية والاقتصادية. المرض يصيب شتى الأنواع بدون تمييز، فجميع أعضاء هذا المجتمع يتوجب عليهم دفع الثمن، آجلًا أم عاجلًا.
أتم سولجنيتسين هذا العمل في عام 1966، وانتشرت نسخ سرية منه داخل روسيا، وطُبعت بالروسية ولغات أخرى في الخارج، وشكّلت ضجة كبيرة في المجتمع الأدبي الروسي والعالمي، علاوة على أعمال أخرى مميزة للكاتب.