لعبة مرايا مأهولة بالظلال في 'بداياتنا في الحياة' لموديانو

الفرنسي الحائز على جائزة نوبل في الأدب يخلق عبر تداخل الضوء والظل نصًا شاعريًا عميقًا يستعرض هشاشة البدايات وانكسارات الحلم في مواجهة قيود الواقع.

تعكس مسرحية "بداياتنا في الحياة" للأديب الفرنسي باتريك موديانو الحائز على جائزة نوبل في الأدب عام 2014، أسلوبه المميز في تناول قضايا الهوية والذاكرة والبحث عن الذات حيث يغوص في تفاصيل العلاقات الإنسانية المعقدة، ويستعرض هشاشة البدايات التي تشكل ملامح الإنسان في مواجهة العالم، لنرى تشابك مشاهد الماضي والحاضر والحلم مع الواقع.

من خلال شخصياتها، تقدم المسرحية التي ترجمها لطفي السيد منصور وصدرت عن دار صفصافة تأملاً عميقا في الصراعات الداخلية التي يعيشها الأفراد في مقتبل حياتهم، بين أحلامهم وآمالهم من جهة، وواقعهم الاجتماعي والنفسي من جهة أخرى. ومن ثم فإننا نشعر أن الخطوط الرئيسية هي عبارة عن لعبة مرايا مأهولة بالظلال، تعيد كل شخصية إلى أشباحها الداخلية الغامضة.

في زاوية من المسرح، غرفة ملابس، وعلى الخشبة خمس شخصيات تتمثل في دومينيك: 20 سنة، جان: 20 سنة، إلفير: في الخمسينيات من عمرها، والدة جان، كافو: في الخمسينيات من عمره زوج إلفير، روبير لو تابيا: 75 عامًا، مدير المسرح.

في بداية المسرحية، كان جان بمفرده على خشبة المسرح، وظهره للجمهور وفي نصف الضوء، ينغمس في مونولوج: " لا أريد أن أُحصي السنوات.. يَبدو لي أَنَّ كل شيءٍ لا يزال ينبض بالحياة تمامًا.. هذا لا ينتمي إلى الماضي.. لكن عندما أفكر في الأمر، ينتابني إحساس مباغت بالفراغ.. لم يعد هناك مَن أتحدث معه حول هذا الموضوع.. فضلًا عن ذلك، كنت أود التحدث معك فقط عن ذلك.. أخشى أنني نسيت بعض التفاصيل.. بعد الغرفة الصغيرة حيث كان يقف مدير المسرح". ولتوضيح الانطباع الذي يريد أن يعطيه، يعطي موديانو يأتي هذه المؤشر: "مع توالي الردود الحوارية، ينخفض الضوء، بحيث ينتهي الأمر إلى سماع أصواتهم في الظلام". كما لو أن النص كان يطارد الصورة تدريجيا للتركيز بشكل أفضل على المحتوى، لامتصاص الجو المتوتر.

يتجول جان في المسرح، ويبحث عن غرفة الملابس حيث التقى ذات مرة بدومينيك الممثلة الشابة، يسترجع جان شبابه عندما كان يحلم، ككاتب مبتدئ، بالنشر بينما كانت الممثلة الشابة تراقب أولى علامات نجاحها. وبالإضافة إلى إعادة كتابة شخصيات لأنطوان تشيخوف في مسرحيته "النورس"، تأخذ هذه المسرحية زخارف السيرة الذاتية العظيمة التي تمر عبر أعمال موديانو.

يمتزج موديانو نصه مع نص تشيخوف"النورس"، من خلال حياة شخصيتي، دومينيك وجان، دومينيك ممثلة، نسخة "نينا"، هو كاتب نسخة "تريجورين"، الذي يأمل في أن يكون قادرا على النشر، كلاهما مبتدئ وكلاهما عاشق للآخر، وكلاهما يواجه عالما من البالغين الذين يقدمون دروسا عن طيب خاطر، أو حتى بطريقة الهيمنة. حيث يتعرض جان للمضايقة من قبل والدته وشريكها اللذين يريدان منه أن ينفصل عن دومينيك. لكن الأمر بالنهاية يظل ضبابيا.

كان جان يريد الاشتغال بالكتابة المسرحية بينما كانت صديقته دومينيك "فتاة مسرحية صغيرة" تؤدي دور "نينا" في مسرحية أنطون تشيخوف "النورس" على خشبة مسرح باريسي، لكن ظل الأم إلفير التي تلعب دورا ثانويا في مسرحية في مسرح يقع بالشارع نفسه، والمعرفة المطلقة لزوجها باشتغال جان بالكتابة تشوه تألقه وتشوه علاقته بدومينيك، ومن جانب آخر فإن والدي دومينيك يريان أنها تعمل في عالم بوهيمي.

المسرحية تجد معناها الكامل في طبقات المشاهد حيث تتلاشى مفاهيم الوقت والذاكرة: ذكريات متناثرة، ذاكرة مسامية تطمس اللعبة وتخلط الأوراق: " كيف تغيرت باريس.. أشعر أنني لم أعد أنتمي إليها، لكني لا أجرؤ على إخبار أحد غيرك.. يوم بعد يوم إنه صراع ضد الوحدة.. ومع ذلك، في بعض الأحياء، نجد أنفسنا فجأة كما كنا.. على سبيل المثال، في وقت متأخر جدًّا من الليل، قريب جدًّا من المسرح.. على زاوية شارع دي ماتورين.. مررت من هناك تلك الليلة.. كان يهب نسيم خفيف.. ترددت في متابعة الشارع إلى المسرح.. كنت أسمع ضحكتك خلفي".

المسرحية على الرغم من تعقداتها التي تفرضها لعبة النور والظل تتسم بلغة شاعرية وإيقاع هادئ يُبرز قدرة موديانو على رسم مشاهد إنسانية نابضة بالحياة تلامس قضايا الاغتراب والبحث عن الانتماء. يُرجح أن العمل يعكس جزءا من تجارب موديانو الشخصية، كما هو الحال في كثير من أعماله التي تتناول ضياع الفرد وبحثه عن معنى وجوده في عالم معقد.

مقتطف من المسرحية

دومينيك

منذ قليل، قبل البروفة، صادفت والدتك في الشارع.. نظرت إليّ نظرة فاحصة.. كانت تحمل مظلة مطر في يدها.. كنت أخشى أن تضربني على وجهي.

جان

فرصة مقابلتنا لها كبيرة.. حظ سيئ، هناك أكثر من خمسين مسرحًا في باريس، ولا بُد أنَّها تعمل في المسرح المجاور لمسرحك.. ثمة مسرحان قريبان جدًّا ومختلفان تمامًا.. الدليل: أنت، تؤدي مسرحية "النورس" لتشيخوف، وهي تؤدي مسرحية "عطلة نهاية أسبوع سعيدة" يا جونزاليس.. وهي غاضبة منك بسبب..

دومينيك

لكن هذا ليس عدلًا.

جان

ومع ذلك، فإن المسرح هو المسرح.. وقد تكون المسرحيات التي تُؤدَّى هناك مختلفة، لكنها دائمًا الكواليس نفسها، وغرف الملابس نفسها، والستارة المخملية الحمراء القديمة نفسها، والقلق قبل الدخول إلى المسرح نفسه.. قيل لي إنَّ هناك ممرًا سريًّا يربط مسرحك بالآخر، أتمنى ألَّا تعرف والدتي ذلك.. وإلّا، في إحدى الأمسيات، قد تحل بغرفة ملابسك لتمنحك من مظلتها بعض الضربات.

دومينيك

وسيأتي كافو ساعيًا ليلقي عليك محاضرة.

جان

اتخذت احتياطاتي..

يسحب الحقيبة نحوه، ويضع السوار على شكل قيد حول معصمه.. يُصدر السوار ضوضاء معدنية عند إغلاقه.. يفرد ذراعه، وتتدلى الحقيبة من معصمه.

أنتظر كافو بأقدام ثابتة.. في المرة الأخيرة طرح عليَّ سؤالًا ماكرًا، لمعرفة عدد الصفحات التي كتبتها.. هز كتفيه.. كان خداه أكثر تجويفًا من المعتاد، وهو يسحب نفسًا من مبسم السجائر الخاص به.. قال لي إنَّه يعلم مسبقًا أن هذا المخطوط سيئ، لأنَّ مَن في عمري لا يعرف المهنة.. والكتابة مسألة مهنة، مثل الرقص الكلاسيكي.

دومينيك

جان المسكين.. عليك أن تسمع هذا.

تنهض وتأتي لتجلس على الأريكة بجانب جان.. تأخذ الحقيبة التي كانت معلقة وتضعها على ركبتي جان.

في وقت سابق، في أثناء البروفة، فكرت في شيءٍ ما.. تشترك معنا شخصيات مسرحية النورس في نقاطٍ.. في المسرحية، الأم ممثلة، والابن يسعى لأن يصبح كاتبًا.. مثلك أنت ووالدتك.. وكافو، صديق والدتك، هو أيضًا كاتبٌ، مثل تريجورين، صديق الممثلة.

جان

كافو ليس كاتبًا.. إنه مجرد صحفي.

دومينيك

ونينا التي أؤدي دورها ممثلةٌ.. مثلي.

جان

أفهم وجهة نظرك.. ولكن بعد ذلك ستكون نسخة باهتة ورديئة إلى حد ما من النورس.

دومينيك

لماذا "باهتة ورديئة"؟

جان

لا أتحدث عنك.. لقد استمعت إليك سابقًا في أثناء البروفة: أنت شخصية نينا.. إنها مسألة صوت، تنغيمات.. لديك صوت الشخصية.. وفيما يخص أمي هي على النقيض من الممثلة في مسرحية تشيخوف.. وكافو لا يشبه إطلاقًا الكاتب تريجورين.

دومينيك

لكن نحن الاثنان.. نحن مثل شخصيات النورس، أليس كذلك؟

جان

أنت، نعم.. لكنني.. بهذه الحقيبة القديمة وهذه الأصفاد حول معصمي. عندما أسير في الشارع، ينظر الناس إليّ بطريقة مضحكة.. ثم، لا رغبة لي في الانتحار، مثل شاب النورس.. لدي ثقة بالمستقبل.

دومينيك

أنا أيضًا.

جان

يومًا ما لن أضطر إلى وضع قيد في معصمي لحماية مخطوطتي، ولن تخاطري بعد الآن بالتعرّض للضرب بمظلة أمي، لأنك تؤدين دورًا في مسرحية لتشيخوف.

دومينيك

لا تقلق بشأني.. إنها ليست أول مرة لي.. أنا فتاة ريفية.

جان

يجب أن يحدث هذا كثيرًا في العمر.. نترك النافذة مفتوحة.. وتنتهز الحشرات الفرصة لدخول غرفتك.. نحلٌ طنّان كبير.. صراصير.. طيور ملعونة.. تحوم حولك.. عليك أن تظل ساكنًا ومكتوف اليدين. وعلى نحو خاص، لا تقم بأي إيماءة تجذب انتباههم.. سينتهي بها الأمر إلى مغادرة الغرفة.

دومينيك

لا أخاف مِن النحل أو الصراصير.. أقول لك إنّي فتاة ريفية.

جان

أفضِّل أن أحذرك على أي حال.. قد يأتي كافو إلى غرفة ملابسك.. يحدثك عني.. يطلب منك ألَّا تريني بعد الآن.. يعتقد أنك تمارسين تأثيرًا سيئًا عليّ وأن النساء كائنات ضارة.. لا أدري لماذا يصر على التدخل في حياتي.. بأي صفة؟ أتمنى لو كان أبي لا يزال..

دومينيك

لكن نعم.. إنه ليس حتى والدك.

جان

على أي حال، كوني حذرة: يمكن أن يكون عدوانيًّا جدًّا.

دومينيك

لا أخاف من أحد.

جان

هل تتذكرين اليوم الذي صادفناه فيه عند مفترق طرق أوديون، عندما كان يخرج من جلسة صالة التمرينات الرياضية؟ بالكاد تحدث إلينا.

دومينيك

كان يتجنب النظر إليَّ، وكأنه يخشى أن أصيبه ببعض الأمراض التناسلية. لقد أعطاني انطباعًا مضحكًا.. بدا وكأنَّه كاهن منزوعٌ من الخدمة.. أو متعهد دفن الموتى.. لكن لماذا جلسات التمرينات الرياضية هذه؟

جان

لا أعرف.. إنَّها صالة ألعاب رياضية كبيرة، في شارع سان جيرمان.. أراد أن يأخذني إليها، وشعر بخيبة أمل كبيرة عندما رفضت بأدب المشاركة في ألعابهم.. يمارسون تمارين رفع الأثقال، وحصان الحلق، والقضيب الأفقي، وعمليات السحب.. سترينهم يتحركون لساعات دون أن تفهمي السبب حقًّا.. سوف تشعرين بالدوار.. كل هؤلاء الرجال فيما بينهم.

دومينيك

وأمك.. ما رأيها في ذلك؟

جان

لا شيء.. بينهما علاقات خاصة جدًّا، هي وكافو.. وفق ما أعتقد أنني فهمته، إنهما يعيشان تقريبًا مثل الأخ والأخت.

دومينيك (دون فهم)

كأخ وأخت؟

جان

رأيتهما ذات مرة يمشيان جنبًا إلى جنب في الشارع.. كلاهما يسيران بالوتيرة نفسها، وبالصلابة نفسها.. لقد بديا مثل رفيقين في كتيبة.. أو متسلقين لجبال الألب من الفريق نفسه.

دومينيك

لديك حقًّا عائلة غريبة.

جان

هل تعتقدين أنه يمكن أن نسميها عائلة؟

دومينيك

أنا، لقد قطعت علاقاتي بعائلتي منذ وصولي إلى باريس قبل ثلاث سنوات، محطة مونبارناس.. (صمت) أريد أن أطلب منك شيئًا.. هل يمكنك أن تجعلني أتدرب على نهاية مشهد؟ المشهد الذي يجب أن أُوديه أمام سافيلسبيرج بعد ظهر غد.

تأخذ الكتيب من فوق طاولة المكياج، وتجلس بجانب جان على الأريكة.. تتصفح الكتيب لتجد المشهد.. إنَّهما ملتصقان ببعضهما بعضًا، ولا تزال حقيبة جان مربوطة بمعصمه بالأصفاد.

نهاية مشهد نينا مع الكاتب تريجورين.