الأردن في مواجهة إوهام إيران والإخوان

يخطئ من يعتقد أن المملكة الأردنيّة الهاشمية دولة هشة.

ليست هذه المرّة الأولى، ولن تكون الأخيرة، التي تتعرّض فيها المملكة الأردنية الهاشميّة، التي تواجه الإرهاب بأشكاله المختلفة على جبهات عدّة، لمحاولة تستهدف زعزعة الاستقرار فيها. صمد الأردن في الماضي وسيصمد في المستقبل بفضل عوامل عدة أهمّها مؤسسة العرش التي تتمتع بيقظة ليس بعدها يقظة وبعد نظر ليس بعده بعد نظر من جهة والأجهزة الأمنية التي تمتلك خبرة واسعة في مجال مكافحة الإرهاب بطرق متطورة من جهة أخرى.

يبقى الدليل على بعد النظر الأردني توقيع إتفاق السلام مع إسرائيل في تشرين الأول – أكتوبر 1994، وهو اتفاق حمل اسم وادي عربة، رسم حدود المملكة وقطع الطريق على فكرة "الوطن البديل" التي حلم بها اليمين الإسرائيلي الذي طمح دائما إلى تهجير أهل الضفّة الغربيّة إلى الأردن. لم يدافع الأردن في عهدي الملك حسين والملك عبدالله الثاني عن حقوق الأردن في الأرض والمياه فحسب، بل دافع أيضا عن حق الفلسطينيين في دولة مستقلّة باتت معروفة الخطوط العريضة لحدودها، خصوصا في ضوء قرار فكّ الإرتباط مع الضفة الغربيّة الذي اتخذه العاهل الراحل (الحسين) صيف العام 1988.

يبقى الأهم من ذلك كلّه اللحمة بين مختلف فئات الشعب الأردني، خصوصا بين الشرق أردنيين وأولئك الذين من أصول فلسطينية. باتت تجمع بين كلّ هذه الفئات مصلحة مشتركة. تتمثل هذه المصلحة في المحافظة على المملكة وحمايتها في مواجهة أي تحديات تواجهها وذلك على الرغم من كلّ الصعوبات، في مقدّمها غياب الموارد الطبيعية ووجود أزمة دائمة هي أزمة المياه.

عزّزت التطورات الإقليمية الوحدة الوطنية الأردنية وزادت في أيّامنا هذه من الإلتفاف حول مؤسسة العرش التي عرفت كيف التعاطي مع معطيات مرحلة في غاية الدقة، خصوصا مع اتباع إسرائيل سياسة هجومية تتسم بوحشية ليس بعدها وحشية منذ حصول "طوفان الأقصى" في السابع من تشرين الأوّل – أكتوبر 2023.

قبل "طوفان الأقصى" وبعده، كشفت المؤامرة الأخيرة التي تعرّض لها الأردن تلك العلاقة العميقة القائمة بين قوى التطرف في المنطقة، أكانت هذه القوى شيعية أو سنّية. بكلام أوضح، يشير الحدث الأردني إلى تآمر مشترك بين الإخوان المسلمين، الذين تعتبر "حماس" جزءا لا يتجزّأ منهم والأجهزة الإيرانية المختلفة التي لا يمكن حصرها بـ"الجمهوريّة الإسلامية" وحدها، بل في امتداداتها الإقليمية. على رأس هذه الإمتدادات تأتي ميليشيا "حزب الله" اللبنانية التي ارتبطت بعلاقة قديمة بـ"حماس" والتي لعبت في كلّ وقت دورا في السعي إلى ضرب الاستقرار في الأردن بالتحالف مع الإخوان المسلمين وغيرهم. زاد تورط الحزب في محاولات إختراق الأردن مع اندلاع الثورة الشعبية في سوريا في العام 2011  ودخول قوات من الحزب إلى الجنوب السوري. كانت ترجمة هذا الدخول، على أرض الواقع، متابعة السعي إلى تهريب السلاح إلى الداخل الأردني بالتفاهم مع "حماس" والتنسيق معها.

ليست العلاقات بين مجموعات متطرفة من "حماس" والإخوان المسلمين و"حزب الله" وتنظيمات أخرى وليدة البارحة. حاولت "الجمهوريّة الإسلاميّة"، عبر "حزب الله" وغيره تهريب السلاح إلى الأردن منذ فترة طويلة. في آذار – مارس 2002، على سبيل المثال وليس الحصر، تغيّب الملك عبدالله الثاني عن القمة العربيّة التي انعقدت في بيروت. حالت ظروف أمنية مرتبطة بنشاط للحزب في الأردن دون حضور الملك إلى العاصمة اللبنانية...

في كلّ هذه السنوات الـ23 لم يتغيّر شيء. لم يتغيّر الحلف القائم بين إيران وادواتها من جهة والمنظمات السنّية المتطرفة، بينها "حماس" والإخوان، من جهة أخرى. المخجل أنّ الإخوان المسلمين يرفضون الإعتراف بأي جميل للأردن الذي سمح لهم بممارسة نشاط سياسي في إطار مؤسسات الدولة، في طليعتها مجلس النواب. هل هذه طريقة هؤلاء في رد الجميل لمن سعى إلى أن يكون تنظيمهم جزءا من المشهد السياسي الأردني في إطار الدستور والقوانين المعمول بها؟ هل بالإعمال التخريبية يكون الرد على الجهد السياسي والديبلوماسي والإغاثي الذي قام به الأردن منذ بدأت حرب غزّة؟ غامر الملك عبدالله الثاني وحلّق شخصيا فوق غزّة من أجل إلقاء مساعدات للمواطنين المحاصرين في القطاع. تحمّل الأردن الكثير من أجل غزّة، بما في ذلك الغضب الأميركي والإسرائيلي، خصوصا أنّ أي بلد لم يسمح بكل هذا العدد من التظاهرات من أجل إنقاذ القطاع.

جاء الحدث الأردني الكبير مع كلّ ما فيه من تطورات خطيرة متعلقة بصنع صواريخ وتدريبات لعناصر في لبنان في وقت تتغيّر المنطقة سريعا. بفضل هجوم "طوفان الأقصى" الذي وقفت خلفه "حماس"، إرتكبت إسرائيل جريمة إزالة غزّة من الوجود على نحو شبه كامل. بفضل "حرب إسناد غزّة" التي افتعلها "حزب الله" انطلاقا من جنوب لبنان، قضت إسرائيل قضاء شبه تام على الحزب، فيما فقدت إيران قاعدتها السورية. هذه خسارة تعني نهاية "الهلال الشيعي" الذي يربط طهران ببيروت عن طريق بغداد ودمشق والذي يرمز إلى المشروع التوسّعي الفارسي في المنطقة.

على الرغم من ذلك كلّه، ما زالت الهجمة على الأردن مستمرّة. يعود ذلك إلى عامل الجهل، وهو عامل يجعل كثيرين في المنطقة، بمن في ذلك كبار المسؤولين في إيران، يعتقدون أن المملكة الأردنيّة الهاشمية دولة هشة. من صمد في وجه كلّ العواصف التي اجتاحت العالم العربي في خمسينات القرن الماضي وستيناته وصولا إلى أحداث ايلول – سبتمبر 1970، التي انقذ فيها الأردن التنظيمات الفلسطينية من نفسها أوّلا، ليس ملكا على دولة هشّة. وضع الملك حسين أسسا لدولة ذات مؤسسات حديثة وقويّة منطلقا من ثروة وحيدة هي ثروة الإنسان. تابع عبدالله الثاني المهمّة وصولا إلى المرحلة الراهنة التي تشهد حال مخاض في المنطقة كلّها. في هذه المرحلة ثمة ثوابت عدة. لا يزال الأردن أحد هذه الثوابت على الرغم كلّ ما قيل ويقال وعلى الرغم من كلّ الأوهام الإيرانيّة والإخوانية.