قراءة نقدية تعكس روح المجتمع السعودي المعاصر في 'مكابدات الهوية'

كتاب لدكتورة سمر السقا يقدم نقدًا عميقًا للتحولات الفكرية والاجتماعية في مجتمعها لاسيما فيما يتعلق بقضايا الهوية ودور المرأة.

يتناول كتاب "مكابدات الهوية" للكاتبة السعودية الدكتورة سمر السقا قراءات نقدية للشعر والنثر، حيث يقدم نقدًا عميقًا للتحولات الفكرية والاجتماعية في المجتمع السعودي، لاسيما فيما يتعلق بقضايا الهوية ودور المرأة. في ظل التغيرات التي شهدتها المملكة في السنوات الأخيرة، تسلط الكاتبة الضوء على ضرورة التمسك بالهوية العربية كوسيلة لمواجهة الانفتاح الثقافي والتقني، مستندةً إلى إرث التراث العربي وخصوصياته الجمالية.

يتألف الكتاب من 284 صفحة، وصدر عن مجموعة تكوين المتحدة بجدة، المملكة العربية السعودية، عام 2024. يستعرض الكتاب أربعة فصول تستعرض مكابدات الهوية من زوايا مختلفة.

المكابدة الأولى: رمزية المرأة في الشعر العربي

تتناول الدكتورة سمر في "المكابدة الأولى" رمزية المرأة في الشعر العربي من خلال مقاربة نصية تركز على العلاقة المعقدة بين الشعراء ومحبوباتهم. تستعرض غرض "التشبيب"، الذي يُعتبر أحد أكثر الموضوعات شيوعًا في الشعر العربي عبر العصور، حيث يُعرف بأنه التغزل في جمال النساء. تشير إلى أن هذا الغرض يُعتبر فطريًا، مرتبطًا برغبة إنسانية أصيلة، مما يعكس عمق التجربة الإنسانية في الشعر.

تستعرض آراء عدد من النقاد، مثل ابن قتيبة والحصري القيرواني وأبو هلال العسكري، الذين يحددون صفات التشبيب ويشددون على أهمية استخدام ألفاظ رشيقة ومعانٍ عاطفية، مما يعزز من جمالية النصوص الشعرية. تُظهر التحليلات كيف يتم مزج الواقع بالخيال في تصوير المحبوبة، حيث تتحول المرأة من كائن حقيقي إلى مثال يُحتفى به.

تستند الدكتورة سمر إلى دراسة الدكتور علي البطل، الذي يُبرز كيف أعاد الشعراء تشكيل صورة المحبوبة لتصبح شبيهة بالإلهة، مما يضفي طابعًا دينيًا على تجربة الحب. يُظهر الشاعر من خلال هذا التداخل كيف يصبح الحب طقسًا دينيًا، حيث تُصبح المحبوبة رمزًا للخصب والتناسل، مما يعكس ارتباطًا وثيقًا بين الجسد والروح.

المكابدة الثانية: التراث والإبداع الشعري الحديث

في "المكابدة الثانية"، تستعرض العلاقة المعقدة بين الشعراء المعاصرين، مثل أحمد عبد المعطي حجازي، وتراثهم الأدبي، مؤكدةً على أهمية توظيف هذا التراث في الإبداع الشعري الحديث. تشير إلى أن الإبداع لا يتجاهل الماضي، بل يبني عليه، مما يخلق تواصلًا حيويًا بين الأجيال الأدبية.

تظهر أهمية هذا التفاعل من خلال استخدام الشاعر للمعطيات التراثية، حيث تصبح هذه العناصر خيوطًا متشابكة في نسيج الرؤية الشعرية المعاصرة، تعكس هموم الشاعر وواقعه. توضح كيف أن الشعر الحديث قد تجاوز الوصف الخارجي للعالم المادي ليغوص في الأعماق النفسية للشاعر، مما يعكس عمق التجربة الإنسانية.

تُبرز أيضًا سعي الشاعر المعاصر لفهم هويته ووجوده في زمن معقد من خلال التعاطي مع تراثه. يعتبر هذا التفاعل ضرورة لفهم القضايا المعاصرة، مما يجعل التراث كنزًا ثقافيًا غنيًا يمكن استثماره في مواجهة التحديات الحالية.

 المكابدة الثالثة: التناقض كعنصر أساسي في النص الأدبي

أما في "المكابدة الثالثة"، فتتناول مفهوم التناقض كعنصر أساسي في بناء النص الأدبي، مشيرةً إلى أنه يلعب دورًا محوريًا في فهم الواقع الإنساني وتجاربه. تستعرض تعريفات التناقض في اللغة والمعاني الفلسفية، مما يعكس عمق هذا المفهوم وتأثيره عبر العصور في مختلف الفنون والأفكار.

تبرز كيف أن التناقض ليس مجرد ظاهرة سلبية، بل هو جزء لا يتجزأ من الحياة، حيث يُعتبر أساسًا للتغيير والتطوير في النصوص الأدبية. تركز على الفرق بين التضاد والتناقض، موضحةً أن التناقض يتعلق بالأقوال التي يمكن أن تتواجد معًا، مما يفتح المجال لتعدد المعاني والتفسيرات.

كما تتناول آراء عدد من العلماء والمفكرين، مثل أبو هلال العسكري والجرجاني، مما يعزز من مصداقية التحليل ويضيف عمقًا فلسفيًا لمفهوم التناقض. يتضح أن التناقض يُعتبر قيمة جمالية، حيث يُساهم في خلق توازن داخلي في النصوص الأدبية، مما يجعلها أكثر تعقيدًا وإثارة للاهتمام.

 المكابدة الرابعة: استنطاق الجسد ورمزية المرأة

في "المكابدة الرابعة"، تركز الدكتورة سمر على "استنطاق الجسد ورمزية المرأة في قصيدة الرقص.. جسد في حالة ملاك" للشاعر جاسم الصحيح، حيث يُعتبر الموضوع مركزيًا يتمثل في توظيف الجسد كأداة تعبيرية غنية تعكس التجربة الإنسانية. يبدأ النص بتعريف الشاعر وتاريخ ميلاده، مما يضفي بعدًا شخصيًا على التحليل، ويبرز اهتمامه العميق بتفاصيل الجسد كوسيلة لفهم الروح والتخلص من قيود التقاليد.

تؤكد أن الجسد ليس مجرد شكل مادي، بل هو رمز للحرية والانطلاق، حيث يُعد الرقص تعبيرًا عن حالة من التوازن النفسي والصفاء الروحي. يميز الكاتب بين أنواع الرقص، مشيرًا إلى أن الرقص في شعر الصحيح هو رقص انفرادي، يعكس حالة من التفريغ النفسي، بعيدًا عن التنميط الاجتماعي.

كما تستحضر مثال "زوربا اليوناني" لتعزيز فكرة الرقص كوسيلة للتعبير عن الهموم والضغوط الحياتية، مما يربط بين الأبعاد الثقافية المختلفة. يُعتبر هذا الربط بين الجسد والتجربة الروحية في شعر جاسم الصحيح تجسيدًا لرغبة الشاعر في الخلاص والحرية، مما يجعل نصوصه تنبض بالحياة والشعور.

سلاسة اللغة وعمق التحليل في تناول الهوية ودور المرأة

تتميز أسلوب ولغة الدكتورة سمر السقا في كتاب "مكابدات الهوية" بالعمق والوضوح، مما يعكس فهمًا دقيقًا للقضايا المعقدة. تجمع الكاتبة بين التحليل النقدي والمقاربة النصية، مقدمة رؤى متعددة حول الهوية ودور المرأة، مما يساعد القارئ على استيعاب الأبعاد المختلفة لهذه القضايا. تعتمد على أسلوب استدلالي، تدعم أفكارها بأمثلة واقعية من الشعر والنثر، مما يعزز مصداقية تحليلها. تستخدم لغة سلسة ودقيقة، ما يسهل فهم المفاهيم المعقدة، وتبتعد عن التعقيد الزائد، مما يجعل الكتاب مناسبًا لجمهور واسع، بما في ذلك الأكاديميين والمهتمين بالأدب. كما تظهر قدرتها على استخدام التشبيهات والاستعارات بفاعلية، مما يضفي جمالية على النص ويعزز تأثيره.

في ختام هذا الاستعراض لكتاب "مكابدات الهوية" للدكتورة سمر السقا، يتضح أن العمل يمثل جسرًا حيويًا بين التراث والمستقبل، حيث تسلط الكاتبة الضوء على القضايا المعاصرة المتعلقة بالهوية ودور المرأة في المجتمع السعودي. من خلال تحليل عميق لشعر ونثر يتجاوز السطحية، تقدم الدكتورة سمر رؤى جديدة تُحفز القارئ على التفكير في التحولات الثقافية والاجتماعية. إن أسلوبها السلس وقدرتها على الربط بين النصوص والمفاهيم تجعل من هذا الكتاب مرجعًا قيّمًا للمهتمين بالأدب والنقد الثقافي. في زمن تتزايد فيه التحديات، تظل الهوية العربية ركيزة أساسية لمواجهة هذه التغيرات، مما يبرز أهمية هذا العمل كأداة لفهم الذات وتأكيد الخصوصية الثقافية.