كلاوس دودز في 'ما الجيوسياسية؟': الجغرافيا ليست قدرًا.. بل أداة فهم وتحكم

الباحث بكلية رويال هولواي يعرض كيف تؤثر الجغرافيا على السلطة والسياسة العالمية، مبرزا دور الخطاب، والثقافة الشعبية، والتكنولوجيا، والجندر، في تشكيل فهمنا للعالم وراصدا تطور الجيوسياسية من مفاهيم كلاسيكية إلى رؤى نقدية تربط بين المكان والهوية والصراع.

في أماكن مثل العراق أو لبنان أوسوريا، يمكن أن يكون التحرك بضعة أقدام على جانبي الحدود مسألة حياة أو موت، مما يسلط الضوء بشكل كبير على الروابط بين الجغرافيا والسياسة. هذه المقدمة القصيرة "الجيوسياسية"، للباحث المتخصص في الجيوسياسية بكلية رويال هولواي، جامعة لندن، كلاوس دودز، تلقي الضوء على مفهوم الجغرافيا السياسية، وتكشف كيف يؤثر موقع الدولة وحجمها وسيادتها ومواردها على كيفية فهم شعوبها وتفاعلهم مع العالم الأوسع. باستخدام أمثلة واسعة النطاق، من الخرائط التاريخية إلى أفلام جيمس بوند وخطاب القادة السياسيين مثل تشرشل وجورج دبليو بوش.

يصف دودز في كتابه الذي ترجمته رشا صلاح الدخاخني، وصدر عن مؤسسة هنداوي، كيف يرتبط الناس والأماكن ببعضها البعض، وكيف تشكل نظرتنا الجيوسياسية فهمنا للعالم. ويوضح لماذا من الأهمية بمكان أن نفهم كيف ولماذا نقسم العالم إلى مناطق وأقاليم - وكيف تعتمد هذه التقسيمات على وجهة نظرك. ويشرح كيف أن الإرهاب والعولمة والتدهور البيئي والتقنيات الجديدة مثل الإنترنت ووسائل التواصل والمواقع الإخبارية كلها تتحدى الأساس الجغرافي للسياسة العالمية، ويلقي الضوء على تاريخ مصطلحات مثل "الستار الحديدي" و"العالم الثالث" و"محور الشر".

ما الجيوسياسية؟، يقول دودز أنها تنطوي على ثلاث سمات. أولًا: تهتم بمسائل متعلقة بفرض النفوذ والسلطة على حيز جغرافي وأرض إقليمية. ثانيًا: تستعين بأُطر جغرافية لفهم الشئون العالمية. وتشمل القوالب الجغرافية الشائعة مصطلحات مثل: "مجال النفوذ"، و"التكتلات"، و"الفناء الخلفي"، و"المنطقة المجاورة/الجوار"، و"الخارج القريب". ثالثًا: تتسم بأنها ذات وجهة مستقبلية. فهي تُقدم رؤًى متعمقة حول السلوك المحتمل للدول لأن مصالحها لا تشهد أي تغيير جوهري. تحتاج الدول إلى تأمين الموارد، وحماية أراضيها الإقليمية، بما في ذلك المناطق الحدودية، وإدارة شئون سكانها. ومن شأن الرئيس الروسي بوتين والرئيس الأمريكي ترامب أن يجدا الجيوسياسية قضيةً مثيرة للاهتمام. ولكنهما ليسا الوحيدَين في هذا الصدد. فقد اجتذبت سمة الوضوح التي تتصف بها الجيوسياسية كلًّا من الشعبويين والأيديولوجيين والثوريين والمفكرين المناهضين للديمقراطية.

ويتساءل: لماذا تظهر الجيوسياسية على الساحة في الوقت الراهن؟ ويقول "نحن هنا نلفت الانتباه إلى عالم يبدو مختلفًا تمامًا عما كان عليه في تسعينيات القرن العشرين، حين توقَّع البعض نهاية الجيوسياسية التنافسية/ القائمة على المواجهات. كنَّا قد وصلنا إلى نقطة جيدة غير مسبوقة على الإطلاق. وكان من شأن الانتشار العالمي للديمقراطية وانتصار رأسمالية السوق والعولمة الثقافية أن تجعل الأمر يبدو عتيقًا. كان من المقرر أن يخضع الاتحاد السوفييتي والصين، باعتبارهما آخر معاقل الشيوعية، لعملية تحول؛ ومن ثَم يكتسبان هويتهما الرأسمالية والديمقراطية. كنَّا بصدد مواجهة نهاية التاريخ. هكذا قيل لنا: مرحبًا بكم في عالم جديد رائع من "الجيواقتصادية" وفرص خلق الثروة في ظل الرأسمالية العالمية الليبرالية الجديدة. لم يكن التحول كاملًا تمامًا كما كنَّا نأمل، حتى إن شهدت الصين ودول أخرى تحسينات ملموسة من ناحية توليد الثروات وتوزيعها. وفي حالة روسيا، أدت صدمة الليبرالية الجديدة إلى تغيير سريع بالإضافة إلى مكاسب هائلة في الثروات لصالح بعض رجالات الصناعة والمسئولين ذوي الصلة بأصحاب النفوذ. أما المواطنون العاديون فقد تفاوتت أحوالهم.

ويضيف دودز أن هجمات الحادي عشر من سبتمبر، والحرب على الإرهاب هزت ثقةَ الغرب السائدة في نهاية التاريخ ونهاية الجغرافيا. وتورطت الدول الغربية في حروبها الخاصة، وبرامج المراقبة الجماعية، وعمليات مكافحة الإرهاب. وزادت الأزمة الاقتصادية، بدايةً من عامَي 2007 / 2008 وما بعدهما، الشعورَ بالارتباك أكثر فأكثر. وفي عام 2014 في مجلة "فورين أفيرز"، أعلن الكاتب الأمريكي والتر ميد لقرائه بأن "الجيوسياسية عادت من جديد". كانت كل من روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية تتحدى النظام الدولي بقيادة الغرب. ولكن أظن أن ما جعل هذه "العودة" تبدو أكثر تأثيرًا هو شيء سبقَ أن حذَّر منه الرئيس جيمي كارتر في يوليو 1979. تحدَّث كارتر عن فقدان الثقة في السمات المُسلَّم بها للدولة الديمقراطية الليبرالية. لم يكن الناخبون الأمريكيون راغبين في سماع رسالته، لكن بعد مرور عدة عقود بدا أنها تعبر عما جرى من فقدان للثقة بعد انتهاء الحرب الباردة. وصارت نبرة الجيوسياسية الغربية الآن أكثر تشاؤمًا على نحوٍ ملحوظ؛ فالحواجز والأسوار والجدران تنتشر في شتى أنحاء العالم.

يعرض دودز مسارَين أساسيَّين لفهم مصطلح الجيوسياسية، أولًا: هناك الجيوسياسية الكلاسيكية. وتركز على العلاقات المتبادلة بين المصالح الإقليمية وسلطة الدولة والبيئات الجغرافية. ومن الشائع أن يرى الكُتاب ورجال الدولة الجغرافيا عنصرًا ثابتًا وحتميًّا، يُشكل بقوةٍ الخيارات السياسية للزعماء. وقد تحدَّث الرئيس الفرنسي، شارل ديجول، نفسه عن "القوة الحاكمة للجغرافيا". المسار الثاني هو الجيوسياسية النقدية، التي تميل إلى التركيز أكثر على دور الخطاب والأيديولوجية. ومن ثَم، بدلًا من تصور الجغرافيا على أنها حتمية، يُنظر إلى الجغرافيا على أنها أكثر مرونة وعُرضة للتأويل والتفسير. فإذا كانت الجيوسياسية الكلاسيكية تركز على الأراضي الإقليمية والموارد والموقع، فالمناهج النقدية تركز على كيفية التفاعلات بين البشر والنواتج المادية ﻟ "الجيوسياسية". وقد أكدت الأعمال الأخيرة في المسلك النقدي على أكثر السمات حميمية للجيوسياسية، وأوضحت أن الجيوسياسية ليست حكرًا على الدول والحكومات. ونقطة الالتقاء بين المسارين النقدي والكلاسيكي هي أن كلًّا منهما يتفق على أن للجغرافيا دورًا مهمًّا؛ أما ما يختلفان عليه فهو مدى أهمية هذا الدور ومكانه وسبب أهميته.

ويوضح أنه إذا كانت الجيوسياسية تُقدم بالفعل طريقةً مغريةً لرؤية العالم، فهذا غالبًا لأنها تعتمد على التبسيط والترميز المادي. وتلعب الخرائط دورها في ذلك. وتلعب المفاهيم التأطيرية الرائجة، مثل "نظرية قلب العالم" و"المحور"، و"القوس الجيوسياسي"، و"المناطق الحدودية"، دورها أيضًا. وسرعان ما يُقال لنا إننا لسنا بحاجة إلا إلى عدد قليل من الخرائط أو الأطر المفاهيمية لفهم العالم من حولنا. ويُروَّج للجيوسياسية باعتبارها دليلًا موثوقًا به للمشهد العالمي، ومع ذلك تستعين بأوصاف واستعارات ونماذج جغرافية معبرة، كتلك المذكورة آنفًا، والكثير غيرها من المصطلحات المستخدمة على مدى عقود مثل "الستار الحديدي"، و"العالم الثالث"، و"الدولة المارقة" أو أيٍّ منها. ويتسم كل مصطلح من هذه المصطلحات بكونه جغرافيًّا بطبيعته بمعنى أن الأماكن (وليس الحيز الجغرافي/المجال الجغرافي) محددة ومُصنفة على هذا النحو. ومن ثَم، يساعد ذلك في إنشاء نموذج بسيط للعالم، يمكن استخدامه لتقديم النصح والمشورة عند وضع السياسات الخارجية والأمنية، وللإسهام في المناقشات العامة حول المسائل الجيوسياسية. من المُتصوَّر أن الجغرافيا سلسلة من المواقع التي تتكشف فيها الأحداث البشرية ببساطة. ويصير هذا الأمر ملحوظًا أكثر في لحظات تكون فيها وتيرة التغيير سريعة ومكثفة. غير أن الجغرافيا ليست ثلاثية الأبعاد فحسب، بحيث تكون الأهمية للعمق والارتفاع بقدر ما تكون للسعة أيضًا، وإنما تشتمل أيضًا على العلاقات والنطاقات. فالمناطق الجغرافية لا توجد في عزلة تامة.

ويرى دودز تشابك الجيوسياسية مع أفكار وتجارب متعلقة بنوع الجنس والعِرق والميول الجنسية والطبقة الاجتماعية. فالجيوسياسية ذات طابع ملموس ومحسوس. وهي متعددة الجوانب. ويجب الاعتراف بأن التجارب اليومية للأفراد والاستراتيجيات التي يتعين عليهم اتباعها للتكيف مع العمليات والهياكل الجيوسياسية والجيواقتصادية تتنوع بشكل جوهري. تكتسب مفاهيم مثل الإقليم والحدود والنطاق الجغرافي معنًى مختلفًا عند النظر إلى حوادث الاغتصاب أثناء الحرب في جمهورية الكونغو الديمقراطية مقارنةً بهجرة الشباب من شمال أفريقيا إلى جنوب أوروبا. وإذا كانت الحدود السياسية العالمية أكثر تيسيرًا لمرور رأس المال مقارنةً بمرور الأفراد، فهي عمومًا أكثر تيسيرًا أيضًا لمرور الرجال مقارنةً بالنساء والأطفال. وكما لاحظت الباحثة النسوية سينثيا إنلو، يتعين ربط الجيوسياسية العالمية بالسمات الجغرافية اليومية للعلاقات بين الجنسين من أجل فهم أفضل للأثر المتفاوت للحدود الوطنية والأمن والنزاع والهجرة. وتُعَد الجيوسياسية النسوية مجالًا خصبًا للبحث الأكاديمي.

ويشير إلى وجود رابط بين الثقافة الشعبية والجيوسياسية. مؤكدا أنهما تُعَدان متلازمتَين لا يمكن الفصل بينهما؛ فالثقافة الشعبية ببساطة ليست مجرد نافذة تُطل على العالم الحقيقي للجيوسياسية. ويتابع موضحا " أن الثقافة الشعبية بأنها ذات طبيعة متفاوتة من الناحية الإبداعية، ومنتشرة من الناحية الجغرافية، ومتنوعة من الناحية التجارية، ومتعددة الأوجه من الناحية السياسية. وتشمل مناقشة إنتاج ومحتوى واستهلاك موسيقى البوب الكورية، وأفلام هوليوود، والرسوم المتحركة اليابانية، والصحف البريطانية، ومجلات الموضة الأسترالية، والإعلانات في جنوب أفريقيا، وألعاب الفيديو الإيرانية. ومع ذلك، يُعَد الاستخدام العالمي لوسائل الإعلام الاجتماعية مثالًا معبرًا آخر. يستخدم قرابة المليارَي شخص موقع فيسبوك بانتظام، إلا أن الأغلبية الساحقة منهم موجودة في أوروبا والأمريكيتين وأجزاء من أفريقيا وأوقيانوسيا. ونظرًا لأن موقعَي فيسبوك وإكس محظوران في الصين، يعتمد مستخدمو الإنترنت هناك على شبكات اجتماعية شهيرة أخرى مثل "كيو زون" و"كيو كيو" و"وي شات"، في حين يستخدم الموجودون في روسيا منصتَي "فيكونتاكتا" و"أدناكلاسنيكي". تفرض الرقابة والسيطرة الحكوميتان على المؤسسات الإعلامية في الصين وروسيا، وكذلك إيران وكوريا الشمالية، قيودًا على المواطنين لمنعهم من الوصول إلى وسائل الإعلام والمنصات الرقمية الغربية، وبذلك تحدُّ من تدفق المعلومات والثقافة. وتروج روسيا وإيران لشركتَي الإنتاج التلفزيوني الحكومي التابعتَين لهما، وهما شركة آر تي وشركة بريس تي في على الترتيب

ويلاحظ دودز إن إنتاج وتوزيع واستهلاك الأخبار والمواد الترفيهية غير متكافئ بطبيعته، حيث إن بعض العناصر الفاعلة والمجتمعات أكثر قدرةً على الإنتاج والتوزيع والوصول إلى مصادر مختلفة. عند الحديث عن إنتاج الأخبار الرسمية، غالبًا ما تلوح في الأفق شركات كبرى مثل سي إن إن، وتايم- وارنر، وفوكس، وبي بي سي. وهي شركات مهمة للغاية من حيث تحديد محتوى البث وجدولة مواعيده، بغضِّ النظر عن أنظمة الحكم الوطنية والدولية، التي يمكنها أن تمارس، وتمارس بالفعل، قدرًا من السيطرة على بيئات الجمهور. تساعد التقارير الصحفية، والبث التلفزيوني، والبودكاست على الإنترنت، في تحديد الأشخاص والأماكن والأحداث التي تُعَد جديرةً بالتغطية الإخبارية. ومن ثَم تؤثر تلك الخيارات على ردود أفعال المشاهدين، تجاه القصص الإخبارية عن الضحايا والجناة، والمستغِلين والمستغَلين، وأفراد وجماعات بعينها، ومجهولين. وعلى الرغم من التوسع الهائل فيما يُسمى بصحافة المواطن وتقنيات الهواتف الذكية، فإن منتجي الوسائط الإعلامية مثل بي بي سي لا يزالون يتمتعون بأهمية كبيرة من حيث كيفية تقييم موادهم الإذاعية والحكم عليها. وتختلف ثقافات وسائل الإعلام بشكل كبير من مكان إلى آخر. ولكن الأطراف الفاعلة الأحدث عهدًا، مثل جوجل وفيسبوك وأمازون ونتفليكس، تغير وجه وسائل الإعلام التقليدية، وتتحدى مقدميها بالإضافة إلى مقدمي الأخبار الرقمية. ويستطيع العديد من المواطنين من مختلف أنحاء العالم الوصول إلى الأخبار من خلال موجز الأخبار الذي توفره منصات إعلامية مثل فيسبوك، الذي يضم مليارَي مستخدم. وإذا كانت الخوارزميات تشكل موجزات الأخبار هذه، فقد يكون منطقيًّا أن نتساءل كيف يؤثر ذلك على نوع الوصول إلى الأخبار ونمطه.

ويؤكد إن السلطة الجيوسياسية لوسائل الإعلام الاجتماعية والأكثر تقليديةً لا تكمن فقط في طبيعة البث نفسه، بل أيضًا في الطريقة التي يتم بها تأطير الأحداث والأشخاص والأماكن وطريقة اختيارها والتفاعل معها. كما أنها تثير قضايا مهمة تتعلق بمدى مشاركة المعلومات نفسها وإمكانية الوصول إليها في عصر أصبحت فيه خدمات البث الحكومي أقل أهميةً، ومن الممكن فيه تقويض الأخبار والمعلومات من خلال التلاعب بالصور، والتكسب من جمع البيانات الشخصية، ونشر الأخبار المزيفة وتداولها. يمكن أن يؤدي تداول الصور والبث الإخباري أيضًا إلى استفزاز الحكومات والحركات الاجتماعية وغيرها للمطالبة باتخاذ إجراء. ولربما يكون المشاهدون قد تفاعلوا بالتواصل مع أصدقائهم للتعبير عن تعاطفهم، أو كتابة رسائل إلى الصحف، أو إرسال رسائل بريد إلكتروني إلى الإدارات الحكومية، أو تداول صور الفيديو، أو بدء حملات على فيسبوك، أو نشر تغريدات على موقع إكس. ولذلك، يمكن بطرق مختلفة أن تثير تمثيلات الأماكن والأشخاص جميع أنواع ردود الفعل العاطفية والمطالبات باتخاذ إجراءات سياسية. تتناول الجيوسياسية الجماهيرية ما يُبَث وكيف ينتج الجمهور المواد السمعية والبصرية ويتداولونها ويتفاعلون معها.