وايلد في مرايا الأسدي بترجمة للأعمال الكاملة بخلفية نقدية

الدكتور عبدالستار عبداللطيف الأسدي يرى ان صاحب رائعة 'مروحة السيدة وندرمير' لم يكن مجرد كاتب ساخر أو صانع حكايات رمزية بديعة بل ناقدا لاذعا للمجتمع الفيكتوري ومجددا في شكل القصة القصيرة.

يُعد أوسكار وايلد أحد أبرز كتّاب الأدب الإنكليزي في القرن التاسع عشر، ويُعرف بأسلوبه الساخر والذكي، واهتمامه بالجمال والفن كقيمتين مركزيتين في الحياة. ورغم شهرته بمسرحياته مثل "مروحة السيدة وندرمير" و"امرأة لا شأن لها" و"أهمية أن تكون صريحا"، وروايته الوحيدة "صورة دوريان كرييه"، إلا أن قصصه القصيرة تُعد من أبرز ما كتب، لما تحمله من عمق رمزي، وجمال أسلوبي، ورسائل إنسانية وأخلاقية خالدة.

الناقد العراقي د.عبدالستار عبد اللطيف الأسدي أستاذ الأدب الإنكليزي بجامعة البصرة، ترجم أخيرا الأعمال القصصية الكاملة لـ "وايلد" مقدما لها بدراسة تحليلية تناول فيها أسلوبه السردي الرمزي والجمالي، والقضايا الإنسانية التي تتناولها مثل: الحب والتضحية، الأنانية والخلاص، الجمال والقبح، والروح والمادة. مؤكدا أن إن هذه الأعمال ليست مجرد مجموعة من القصص الجميلة، بل هي مرآة لروح إنسانية سامية، تسائل العالم وتنتقد مظاهره الزائفة بلغة شاعرية أخّاذة.

جل هذه القصص القصرة قد نشر فرادى في أواخر ثمانينات وفي تسعينيات القرن التاسع عشر الميلادي في دوريات وصحف انجليزية مختلفة، ثم جمعها وايلد فسه في مجلدات ثلاثة وبعناوين اختارها بنفسه، وقد حافظ المترجم على العناوين ذاتها، وقد جاءت كالتالي: الأمير السعيد وقصص أخرى، منزل الرمان و وقصص قصيرة أخرى، جريمة اللورد آرثر سافيل وقصص أخرى.

يؤكد عبدالستار أنه عرف عن أوسكار وايلد هيمنته على صياغة جمله واختيار مفرداته وتحديد أفكاره وتوظيف الظروف الاجتماعية في فنه معتمدا على حسه الأدبي الرفيع ولغته الجميلة وعلى تمكنه من أدوات أسلوبية من طرافة وتورية ومفارقة وسخرية في استقطاب القراء من كل أصناف وطبقات المجتمع الإنكليزي في عصره. الأمر الذي يفصح عن قدرة الكاتب على نسج حكاياته وبناء شخصياته واختيار موضوعاته، وعن ذكاء متقد في توجيه أصابع النقد، من خلالها إلى الظواهر السلبية في المجتمع الفكتوري الإنكليزي عامة، والطبقة الارستقراطية وحياتها المخملية وعقليتها المنافقة وتفاهتها وسطحيتها وانتقائيتها خاصة.. وإن القارئ ليشعر أن خلف هذه الحكايات يد تدري ما تخط وتعي ما تكتب وتعلم ما تصنع.

ويضيف إن وايلد كان دائم التجريب في السرد والطرح والحبك والموضوع والتقنيات المستخدمة، مثلما كان دائم التطوير لذاته، فهو يكد ويتعب ويقرأ ويطلع ويجمع مصادره الحقيقية وينقب في الكتب المرموقة والموسوعات المعروفة إن احتاج، مثلا، إلى وصف شلالات النيل في أسوان، أو قطعة رخام في أرضيات مرمر في بلاط ملك إسبانيا أو منمنمات صغيرة طعمت بها علبة مجوهرات، أو مرآة كبيرة معلقة على أحد الجدران، أو لوحة زيتية لفنان فرنسي أو إيطالي أو إسباني أو كرسي فخم كأنه عرض، أو حديقة غنا في قصر من القصور، أو مقبرة في إحدى الكنائس القديمة، أو ستائر جميلة في الة ملكية، أو آنية زهور، أو أثاث فخم، أو بوابات مدن تاريخية، أو أهوار ومستنقعات وأنواع من الطير وأنواع من الحشائش وأنواع من الزهور والسحالي والبراري البعيدة، أو مسلة مصرية اسمها (إبرة كليوباترا)، أو قيصر روسيا بطرس العظيم وقد تنكر بصفة نجار في حوض لبناء السفن بانجلترا، دون علم سفارته.. وتطول القائمة في هذا المزج الجميل بين الواقع والحكاية الخيالية التي يقدمها للقارئ؛ ثم إنه يشعرك بأنه يسوح بك في كل كل الأماكن: في المدينة وخارج المدينة ـ فيريك باريس ولندن وإيطاليا، والبيكاديللي والهايد ـ بارك، ويزودك بأسماء الشوارع والمحال التجارية وأنت تتنقل معه وتستكشف معه طرق المدنية وهو يدلف في أزقتها، أو عندما يجلس في مقاهيها ويشرب الشيشة وأقداح النبيذ، أو عندما ينتظر في ساحاتها العامة وحدائقها المشاعة، أو عندما يضطره الأمر إلى ركوب العربات التي تجرها الخيول المتعددة أو العربة التي يجرها جواد واحد، وتراه أحيانا في الغابات، في رحلة بعيدة إلى الشرق ويبين الأحراش، أو قد تراه في البحر، يستقل الجندول وينزل في فندق تتلاطم الأمواج عند درجاته في البندقية، وقد ينقل لك حوارا مع الأشباح أو حديثا للإنسان مع روحه، بعد أن ضاق بها أو ما يراه قارئ في كف راحة يد اللورد آرثر، فيضطره إلى ارتكاب جريمة أو ربما جرائم.

ويوضح أن كل ذلك كان يدفعه إلى مراجعة موسوعات ضخمة في المكتبات العامة، باحثا عن اسم مادة أو عن مقالة عن السموم، أو إلى التعامل مع صناع المتفجرات، أو مع أحد المطلوبين الروس للنظام القيصري، وكل ذلك في وصف دقيق، كأنه الكاميرا، شأنه في ذلك شأن روائيي عصره الكبار، أمثال تشارلز ديكنز وتوماس هاردي وشارلوت وإميلي برونتي وإليزابيث كاسكيل وآخرين، وربما فاقهم جميعا في التجريب والقدرة على تنويع نتاجه الأدبي، مثلما فاق كتابا وشعراء آخرين من العظماء في نقد السلطة الحاكمة ووضع اليد على مثالبها وتعريتها أمام الملأ، كما فعل الشاعر شيلي في قصائده مثل "الملكة ماب"، و"ثورة الإسلام" و"انتصار الحياة" وغيرها، إذ لم يبق شيئا في التراث الإنكليزي لم يوجه إليه الاتهام والسخرية والنقد ضاربا عرض الحائط بالمحرمات والتابوهات كلها ـ من دين وكنيسة وزواج حر غير مقيد وغير ذلك من القضايا المثيرة لاهتمام الشاعر المتمرد شيللي؛ وكذلك فعل مواطنه الشاعر الرومانسي اللورد بايرون الذي قاده التمرد إلى اليونان ليقاتل الجيش العثماني ويموت هناك؛ وكذلك فعل الفيلسوف والموسوعي والناقد جون رسكن الذي رأى أن فساد الفن وتردي القيم وتدهور الذوق، وكل ذلك مظاهر تنم عن فساد السلطة الساسية وتعفنها، وكذلك فعل أيضا المسرحي الساخر جورج بيرنارد شوف الذي رأى ضرورة التحول إلى الاشتراكية بطريقة تدريجية وهذا ما أطلق عليه اسم المذهب الفابي وهو مؤسسه. أقول إن أوسكار وايلد بز هؤلاء جميعا في هجومه على السلطة وتعريتها وكشف أكاذيبها وترهاتها أمام أبناء الطبقة الأرتقراطية أنفسهم أولا، ثم أمام طبقات المجتمع برمته ثانيا، علما أن كل هذه الأسماء تنتمي إلى الطبقة الأرستقراطية، ثم إنهم جميعا أيرلنديون، ولكن وايلد بزهم في النقد وبزهم في الإلحاح المستميت على النقد وواصل حثيثا فيه.

ويرى أن وايلد انتهج التجريب في أساليب كتابته القصص القصيرة، فقد كتب قصصا تبدو في ظاهرها موجهة إلى الأطفال، مثل "الأميرة السعيدة"، و"أنثى العندليب والوردة" و"العملاق الأناني"، بينما انتهج أسلوب البحث الأكاديمي في قصة "صورة صاحب الحرفين (واو) و(هاء)" لتأتي القصة مفعمة بملعومات غنية عن موضوع جرئ لم يتطرق إليه أحد قبله وليميط اللثام عن أسرار ويكشف ملابسات في قراءة متمعنة وتبصر عميق في كل ما كتب شكسبير من سونيتات باحثا بين إلغازات ما دأب شكسبير على الاشارة إليه في السونيتات نفسها أو في الاهداءات التي تتصدرها عن الهوية الحقيقية لصاحب الحرفين "واو"، و"هاء" ومن يكون وهل هو رجل أم امرأة؛ ويعد وايلد من رواد القصة التي اتخذت شكل البحث العلمي وبأسلوب شائق وممتع يطرح الفرضيات ويجمع المادة والبيانات ويقارن ويحلل ويناقش ويتوصل إلى نتائج ملزمة. فتراه يقرأ كتابا في النهضة الفنية في البلاط الفرنسي من تأليف الكونت دي لابورديه في عام 1855 حين احتاج إلى وصف أعمال الفنان فرانسوا كلاوو في هذه القصة، ويراجع أنطولوجيا شعرية بعنوان "بارناسوس إنجلترا: باقات زهر مختارة من شعرائنا المعاصرين".. وورد ذلك في هذه القصة التي أخذت من وقته وجهده الكثير كما يبدو من التحضير لها والإعداد لمعطياتها، حتى إنه راجع كتاب "مفاتيح سونيتات شكسبير" للناقد الألماني دي باسورف وهو مكتوب بالألمانية، ولكن المؤلف الإنكليزي أدموند داودن اقتبس منه الكثير حين ألف كتابه "سونيتات شكسبير" الذي طبع عام 1881 ولا شك أن وايلد اعتمده عندما كتب هذه القصة، وهناك بالطبع كتب أخرى راجعها وايلد وهو يعد مادته لقصة "عيد ميلاد الإنفانتا" وقصة "جريمة اللورد آرثر سافيل" وقصة "شبح كانترفيل"، ففي قصة الإنفانتا، استعان بكتاب يوضح لوحة اسمها "رقصة الموت" للفنان هانز هولباين.

ويشر إلى أن وايلد ربما لجأ إلى أسلوب آخر حين يجرب الكتابة عن الجريمة والغموض، وبطريقة تختلف عما كان في وقته الكاتب آرثر كونان دويل ـ مبتكر شخصية شرلوك هولمز ـ  يفعل  في محاولات المحقق كشف خيوط الجريمة من آثار بسيطة تغيب عن البال إلى أن يتوصل إلى الحقيقة الكاملة، كما تختلف عما سوف تختطه مواطنته أجاثا كريستي لاحقا في جل ما كتبته في حقل الجريمة وكشف أسرارها. إن لأوسكار وايلد بصمته المميزة في سرد حيثيات الجريمة ومتطلباتها حين يربطها بالقدر والمصير المحتوم للمنفذ الذي لا يصفه بالمجرم البتة بل يجعله يبحث عن ضحاياه كما يبحث عن وسائل التنفيذ ويزوده بالمبررات العقلية والنفسية والاجتماعية، الأمر الذي يجعل وجهة نظر القارئ حيادية، كما في قصة "جريمة اللورد آرثر سافيل".

ويتطرق إلى خصائص أخرى في أسلوب أوسكار وايلد السردية، لافتا إلى كثرة إشاراته إلى فلسفته في الفن، وإلى وجهة نظره في ما ساد عصره من مظاهر لا تمت إلى الجمال بصلة، ومن ذلك دفاعه عن رأيه في أن الفن كذب فني، واستطراده في العلاقة بين المنفعة والجمال المطلق كما في قصة "الأمير السعيد" أو انتقاده للمدرسة الواقعية والمدرسة الطبيعية أو في وقوفه ضد التكلف والتصنع والنفاق مقابل الصدق والجوهر والإخلاص، كما في قصة "أنثى العندليب والوردة" أو تركيزه على التناقض بين الأقول والأفعال، أو في نقده الحثيث لأخلاقيات المجتمع الفيكتوري خاصة والمجتمع الإنكليزي عامة كما في قصة "الصديق الوفي" وإشارته في القصة إلى رأيه الشجاع والصريح في أنه "لا يوجد كتاب أخلاقي بهذا الوصف كما لا يوجد كتاب لا أخلاقي"  مما يعكس ما سبق له أن نشره في مقال بعنوان "تدهور الكذب وانحلاله"، علما أن في العنوان مفارقة ساخرة مقصودة واستهزاء بمجتمع عاش على الكذب والرياء.