ضُربت إيران فهل ستشتعل الجبهة العراقية؟
لم يكن قرار الميليشيات العراقية في التوقف عن قصف القواعد العسكرية الأميركية تعبيرا عن نصرة غزة مفاجئا. لقد تزامن ذلك القرار مع الإقبال الإيراني على المفاوضات المتعلقة بملفها النووي. خشيت إيران أن يُربك عراقيوها إجراءات كانت تعتقد أنها ستسير لصالحها. هدّأت إيران جبهة العراق أيضا لأنها كانت تخشى من أن تتخذ الولايات المتحدة قرارا بإنهاء هيمنتها على العراق فيكون ذلك القرار جزءا من التسوية النهائية.
من جهة أخرى فإن زعماء الميليشيات كانوا قد شعروا بالخوف على أنفسهم من الاغتيال بعد أن شهدوا عمليات الانتقام المتقنة التي نفذتها إسرائيل التي استهدفت عددا كبيرا من قيادات حركة حماس وحزب الله في وقت قياسي. كان قرار الانسحاب من مبدأ “وحدة الساحات” إيرانيا عراقيا مزدوجا أخرج العراق من الحرب بحيث صار رئيس الوزراء العراقي يتحدث بطريقة مخاتلة عن إسناد غزة في الوقت الذي لم تعد إسرائيل معنية بالجبهة العراقية بقدر اهتمامها بجبهتي غزة ولبنان مع الاستمرار في الرد المتقطع على جبهة اليمن التي تظل في كل الأحوال بعيدة.
ربما لم يكن قرار تهدئة الجبهة العراقية إيرانيا خالصا. ذلك لأن إيران والولايات المتحدة تختلفان في كل شيء إلا في ما يتعلق بالشأن العراقي الذي يحظى باتفاقهما. وعلى أساس ذلك الاتفاق تجري العملية السياسية ويتمكن النظام السياسي من الاستمرار وتحظى الأحزاب الحاكمة بالدعم ويتم تمرير صفقات الفساد الكبرى من غير خوف من العدالة التي تم تغييبها في إطار قانوني. فالولايات التي صنعت النظام السياسي الجديد في العراق هي شريكة إيران في رعايته وتحصينه والدفاع عنه في مواجهة أي انقلاب شعبي محتمل عليه. ولأن الولايات المتحدة غير راغبة في التشويش على الحرب التي خاضتها إسرائيل في غزة ولبنان فإنها طلبت من إيران أن تضبط ميليشياتها في العراق لكي لا تضطر إسرائيل إلى توسيع حربها. أما حين استجابت إيران لذلك الطلب فإنها كانت تفكر في شيء آخر يتخطى مسألة حماية زعماء ميليشياتها في العراق. كانت إيران دائما تفكر في المكافأة الأميركية. العراق هو تلك المكافأة. لم تخذل الولايات المتحدة إيران في ذلك على الرغم من كل العقوبات.
ومَن أتيحت له فرصة التعرف على المشهد السياسي العراقي لا بد أن يدرك أن الميليشيات على الرغم من شعاراتها المذهبية التي تقدم المصلحة الإيرانية على المصلحة العراقية صارت تتمتع بمكتسبات السلطة التي لا تخضع لقانون، وهو ما أتاح لها أن تعتبر الدولة جزءا من مشروعها الاستثماري. لقد تحول زعماء تلك الميليشيات الذين لا يزالون زعماء حرب إلى رعاة لإمبراطوريات مالية تتجاوز مساحتها المسافة التي تقع بين طهران وبيروت. في الماضي القريب كانت الميليشيات تتحرك في الشارع بطريقة مرئية غير أنها اليوم لم تعد في حاجة إلى ذلك بعد أن تمكنت من الاستيلاء على المفاصل الحيوية للدولة وهو ما يعني أنها استولت على الثروة. ذلك ما تفكر فيه إيران التي صار الاقتصاد العراقي جزءا من اقتصادها. لهذا سعت إلى تجنيب العراق ضربة إسرائيلية. يمكن لإيران أن تضحي باليمن غير أنها لا يمكن أن تضحي بالعراق. العراق هو خشبة إنقاذها. تعرف الولايات المتحدة ذلك وهو ما دفعها إلى الضغط في اتجاه تحييد الميليشيات في موقفها مما يجري في غزة.
غير أن ما كانت تخشاه إيران حدث. تلكأت في المفاوضات فرفع الجانب الأميركي حمايته عنها ووقعت الضربة الإسرائيلية. ضربة عنيفة فاجأت إيران بحجم خسائرها النوعية. وكما صار معروفا فإن الجانب الأميركي كان على علم بموعد تلك الضربة. لن تتأخر إيران في الرد. ولكن ما يهمني هنا السؤال الذي يتعلق بالجبهة العراقية؛ فهل ستعيد إيران حساباتها في اتفاق التهدئة على تلك الجبهة الذي عقدته مع الولايات المتحدة؟
من المؤكد أن العقل السياسي الإيراني سيضع في اعتباره ما حدث لنفوذه في لبنان وسوريا. وهو ما سيدفعه إلى عدم تكرار التجربة في العراق بغض النظر عن حماسات زعماء عدد من الميليشيات التي ستبقى في نطاق الدعاية ورفع المعنويات وحشد الولاءات المذهبية. وإذا كان الحوثيون قد دخلوا الحرب بتخطيط وتمويل إيرانييْن فإن ذلك لن يتكرر في العراق، فالعراق هو تاج الإمبراطورية التي قضت إيران أربعين سنة وأنفقت المليارات في بنائها وتم تهشيم الجزء الأكبر والحيوي منها في أقل من سنتين.
تعيش إيران اليوم حالة من الفزع الهستيري، غير أن ذلك لن يدفعها إلى أن تخسر العراق بسبب خطأ جديد.