إيران ما بعد قنابل ترامب
بصراحة إن هذه الحرب الخاسرة المُذلة المنهكة للطرفين الإسرائيلي والإيراني معا، هي حرب الرئيس الأميركي دونالد ترامب بامتياز.
فهو الذي هيأ ظروفها حين حدد لإيران مهلة ستين يوما للعودة إلى طاولة المفاوضات لكي تتلقى مطالبه الاستسلامية، ثم هددها بما لا يسر إن هي لم تأتِ ولم تعقل ولم تدع العناد.
ثم كان انتهاء مهلة الستين يوما بمثابة الجبنة التي أغرت رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وورطته في هذه الحرب التي أدمت يديه وقدميه، وأحرقت شعر رأسه، وجعلته يتوسل ويستغيث بحليفه ترامب لإنقاذه.
بالمناسبة هذه هي أول مرة في التاريخ تكون أميركا هي التي تستغل اليهود، وتحارب بدمائهم، لخدمة مصالحها، بعد أن كان اليهود، منذ عشرات السنين، هم الذين يحاربون أعداءهم العرب بسلاح أميركا وأموالها ورجالها.
أما ما أراده ترامب، وصبر وتكتك من أجل الحصول عليه، من إيران تحديدا، وتبعا من حكومات الشرق الأوسط قاطبة، ومنها إسرائيل، فهو إدخال الجميع إلى خيمة "أميركا عظيمة مرة أخرى" كرعايا، وذلك بدوافع اقتصادية وسياسية إستراتيجية، وتخصيصا من أجل انتزاع إيران من عدوّتيْه اللدودتين، روسيا والصين، واحتكار الطاقة والاستثمار، من الآن إلى زمن قادم طويل.
الآن، وفي ضوء وقائع الحرب وثبوت أن إيران بلا ناصر ولا معين، وبعد قنابل ترامب التي أمطرها على المفاعلات النووية الثلاثة، وأولها وأهمها مفاعل فوردو، لم يعد أمام النظام الإيراني سوى خيارين كلاهما سم؛ فإما مواصلة العناد والمغامرة بوجود النظام نفسه، والمقامرة ببقاء إيران دولة موحدة قابلة لاستعادة العافية، أو أن يدخل بيت الطاعة الأميركية مذعنا، وبلا شروط ولا مطالب، في نهاية المطاف.
وفي الحالتين سيتمكن ترامب من أن ينتزع من روسيا والصين حليفتهما الأهم والأغنى والأقوى في المنطقة.
يعني أن ترامب هو المنتصر في الحرب وليست إسرائيل التي نزفت دما غزيرا في غزة ولبنان وسوريا واليمن، ولا حكومة المرشد الأعلى التي أنهكتها الحرب وستبكي كثيرا وطويلا على موانئها ومطاراتها ومؤسساتها وبناها التحتية واقتصادها سنين طويلة قادمة.
لقد نُكبت إيران، فعلا، في قدراتها العسكرية وبرنامجها النووي، وفي قادتها العسكريين وعلمائها وأمنها القومي وكرامتها، إلى الحد الذي اضطر معه وزير خارجيتها عباس عراقجي إلى توسيط دولة ثالثة للحصول على موافقة إسرائيل على إقلاع طائرته من طهران متوجهة إلى جنيف للقاء وزراء خارجية بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وذلك لأن الفضاء الإيراني أصبح ملعبا حرا للطيران الإسرائيلي دون منافس ولا شريك.
ورغم كل ما تلقته إيران من خراب ودمار فقد أثبت النظام الإيراني أنه يمتلك قدرات عسكرية هجومية هائلة وفاعلة أدمت إسرائيل، وجعلتها تذوق لأول مرة طعم الكؤوس التي أشربتها لفلسطين ولبنان وسوريا والعراق واليمن، وتركتها تبحث عمن يعينها على وقف إطلاق الصواريخ والمسيرات، ولكن ليس قبل إبطال معداتها النووية، بقنابل الرئيس الأميركي أو بمواهبه التجارية، لإرغام العدو على العودة إلى طاولة المفاوضات، تسليم سلاحه، دون قتال.
وهذا ما يجعلنا نتساءل، لماذا لم تشترط إيران لوقف إطلاق صواريخها إلا سلامة مفاعلاتها، والسماح لها بتخصيب اليورانيوم، ولو بنسب مقنَّنة وتحت مراقبة دولية فاعلة؟ ولماذا لم تشترط، مثلا، تحرير القدس، أو نزع سلاح إسرائيل النووي، مثلما اشترط الراحل صدام حسين مقابل انسحابه من الكويت دون قتال؟
أو لماذا لم تشترط، مثلا أيضا، أن تتعهد أميركا بمنع نتنياهو من مهاجمة ما تبقى من حزب الله، أو حماس، أو الحوثيين، أو الحشد الشعبي في العراق؟
سؤال آخر أكبر وأخطر، لماذا لم يمطر الحرس الثوري إسرائيل بهذه الصواريخ والمسيرات عند أول غزو إسرائيلي لغزة، وقبل قتل كبار قادة الجهاد الإسلامي وحماس، وعشرات الآلاف من المدنيين الأطفال والنساء والشيوخ الفلسطينيين، أو عند اغتيال إسماعيل هنية في عقر دار إيران، في طهران، أو عند اغتيال يحيى السنوار في غزة؟
لماذا لم تطلق نصف هذا الطوفان من الصواريخ على مدن إسرائيل عند أول هجمة عدوانية إسرائيلية على حزب الله، لمنعها من اغتيال الآلاف من مجاهديها اللبنانيين، ثم اغتيال رجلها الأوحد المؤتمن في المنطقة، حسن نصرالله؟
ترى لو أمطرت إيران تل أبيب وحيفا والقدس بنصف الصواريخ الهدارة الجبارة التي شاهدناها ونشاهدها على شاشات التلفزيون، عند أول رد إسرائيلي على طوفان الأقصى، أو عند أول صواريخ إسرائيلية تدك المنازل والمخابئ والمستشفيات ومحطات الماء والكهرباء والوقود، في غزة، أو في لبنان أو في سوريا أو في اليمن، ألم تكن قد أوقفت نتنياهو عند حده؟ وألم تكن قد منعت طائراته ودباباته من تدمير غزة والجنوب اللبناني والضاحية؟
ثم، لو أمطرت مدن إسرائيل ومؤسساتها بكل هذه الصواريخ والمسيرات عند أول عدوان على غزة أو لبنان، هل كان نتنياهو سيتجرأ وسيغير بطيرانه على مؤسساتها ومعسكراتها ومفاعلاتها، وهل كان سيقدم على اغتيال قادتها وعلمائها، وإهانة كرامتها، وتدمير سلاحها ومفاعلاتها بعد أربعين سنة من بعثرة أموال الشعب الإيراني على أسلحة ومفاعلات، وعلى إعاشة ميليشيات، بالضد من إرادة الملايين من الإيرانيين المعوزين الذين انتفضوا مرات عديدة، ثم قسا عليهم النظام بأكثر مما قسا على إسرائيل؟
نعم لقد أدمت إيران تل أبيب وحيفا، وهدمت معسكرات ومطارات وعمارات، وحتى مستشفيات، وأنزلت ملايين الإسرائيليين إلى الملاجئ، وأجبرت الآلاف منهم على ركوب البحر هربا من صواريخ لم تكن في الحسبان. ولكن ماذا بعد أن حرثت قنابل ترامب ونتنياهو إيران من شرقها إلى غربها، ومن جنوبها إلى شمالها، واستنزفت صواريخها ومسيراتها وأموالها وموانئها ومطاراتها، وحرمتها من أية قدرة على الصمود وعلى التحدي والعناد؟ أشك في ذلك.