ترامب وإيران والتطبيع مع إسرائيل

ترامب يراهن على براغماتية الملالي. قال إن أجهزة بلاده تعلم جيدا مكان وجود علي خامنئي ومع ذلك لا تريد استهدافه. هذا يعني أن حياة الرجل القوي في طهران رهينة كلمة قد ينطق بها الرئيس الأميركي.

تساءل الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن إمكانية تغيير النظام في طهران بعد الهجمات العسكرية التي نفذتها بلاده ضد مواقع نووية إيرانية، حيث قال "ليس من الصواب سياسيا استخدام مصطلح تغيير النظام، لكن إن لم يكن النظام الإيراني الحالي قادرا على جعل إيران عظيمة مرة أخرى فلمَ لا يكون هناك تغيير للنظام؟" كانت رسالة ترامب واضحة ولا تخرج عن دائرة الإيحاء بصفقة يمكن للإيرانيين التقاطها دون تأخير.

اعتبر ترامب بعد تلك الهجمات أن مشروع إيران النووي انتهى، ومع ذلك أبدى إصرارا غير عادي على استئناف المفاوضات. السر وراء ذلك هو السعي إلى إقناع نظام الملالي بالانقلاب على نفسه، والخروج من جلبابه الثوري الديني، والاتجاه نحو الدولة المدنية العاملة على إنجاز مشروع تنموي عملاق يليق بمكانها ومكانتها، وبما لديها من إمكانيات وقدرات وثراء حضاري وثقافي، ودور إقليمي ودولي.

تخلّي النظام الإيراني عن عقيدته الثورية، يعني تخلّيه عن ثوابت تلك العقيدة بما في ذلك العداء لإسرائيل، والحديث عن تدميرها. هذا الهدف يعد من أولويات الأهداف التي يطمح ترامب إلى تحقيقها، مؤكدا "إنه واثق من أن السلام بين إيران وإسرائيل سيتحقق قريبا" وأن العديد من الاجتماعات تجري حاليا لدفع الاتفاق، مشددا على أن "إسرائيل وإيران في حاجة إلى اتفاق – وستحصلان عليه. سأعقد اتفاقًا بينهما، كما فعلت بين الهند وباكستان. سيسود السلام قريبا."

يراهن ترامب على براغماتية الملالي. قال إن أجهزة بلاده تعلم جيدا مكان وجود قائد الثورة الإسلامية في إيران علي خامنئي ومع ذلك لا تريد استهدافه. هذا يعني أن حياة الرجل القوي في طهران رهينة كلمة قد ينطق بها الرئيس الأميركي. يعني كذلك أن ترامب هو الذي يحول دون تهوّر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وإصداره قرار التصفية التي ستعد طعنة لكبرياء الحضارة الإيرانية التي طالما أشاد بها الغرب، ولا أحد يدرك بالتحديد حجم الآثار التي قد تنجر عنها في المنطقة، لاسيما أن إيران المتعددة عرقيا وثقافيا وعقائديا –ومذهبيا مهددة بالفوضى العارمة في حال تصدع جدار سلطتها المركزية.

لم يخف ترامب خشيته من ذلك، وأكد لمقربيه أنه لا يرغب في تكرار تجارب سابقة اعتبرها نقاطا سوداء في سجلات الحكام العابرين قبله من البيت الأبيض مثل غزو العراق وأفغانستان والتدخل المباشر في ليبيا. فالتجارب أثبتت أن الولايات المتحدة قوة تدمير رهيبة ولكنها غالبا ما تفشل في إعادة البناء. كما أنها غير قادرة على اكتساب ثقة شعوب الشرق الأوسط ولا على إقناعها بأنها تمتلك الحكمة في إدارة القوة وتدافع عن الحق من خلال ممارسة السيطرة.

في يناير 2025 كشف ترامب أنّ الولايات المتّحدة حدّدت 52 موقعا في إيران ستضربها "بسرعة كبيرة وبقوّة كبيرة" إذا هاجمت الجمهوريّة الإسلاميّة أهدافا أو أفرادا أميركيّين، وأكد أن بعض تلك المواقع هي "على مستوى عال جدّاً ومهمّة بالنّسبة إلى إيران والثقافة الإيرانيّة،" مشيرا إلى أنّ "تلك الأهداف، وإيران نفسها، سيتمّ ضربها في شكل سريع جدّا وقويّ جدّاً. الولايات المتحدة لا تريد مزيداً من التهديدات." جاء ذلك بعد أن أشرف ترامب بنفسه على خطة اغتيال قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي أبومهدي المهندس قرب مطار بغداد الدولي في واحدة من أكبر الضربات الموجعة التي تلقتها طهران وحلفاؤها في المنطقة.

قد يكون من المنطقي أن يتساءل المراقبون، عّما إذا كانت تلك الأهداف التي ذكرها الرئيس الأميركي هي ذاتها التي انطلقت إسرائيل في قصفها منذ 13 يونيو الجاري. الثابت أن التنسيق قائم بين الطرفين بقوة، وأن بنك أهداف تل أبيب لا يختلف عن بنك أهداف واشنطن. ثم إن الضربات التي وجهتها القاذفات الأميركية للمواقع النووية لم تأت فقط لتحمل رمزية المشاركة المباشرة وتبني البيت الأبيض لخيارات تل أبيب، وإنما لكسر الحاجز النفسي بإعلان الاندماج في المواجهة إلى حين تحقيق أهدافها التي لن تكون عسكرية فقط، وإنما سياسية بالدرجة الأولى.

سيكون من الغباء الاعتقاد بأن إسرائيل فاجأت الأميركان بهجومها على إيران، أو أنها تجاوزاتهم بالقرار، أو أن الولايات المتحدة لم تضع حلفاءها الشرق أوسطيين في الصورة أو لم تؤمّن تكاليف المواجهة. قد يختلف ترامب ونتنياهو تكتيكيا، قد تصطدم نزعتاهما النرجسية وميولاتهما الذاتية، ولكن منذ أول لقاء بينهما في فبراير 2017 أثبت الرجلان انسجاما أيديولوجيا وتوافقا سياسيا وتعلقا مشتركا بالأساطير التوراتية ورؤية موحدة لخارطة المصالح الوطنية لبلديهما والسياسية والشخصية لكلّ منهما.

في ديسمبر 2024، قالت صحيفة "وول ستريت جورنال" إن خيار الضربة العسكرية ضد المنشآت النووية في إيران يخضع لمراجعة أكثر جدية من قبل بعض أعضاء الفريق الانتقالي للرئيس ترامب ممّن كانوا يزنون سقوط نظام الرئيس بشار الأسد في سوريا، ومستقبل القوات الأميركية في المنطقة، وتدمير إسرائيل لميليشيات النظام بالوكالة حزب الله وحماس، حيث إن موقف إيران الإقليمي الضعيف والكشف الأخير عن العمل النووي المزدهر لطهران أثارا مناقشات داخلية حساسة، كما أن ترامب أخبر نتنياهو أنه قلق بشأن اختراق نووي إيراني أثناء إدارته، ما يشير إلى أنه يبحث عن مقترحات لمنع هذه النتيجة.

في تلك الفترة، قال ترامب في مقابلة مع مجلة "تايم" بخصوص احتمالات خوض حرب مع إيران إن "أيّ شيء يمكن أن يحدث." تبين لاحقا أن كثيرا من التدابير والإجراءات التي اتخذها الرئيس الأميركي كانت تهدف إلى تهيئة الظروف الملائمة لضرب البرنامج النووي الإيراني. في 12 أبريل 2025، بدأت الولايات المتحدة وإيران سلسلة من المفاوضات بهدف التوصل إلى اتفاق سلام نووي، في أعقاب رسالة من الرئيس ترامب إلى المرشد الأعلى علي خامنئي. حددت الرسالة مهلة شهرين لإيران للتوصل إلى اتفاق. بعد شهرين بدأت إسرائيل هجومها. في السادس من مايو، أعلن ترامب خلال استقباله رئيس الوزراء الكندي مارك كارني في المكتب البيضاوي أن الحوثيين أعلنوا عدم رغبتهم في الاستمرار في القتال، وقال إن "الحوثيين قالوا البارحة إنهم لم يعودوا يريدون القتال، وهذه أخبار جيدة،" وتابع "قالوا نرجوكم لا تقصفونا بعد الآن، ونحن لن نهاجم سفنكم. وسأقبل بوعدهم، وسنوقف قصف الحوثيين فورا." النتيجة: تحييد الحوثيين عن أيّ رد فعل ضد الأميركان.

موقف ترامب الداعم لسلطة أحمد الشرع في سوريا جاء لينهي عقودا من نفوذ الملالي، وليكشف عن توجيه تحالفات دمشق إلى ناحية مختلفة تماما، وليطرق باب التطبيع بقوة بين سوريا وإسرائيل ليس فقط بإرادة السياسيين ولكن كذلك بموافقة شعبية جارفة. من واجب إسرائيل أن تشكر نظام الملالي على مساهمته الفاعلة في إعادة تشكيل الرأي العام في المشرق العربي، وتحويله من كراهية مطلقة للدولة العبرية إلى تفكير عميق قبل الحديث عن عداء تاريخي معها. أغلب الطوائف باتت ترى أن دور إسرائيل يمكن أن يكون أفضل بكثير من دور إيران.

استعملت إسرائيل قوتها في فرض إرادتها، ونجحت في تحقيق الجزء الأكبر من أهدافها: قطعت أصابع الأخطبوط الطائفي وأغلقت الطريق أمام خارطة الطموحات التوسعية الفارسية، واتجهت لتضرب إيران في العمق ليس فقط من خلال قصف المنشآت واغتيال العلماء والقادة العسكريين، ولكن كذلك من خلال الكشف عن حجم التناقضات داخل المجتمع وداخل مؤسسات الدولة بواسطة اختراقات مخابراتية غير مسبوقة. فبعد قصف القاذفات الأميركية المنشآت النووية الإيرانية خاطب نتنياهو الرئيس ترامب "نقول دائمًا: السلام بالقوة. القوة أولاً، ثم السلام. والليلة، تصرّف الرئيس ترامب والولايات المتحدة بكل قوتهما".

قد يبدو للبعض أن ترامب يمكن أن يتراجع عن أهدافه التي يعلن عنها، ولكن في الواقع قد يتظاهر بنسيانها أو تجاهلها أو التراجع عنها، ليعمل على تحقيقها من وراء الستار وبالكثير من التركيز. من بين تلك الأهداف التي يعمل عليها حاليا بقوة: تحويل إيران إلى حليف للغرب والعودة بها إلى تراثها السابق للثورة الإسلامية، وإقناع قادتها بأن زمن الشعارات التوسعية والعداء لإسرائيل قد انتهى، وإذا لم يوافق النظام الحالي فإن البديل هو الإطاحة به، ليس بالضرورة الآن، ولكن بعد إنهاكه وإصابته بالعجز على الحركة وخاصة من خلال الاستمرار في القضاء على مؤسساته الأمنية والعسكرية العقائدية.