حيدر الحجاج في مجموعته الشعرية يعاين ضياع الوردة في غابة الأشواك

الشاعر يستهل 'الوردة بكامل هجرانها' بصورة الخذلان ويختتمها بعَبرة الهجران.

"على موعدٍ مع الوردةِ
ولكنها في كل مرّة
تخذلُ العطر
وتخذلني" ص/ 7

 
بصورة الخذلان هذه يستهلّ الشاعر حيدر الحجاج مجموعته الشعرية المعنونة "الوردةُ بكاملِ هجرانها" الصادرة عن دار المتن/2022.
المجموعة ضمّت 31 نصّاً مدوّناً بأسلوب قصيدة النثر وتنوّعت مضامينها بين الهمّ الذاتي الخاص والإنساني العام، مع استخدام الشاعر لتقنيات متعددة في كتابتها، فمع توظيفه للسيرة الشخصية والسرد، لجأ أيضاً لتقنية التداعي الحرّ والاستذكار والتكرار.
وكان ثالوث - القنوط والحزن والإحباط - هو الملمح الأبرز والمهيمن على مساحة البوح الشعري في معظم نصوص المجموعة، فلا يكاد يخلو أحدها من عديد المفردات التي تعبّر عن ذلك الإحباط والأسى.

وكمثال على ذلك، نقرأ في نصّ واحد جاء بعنوان "لازلتُحيّاً" "عديد الكلمات التي تعبّر عن الفضاء الكئيب الذي تحلّق فيه هذه النصوص: الموت، الجحيم، الدموع، الخطوب، الكدر، الوجع ..إلخ" يقول في أحد مقاطعها:
"أموت وأحيا
وأعيد تكرار القصيدة
التي تتحدث عن الموت والحياة
وتحكي قصة الفارين
من الفردوس
الى الجحيم" ص / 102

وفي مقطع آخر من  ذات النص:
"ما هاج  فينا  منكَ
إلا دموعاً
قد فاض منها
كلّ منكدر"

ومن الطبيعي أن يكون الانزياح إلى هذه الأحاسيس المعبّرة عن الاستياء والألم  واليأس هي السمة الأبرز في النصوص التي تنهل من  كوارث ومآسي الحروب وخساراتها ومن تجارب الحبّ الفاشلة ومراراتها ومن فقدان الأحبّة والأصدقاء، فضلاً عن الحنين إلى أيام الطفولة والصبا، وهذه هي الموضوعات التي تأثر بها الشاعر لينتج لوحاته الشعرية المعبرة عن تفاعله مع تلك الأحداث والتجارب.

 وإذا ما  قايسنا  نصوص "الوردةُ بكاملِ هجرانها"، بين مقولة ابن طباطبا (صاحب عيار الشعر): "أعذب الشعر أكذبه"، ومقولة الآمدي (صاحب الموازنة): "أجود الشعر أصدقه"، فإنّ الكفة ستميل إلى مقولة الأخير، وتحديداً فيما يخص الصدق، فلقد كان الحجاج أميناً في تحري الحقيقة وهو يرسم نصوصه بريشة الصدق المغمّسة بمداد الواقع المعيش، بعيداً عن التزييف والمبالغات الكاذبة .
 سردنة الشعر
يجرّب الحجاج في عدد من نصوص هذه المجموعة استرجاع مقتطفات من سيرة حياته ونظمها شعرا، مُستنداً على ما اختزنته ذاكرته من شخصيات وحوادث ومواقف عاصرها وتفاعل معها، يقتبس نتفاً منها ليضيئها شعرياً، ويراهن في هذه النصوص على السرد التعبيري للوصول إلى القارئ بسهولة مستخدماً طريقة تمزج بين السرد والشعر وبأسلوب يقترب من النصوص الحكائية. أوضح مثال على ذلك نص "صحائف الماجدية وهي تورقُ عسلاً" الذي اتسم بتوسيع رقعة السرد في مساحة الشعر، نعاين مقطعين منه حيث يقول :
"وأبو زهير  حين يكون قبالة
تهريجنا ونحن نهرع هروبا
عند قرع الجرس الاخير
لنسرق حلواه الممزوجة
بحنين تلك الأزقة" ص /55

"وجدتي موشة
التي تهدينا  ابو العسل
غادرت هي ايضا
وهي مبتسمة
غير ان وشم يدها
سقط عند حافة الباب" ص/ 56

كتاب

تباين القيمة الفنية والجمالية

اللافت في هذه المجموعة، تذبذب الخط البياني لقوّة الشِعر وبريقه، فبجانب  النصوص المتألقة المشحونة بجماليات اللغة وطاقاتها التعبيرية وحسن توظيف الشاعر للترميز والتلميح والمراوغة بما يستفّز ويحفّز ويصدم وعي المتلقي، نجد نصوصاً أخرى لا تعدو خواطر مرسلة، تتضمن مقاطع تفتقد لمعظم هذه المقومات مع انزلاقها إلى التسطيح والتقريرية الرتيبة وسقوطها في المباشرة الفجّة .
فضمن النص الواحد نقرأ مقاطع مُبهرة تتوهج بشعريّة لامعة، تجاور مقاطع سطحيّة باهتة، ونعتقد أن هذا من مخرجات استرسال التدوين غير المنضبط، حين يفقد الشاعر السيطرة على فيض انثيال الكلمات .
فحين تزخّ غيمة البوح بِوَدق شجونها في كأس الكلام ويفقد الشاعر التحكّم والسيطرة على مشاعره وانفعالاته ويدعها تتدفق بلا ضابطة فتفيض، عند ذلك ينزلق التعبير إلى فضاء المباشرة بأجنحةٍ عارية من رياش الشعر الساحرة ليسقط  في ساحة التقريرية سطوراً لا دفء ولا نبض فيها، مفتقداً لتلك الشحنة العاطفية التي تعد جوهر الشعر، كما في الأمثلة التالية  :
مقطع من نص "ما يحدث الآن":  
"الكهنة   أغلقوا المسارح 
وكتبوا على مدوّنات
يوسف العاني
بأنها الإلحاد ذاته
خشية أن  يزاحمهم
على نشر التوعية" ص / 130

ومن نص "صَدَر البيان التالي":
"مباحون
أنتم وما تملكون
لنا
نحن كلاب المناصب" ص / 32
وفي نص "عند قبلة الحرب تنام أحلامنا":
"تلك أوزار الحرب  معلقة كنياشين
وأوسمة على مؤخرات
القادة الذين يخشون نسائهم
ويتبّجحون  على ضعاف الجنود" ص/ 19

هذه المقاطع المجتزأة من عدة نصوص والتي اخترناها كأمثلة، تفتقر إلى مقومات واشتراطات الشعر؛ كالمجازات التقليدية مثل التشبيه والاستعارة والكناية والترميز ...إلخ، كما لا يمكن تجنيسها من جهة البناء الفني والمضمون الدلالي ضمن مُسمّى  قصيدة النثر، وبالتالي فهي لا تعدو كونها انثيالات وخواطر إنشائية نثرية لا ترقى إلى مقام الشعر.

تكييف المفردة في سياق الجملة الشعرية هوالذي يشحنها بالبريق

في عالم القصيدة تستمد الكائنات حياتها بالرسم، ويتأتى ذلك بالطبع من خلال مهارة الشاعر في اختيار المفردات المناسبة والاحتفاء باللغة وتثوير فضاءاتها المجازية، ولطالما ارتقت كلمة واحدة بالجملة الشعرية إلى مستوى جمالّيٍ بديع ومُبهر .
ما يحسب للحجاج في عددٍ من نصوص هذه المجموعة مهارته المذهلة في توظيف المفردة ضمن سياق الجملة الشعرية بما يخلخل التصورات القارّة في ذهن المتلقي، صحيح أن للكلمة بحدّ ذاتها طاقة فاعلة وقوة مؤثرة، ولكنها حين توظف بذكاء في جملة ما، ستجترح دلالات مبتكرة ما كانت لتخطر على البال .
ولنلاحظ تأثير مفردتي "تلبط" و"كلمات" في هذا المقطع من نص "خرائط أعمارنا" كمثال :
"عن المصير الذي يبدأ غضّاً
وعن قصيدته الجامحة
يغنّون
هؤلاء الصبية المارقون
الذين  تلبطُ  من بين أصابعهم
كلمات الصيادين" ص /
81

فاختيار الشاعر لكلمة "تلبط" وليس "تنزلق"، كذلك إحالة الوصف إلى "كلمات" الصيادين بدل أسماكهم، أزاح الصورة وبالتالي المعنى من حقل الكلام الطبيعي المرسل والمكشوف إلى غابة الشعر كثيفة الظلال، إنّ الاختيار الموفق في تكييف المفردات ضمن سياق الجملة منح هذا المقطع جناحين ليحلّقا به في فضاء الشعرية بغموضه الساحر.

الحجاج الذي استهل مجموعته الشعرية هذه بصورة الخذلان، يختتمها بعَبرة الهجران في نصه الأخير "ما يحدث الآن":

"التاريخ الشخصي للوردة
ينحب  وتخنقه العبرة
بأكثر من ذلك
ولا  أعني العطر مطلقاً
أعني  زغب  الأغصان  على وجه التحديد
الزغب الذي  يحضر بمنزلة الشوك
وهو سيّد المشهد
وسيّد الوردة  وهجرانها"!!