
تقاطع الأنساق في رواية 'القدر صديق سيء'
بطل الرواية "حامد" شاب عراقي متعاطف مع حركة اليسار يقتل أخاه وهو يصاب بجرح سبب له العوق نتيجة تعرضهما لإطلاق نار من قبل الحرس القومي عام 1963 خلال محاولتهما تقصي أخبار ومصير أحد معارفهما اليساريين.. بعد العام 1968 ينتمي إلى حزب البعث الحاكم للحفاظ على حياته وعمله. يلتقي مصادفة بصديقه من أيام الدراسة "خالد" ليتعرف من خلاله على "دلال" ابنة "سميرة" عشيقة خالد، فيغرم بها ويتزوجها ويثمر زواجه عن ولده الوحيد "قصي".
دلال التي اشترتها سميرة العاقر وهي في اللفافة من إحدى القابلات هي ثمرة زنا وقد ارتبطت بعد أن نضجت بعلاقة حميمة مع "نزار" مفوض الأمن الذي تعرف عليها عن طريق قريبه خالد عشيق الأم. أحبته بكل كيانها ومنحته قلبها مع جسدها على أمل أن يرتبط بها رسميا، ولكنه كان يتعذر ويماطل وحين أخبرته بعرض حامد للزواج منها مقابل تسجيل كل أملاكه باسمها طرب للفكرة وشجعها على القبول واعدا إياها أنه سيدبر لها طريقة للانفصال عن حامد لاحقا ويتزوجها هو ليستمتعان معا بما ستتحصل عليه من حامد. وبالفعل دبر مكيدة لحامد بعد سنوات قليلة وأودعه السجن ليصفو له الجو مع دلال التي تطلق نفسها من حامد السجين وتبقى مع طفلها في كنف نزار الذي يستغلها أبشع استغلال مادي ومن ثم يطرد ابنها المراهق قصي الذي يضطر للعمل في عدة مهن لإعالة نفسه ثم ينحرف لممارسة السرقة وفي خواتيم الرواية يقتل نزار بعد القبض عليه في أحداث الانتفاضة عقب هزيمة الجيش في الكويت وبعد ذلك يقابل والده حامد في محطة القطار دون أن يتعرفا إلى بعضهما في طريقه للهجرة إلى خارج العراق.
سميرة التي يلقى القبض عليها للتحقيق معها إثر حبس حامد كونها من معارفه تشك بأن نزار وزبانيته المحققين هم من كان يغتصبها حين تفقد الوعي جراء التعذيب وبعد إطلاق سراحها تصارح دلال بذلك وتقطع علاقتها معها ومع عشيقها خالد الذي يهجرها ويتزوج ابنة عمه فتغير محل سكناها إلى منطقة لا يعرفها فيه أحد ثم تستشهد في الشارع إثر تفجير إرهابي.
حامد الذي يطلق سراحه قبيل اندلاع حرب الخليج الثالثة ينتهي به المطاف كهلا محطما منكسرا فاقدا للذاكرة بعد إصابته في حادث انقلاب حافلة كان يستقلها ويصبح مدمنا على الخمر والسجائر التي يستجديها من الآخرين فيبادر "أبوهشام" الذي كان يعمل فلاحا وحارسا في مزرعة حامد إلى العناية به ردا لجميل وإحسان الأخير له حيث وهبه دارا وفسحة من البستان في أيام عزه.
هذا هو ملخص رواية "القدر صديق سيء" لمؤلفها سلمان محمد جودة الصادرة بجزأين عن دار المتن – 2023، حمل الجزء الأول عنوانا فرعيا "رماد الامنية"، وتضمن 10 فصول بواقع 136 صفحة، فيما جاء الجزء الثاني بعنوان "العابرون في الظلام" واحتوى 11 فصلا بواقع 136 صفحة أيضا.
توظيف التاريخ السياسي سرديا بغياب الوثائق ينسف المصداقية
بالإمكان تصنيف الرواية بوصفها رواية شخصيات، استعرض الراوي حياتهم في لوحة واقعية اجتماعية حاول جهده تأطيرها بإطار سياسي، فمهد للحكاية في فصلها الأول باستعراض سريع لنهاية المملكة العراقية وبداية العهد الجمهوري عام 1958 مرورا بالانقلابات المتتالية، وتتابعت الفصول مع مرور الزمن مقتفية مسار الشخوص ومصائرهم حتى سقوط نظام البعث وما أعقبها من فوضى وأحداث جسام.
أسهب المؤلف كثيرا في التعريف بشخصيات الحكاية على حساب الحدث السياسي الذي لم نلمح له إلا ظلال باهتة حاول تقعيد الرواية عليها بشكل قسري فلم يكن للفاعل السياسي ذلك التأثير في مصائر الشخصيات بقدر الفاعل الأبرز المحرك لها والمتمثل بنزواتها ومطامعها الفردية وهذا ما ركزت عليه الرواية.
وبإمكاننا القول إن ما تضمنه الفصل الأول يختزل فحوى النسق المضمر الذي سعى الراوي لتسويقه عبر هذا العمل الأدبي والذي يمكن اختصاره بعبارة: "إن كل تعاسة الناس والخراب الذي نال حياتهم سببته السلطة الحاكمة". ولكنه أخفق في النسق الظاهر بإقناع المتلقي بمضمون هذه العبارة، فمع غياب الوثائق التي يمكن اعتمادها منهلا لبناء الحكاية عليها وتوظيفها سرديا، لم يفلح الراوي بصناعة أحداث وخلق شخصيات تعزز ما سعى له والذي مهد له في مستهل الرواية نحو فضح ممارسات السلطة القامعة تجاه ضحاياها (أبرزهم بالطبع حامد الشخصية المحورية) وجل ما سطره المؤلف لنا في هذا السياق هو الشتائم بحق الزعامات السياسية والمبالغة في تضخيم ممارساتهم القمعية بلغة تقريرية سطحية تضج بنبرة الهياج العصبي، فنراه يترجل عن صهوة حيادية الراوي منجرفا مع عواطفه وقناعاته ومواقفه الذاتية إزاء الأحداث والشخصيات الواردة في الرواية، غير متحرج من وصف عبدالكريم قاسم بالزعيم الأرعن "لم يكن الزعيم الأرعن يستوجب منه ومن الذي قام بالثورة معه هذه الأفعال اللاأخلاقية والمخلة بالشرف" الرواية ص 7، وهو يلمح هنا إلى مقتلة العائلة الملكية كما لا يوفر شتائمه للزعيم السوفيتي خروشوف "هنالك ألف لا تعرف لهم قبور بسبب الخائن القذر خروشوف" ص 8.
ويذهب به الخيال بعيدا، فيقدر عدد العراقيين الذين قتلهم البعثيون المنضوون في الحرس القومي بسبعمائة ألف ضحية! ولا نعلم من أين استقى المؤلف هذا الرقم المبالغ به؟ فإذا علمنا أن مجموع سكان العراق عام 1963 بحسب تقديرات الجهاز المركزي للإحصاء نحو سبعة ملايين نسمة، فإن نسبة عدد الضحايا بحسب رواية جودة وبحسبة بسيطة ستكون 10 في المئة من مجموع السكان وهو رقم مهول لا يمكن الركون إليه مطلقا.

حتى تلفيق تهمة القتل لبطل الرواية حامد لإيداعه السجن من قبل عشيق زوجته المفوض نزار ليخلو له الجو مع دلال، لم تكن بسبب انتمائه السياسي السابق لليسار العراقي كما هو مفترض مع سياق الرواية، بل قدمها الروائي كتهمة جنائية بسبب خلاف حامد مع رئيس عماله. وهكذا لم يوفق جودة في توظيف العامل السياسي كفاعل مؤثر في مسار أحداث الرواية. إن انحياز المؤلف لقناعاته الشخصية والانتقاص من الشخصيات السياسية والاجتماعية التي وردت في سير الأحداث والتي لا تتناغم مع رؤيته ومواقفه السياسية والفكرية، مع كيل السباب والشتائم بدا وكأنه تنفيس عن حقد وغضب مكتوم في نفس المؤلف أتاحت له الرواية فرصة تفريغه ليستريح. وخير دليل على ذلك إصرار المؤلف على حشر وتمرير عبارات تتضمن قناعاته الفكرية وآرائه الاجتماعية والسياسية ومواقفه الشخصية إزاء الأحداث في متن الحكاية.
المرأة.. آفة الخراب
بادئ ذي بدء قدم الروائي المرأة في مدونته بصورتها النمطية السائدة في المجتمع والمستندة إلى التراث الثقافي والديني في الثقافة المحلية التي تلصق بها صفات النقص والخديعة والكيد والغدر والخيانة والشهوانية، بالمختصر قدمها الروائي كائنا شريرا.
المؤلف اختار لنسيج روايته إضافة للذكور، أربع نساء اثنتان منهن شخصيات رئيسة "سميرة ودلال" ركز في تسليط الضوء على حياتهن وأدوارهن في أحداث القصة، فيما مر مرور الكرام على الاثنتين الأخريين "أم هشام وسعاد" وعدا أم هشام - زوجة حارس بستان حامد – التي قدمها كامرأة عفيفة، فإنه لم يوفر صفات العهر والسلوك الشائن لبقية النساء. فسعاد حملت بعد علاقة غير شرعية وتخلصت من ثمرة بطنها "دلال" بمنحها للقابلة التي أولدتها.. سميرة العاقر من جهتها تشتري دلال من القابلة لتعوض حرمانها من الإنجاب وبعد وفاة زوجها ترتبط بعلاقة حميمية غير شرعية مع عشيقها خالد.. دلال تنضج في بيت سميرة وتقتفي سيرة مربيتها فتقيم علاقة حسية مع نزار قريب خالد ورغم زواجها من حامد لاحقا لا تتردد في خيانته عبر استمرار علاقتها الجنسية مع نزار والتي أدت أخيرا إلى تلفيق عشيقها تهمة جنائية لزوجها وإيداعه السجن. وهكذا قدم الروائي المرأة كمصدر للسوء والخراب ومحفزا مثيرا لانحراف الشخصيات ومآلاتها المأساوية وسببا مباشرا للأحداث الأليمة في هذه الرواية.
وإذا ما علمنا أن الدافع الجنسي أو اللبيدو (بالإنجليزية: libido) هي رغبة الشخص الجنسية عمومًا أو رغبته في ممارسة نشاط جنسي وأن هذه الرغبة تتأثر بعوامل بيولوجية، ونفسية، واجتماعية، فإن محاولة الراوي - بعد أن حقن شخصياته بجرعات كبيرة من المنشطات الجنسية - إضافة العامل السياسي وإن بشكل غير مباشر كتأثير مضاف لها وهو يستعرض رغبات شخوص روايته هنا بشكل مسرف - لا تبدو مقنعة البتة. وكان الأفضل لو شذب الفصول الأولى من الاستهلالات والإشارات المتعلقة بالجانب السياسي الذي لم نتلمس له ذلك الأثر المحسوس والفاعل على حراك وسلوك الشخصيات والأحداث التي عالجتها الرواية، فانحراف سعاد ودلال وسميرة لم يأت تحت ضغط أو إكراه بسبب انتمائهن السياسي، كذلك ما جرى لحامد لم يكن بسبب ميوله السياسية وتهمة القتل التي فبركها غريمه نزار كانت في إطار الجرائم الاعتيادية التي تحدث في أية بيئة اجتماعية، حتى قيام قصي في خواتيم الرواية بقتل عشيق أمه نزار مستغلا الفوضى التي حدثت أيام الانتفاضة ضد النظام إثر هزيمته في حرب الخليج الثانية جاء انتقاما لأمه ولكرامته بسبب سوء تعامل نزار معهما ولم يكن بدافع المعارضة السياسية. فأين هو الفاعل السياسي المؤثر في مسارات كل هذه الأحداث؟
تردي أخلاق الضحايا تأكل من جرف تعاطف القارئ وتبرر للجلاد
إن انحياز منتج العمل الأدبي شعرا كان أم سردا، للإنسان في كفاحه ضد قامعيه ونضاله من أجل حياة أفضل وكرامة لا تؤتي ثمارها بالنية الحسنة لوحدها، ولإنجاز ما يصبو إليه من أدب كاشف وناقد لممارسات السلطة الظالمة والانتصار للمضطهدين يتطلب منه بدءًا أن يكون ملما بالواقع السياسي والاجتماعي والاطلاع على معلومات موثوقة ووافية بخصوص زمان ومكان الأحداث التي سيوظفها ويعالجها فنيا في عمله الأدبي.
في رواية "القدر صديق سيء" ورغم نجاح مؤلفها سلمان محمد جودة في صياغتها اللغوية الحافلة بالاستعارات والبلاغة وحسن صناعة الجملة. إلا أنه لم يفلح في بناء الشخصيات التي قدمها منغمسة بالرذائل متحايلة كاذبة مخادعة رهينة غرائزها الجنسية وبهذا برر للجلاد من حيث لا يدري حين صوّر ما يفترض أنهم ضحايا القمع والتعسف السلطوي، وقدمهم للمتلقي ملوثين بقدر هائل من سوء الخلق والسلوك لا شأن لهم بالسياسة والسلطة وجل حراكهم لا يعدو ممارسة النفاق والكذب والمكائد والأطماع.
والسؤال هنا: هل يمكن أن يتعاطف القارئ مع ضحايا بهذا الكم من السفالة والانحطاط حتى مع افتراض هيمنة ظلم السلطة الدكتاتورية الحاكمة؟
ألا يستنتج القارئ بعد الاطلاع على سيرة الشخصيات التي صنعها المؤلف أن القدر لم يتصرف معهم بذلك السوء وأن الفاعل السياسي لا شأن له بما قاسوه. وأنهم استحقوا ما نالهم من أذى بسبب أمنياتهم التي تتغذى من بئر الشهوة الجنسية التي استحالت إلى بوصلات مهيمنة قادت خطاهم إلى طريق الإحباط والضياع.
ثم ألا يعد ذلك تقاطعا بين النسق المضمر المستشف في الفصول الأولى من الرواية والأنساق الظاهرة للمتن الحكائي فيما تلا من فصول، بل ونسفا له منتجا خللا بنيويا في بناء حكاية يفترض أنها تعري وتفضح منهج وممارسات سلطات غاشمة تعاقبت على حكم البلد ضمن الفترة الزمنية التي تناولتها الرواية؟