إشكاليّات الترجمة تتجدّد في كلّ آن

محمد جديدي يرى أن القول الفلسفي حول الترجمة، أو في الترجمة وعن الترجمة، سيظلّ مفتوحاً ومستمراً ومتنوعاً.
الترجمة، فلسفياً، رؤية للفعل الترجمي في ميتافيزيقاه وجمالياته وأخلاقياته
المترجم الجزائري يؤكد أن الترجمة أضحت سؤالاً يدغدغ فكره ويفرض نفسه عليه

يرى الباحث الجزائري د. محمد جديدي أن القول الفلسفي حول الترجمة، أو في الترجمة وعن الترجمة، سيظلّ مفتوحاً ومستمراً ومتنوعاً، انطلاقاً من الرغبة في تأكيد الاختلاف والتنوّع اللغوي والتفسير المتعدد بغرض التعايش وعدم النزوع نحو الهيمنة انطلاقاً من اللغة وعبر الترجمة. 
ويقدم في كتابه "الترجمة: رؤية فلسفية" مجموعة أوراق بحثية بعضها قُدِّمه في صيغة مداخلات وبحوث ضمن ملتقيات دولية ووطنية وبعضها الآخر شكّل محور تأمل وتحرير نظري بالنسبة إليه، اشتغل فيها بموضوع الترجمة أو بالأحرى صارت فيها الترجمة موضوعاً فلسفياً وهاجساً لا يفارقه.
يقول "كلّما وجدتُ نفسي أمام قراءة نصّ فلسفي، أو إعداد مقال، أو تحضير درس، أو، بإجمال، إعمال العقل فلسفياً في مسألة ما من الفكر والقيمة والوجود. باختصار، أضحت الترجمة، في تقديري، سؤالاً يدغدغ فكري ويفرض نفسه عليّ لسببين: أولاً: أنّني كلّما توغّلتُ وتعمقتُ في دراسة الفلسفة المعاصرة، وتناولتُ مختلف قضاياها المختلفة، تيقنتُ من مركزية اللغة داخل اتجاهات الفلسفة المعاصرة، ولاسيما الأنجلوسكسونية منها؛ وهو ما يدفع إلى القول إنّ الترجمة مرادفة، في قليل أو في كثير، لمباحث اللغة. فلا معالجة لمسألة اللغة في جوانبها اللسانية والمنطقية والتداولية والإبستمولوجية والسياسية والاجتماعية والإيتيقية بشكل أكبر دون المرور بالترجمة. ومنه، يعني الاعتناء باللغة، فيما يعنيه أيضاً، الاهتمام بالترجمة قولاً فلسفيّاً وخطاباً ناتجاً عن دراسات للغة بوصفها جوهراً إنسانياً.
ثانياً: إنني كلّما تعاملتُ مع نصّ فلسفي باللغة الأجنبية ازدادت قناعتي بالعمل الترجمي، الذي ألجأ إليه شخصياً؛ لأنّ نظيره العربي غير متوافر، أو أعود إلى ما توافر منه بغية القياس والمقارنة. وهو ما يفيد أنّ الترجمة حاصلة لا محالة، ليس فعلاً فحسب؛ بل أيضاً نظراً وتنظيراً تفرضه رؤية فلسفيّة مهما تعدّدت من خلالها طرق وآليات الترجمة، فهي تدعونا على الدوام إلى طرح السؤال الملازم لماهيّتنا الهووية: لماذا نترجم؟ وهو سؤال يتفرّع إلى سؤالين اثنين لا بُدّ من الخوض فيهما؛ أقصد: ما الترجمة؟ كيف نترجم؟
ويؤكد جديدي هنا أن السؤال فلسفي بامتياز لم تتوقف – أعتقد - أذهان الفلاسفة عن الاشتغال به وعليه منذ القديم إلى اليوم، ويشتمل تقريباً على كلّ ما يتعلق بالترجمة فعلاً أخلاقياً وعمليةً معرفيةً، وممارسةً ثقافيةً، وقيمةً جماليةً، وحواراً وتواصلاً بشرياً، ووسيلةً للتثاقف، وكيفيةً للتحويل والنقل، ومنهجيةً في التعامل مع النص، وأسلوباً في التفكير، وأداةً في التقارب والتخاطب، وآليةً من آليات البحث عن المعنى وإثبات الوجود، وطريقةً للتلاقح الحضاري. بكلمة واحدة تلوح منها غاية الفلسفة؛ الترجمة هي التقاربُ بين الشعوب وخلق عالم أكثر إنسانية يطمح فيه أفراده إلى العيش معاً في رفاهٍ وتقدم تؤهلهم الترجمة لقبول بعضهم بعضاً بنبذ التعصب والتطرّف، واحترام الآخر المختلف والاعتراف به كما هو.

في عالم يعجُّ بالتعدّد والتنوّع اللغوي، حتى داخل المجتمع الواحد، لا تصير الترجمة مجرّد جسر بين ضفاف هذه الجُزر اللغوية والبشرية، إنّما تصبح لُغة للعالَم

ويشير في الكتاب الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود إلى إنه من الخطأ تصور أننا أتينا على كلّ ممكنٍ من القول فلسفياً بشأن الترجمة، ويضيف "لا تزال، في تقديري، المساءلات الفلسفية وطروحاتها ومقارباتها لم تنتهِ بعد من الكشف عن أهمية الترجمة وقيمتها على المستويين الفردي والجماعي وكذا السياسي، ودورها المؤكّد في مجالات الاقتصاد والتنمية الثقافية الشاملة وفائدتها بالنسبة إلى الدخل والثروة. فهي لم تخبرنا بعد عن كل مفارقاتها في مختلف الخطابات بين كوني عقلاني وبين مركزي عرقي أو ثقافي أو ديني أو لغوي، بين دعوة إلى الانفتاح والتفتح على العولمة وبين انغلاق تفرضه هوية بثوابت الانغلاق والخوف من التيه والذوبان، بين تمركز ذاتي على اللغة الأم وبين توجه نحو الآخر بدءاً من الترجمة.
ويلفت جديدي إلى أن إشكاليّات الترجمة لا تزال تتجدّد في كلّ آن، وتفرض تناول تجليات أسئلتها المتكثرة والمتفردة. ما القول اليوم في ترجمة تتيحها التكنولوجيات الجديدة عبر الحاسوب، وتتطوّر فيها البرامج لتقدّم أفضل خدمة ترجمية. وهو سؤال يعيدنا إلى جدلية العقل البشري والآلة. هل ستتفوق الآلة على الذهن الإنساني؟ أَستكون لديها قدرة تخزين مفردات تفوق قدرة العقل بما يؤهّلها للقيام بترجمة جيّدة تكون فيها الكلمة الأخيرة لقوّة ووفرة الثروة اللغوية على حساب المعنى، أم ستتمكّن الآلة أيضاً، من خلال الذكاء الاصطناعي، من اصطياد المعنى ومتابعته وفقاً للسياق والأسلوب، وهو ما يجعلها في نهاية المطاف صاحبة القول الفصل؟ 
أمر من الصعب التنبّؤ بمآلاته، لكن المؤكَّد أنّ العقل، الذي صنع الآلة وجعلها أداة مساعدة حتى في ترجمة لغته، قادر على قهر الآلة إذا أراد السيادة والحرية. أما إذا نزع إلى الكسل والخمول فتلك غاية من أجلها لجأ إلى الآلة بوصفها نسخة له؛ أي ترجمة.
ويلخص جديدي إلى أن الترجمة من زاوية فلسفيّة، ليست مُجرّد أداة للتثَاقُف والتواصُل، فرسالتها الأهمّ تقبع في كونها بوابة للانفتاح على الغير والتضامن مع الأجنبي بفضل ما تستند إليه من إتيقا التسامح بحكم استضافةِ الآخر لغوياً قبل أن تتحوّل إلى واقع. 
إن الترجمة، فلسفياً، رؤية للفعل الترجمي في ميتافيزيقاه وجمالياته وأخلاقياته، وهي أيضاً صورة لواقع وآفاق هذا الفعل في يومياتنا وفي تنامي حاجتنا إلى الترجمة، ليس من منطلق الاختلاف اللغوي الذي نعترف به واقعاً ماثلاً بيننا أو على تخومنا؛ بل من منطلق حاجتنا الثقافية إلى فعل لا نتصوّر أنّ حياتنا ستستمرّ من دونه. 
الترجمة - صورةً ومحتوىً - ذات أبعاد شتّى أبزرها البعد الإتيقي. ففي عالم يعجُّ بالتعدّد والتنوّع اللغوي، حتى داخل المجتمع الواحد، لا تصير الترجمة مجرّد جسر بين ضفاف هذه الجُزر اللغوية والبشرية، إنّما تصبح لُغة للعالَم.