في "الأنوات المشوهة" القوة والتفوق يتحققان بالمعرفة

رامي أبوشهاب يطرح جملة من التّساؤلات في قضايا ثقافية وحضارية، وهي في معظمها تتعلق بمخرجات عملية النهضة، والتنوير على مستوى الإنتاج المعرفي.
القوة والتفوق لا يمكن أن يتحققا إلّا بالمعرفة، وخير دليل على ذلك ما اضطلع به العلماء والمستشرقون الأوروبيون قُبيل استعمار قطاعات واسعة من العالم
أبوشهاب يسعى إلى تقديم تصوّر معرفي لمفهوم التنوير النّاتج عن دينامية حضارية حقيقية لا سيما في الغرب

يطرح هذا الكتاب "الأنوات المشوهة.. مقاربات في التنوير والمعرفة واللغة" للناقد د. رامي أبوشهاب جملة من التّساؤلات في قضايا ثقافية وحضارية، وهي في معظمها تتعلق بمخرجات عملية النهضة، والتنوير على مستوى الإنتاج المعرفي، بما في ذلك اللغة التي نعاينها بوصفها منتجاً حضارياً تعرض للاستلاب والهدم، سعيا إلى تقديم بعض الإشارات التي تتمثل بإعادة تمكين الجانب المعرفي بالتّوازي مع تفعيل العقل بهدف تقويض بعض السّنن التي تعوق تحقيق النموذج الحضاري المرجو لأمة، على ما يبدو بأنها تعاني منه على المستويين الثقافي والحضاري.
وأشار أبوشهاب إلى أن تمثيلات حضارتنا على الرغم من وجودها، غير أنها غير فاعلة، أو في وضع مشوّه نتيجة الانحرافات الدّائمة عن تحقيق النموذج الحضاري الذي نبتغيه. وإذا ما نظرنا إلى كافة المشاريع الحضارية بدءاً من النهضة العربية في القرن التاسع عشر انتهاء بأزمنة الربيع العربي، فإننا سنجد أن كافة هذه المشاريع قد ولدت مشوّهة، أو أنها سرعان ما خرجت عن مسارها، وبذلك فقد تحقق ما يمكن أن ننعته بالاستلاب، أو الانهدام للفعل الحضاري.
وقال "إنّ القوة والتفوق لا يمكن أن يتحققا إلّا بالمعرفة، وخير دليل على ذلك ما اضطلع به العلماء والمستشرقون الأوروبيون قُبيل استعمار قطاعات واسعة من العالم، بالإضافة إلى ما تنشط به المراكز البحثية في الغرب من دراسة، وتحليل لكافة قطاعات العالم العربي، ودول العالم. فالهيمنة والتفوق يتطلبان معرفة كافة ما يتصل بالآخر، وتحديداً اللغة، والثقافة، والبنى الاقتصادية، وكذلك القدرات العسكرية التي تستند إلى معرفة علمية وتقنية رفيعة المستوى، وهذا ما يبدو غائباً عن الوعي العربي، إن كان على مستوى المؤسسة الرسمية، أو على مستوى المثقفين الذين ينبغي أن يضطلعوا بدور انتقادي أكثر حدة لمنظومة الفكر العربي التي يعتورها التخاصم والتّنابذ مما يحول دون قيام بحث علمي حقيقي، بالإضافة إلى غياب الحرية، وقيم التّسامح التي تعدّ شرطاً ضرورياً لأي مجتمع يرغب بازدهار البحث العلمي كما يرى الفيلسوف الإنجليزي برتراند رسل".
ولفت أبوشهاب إلى أنه بينما يحتمي هذا الكتاب بمقولة الدرس الثقافي العابر للإشكاليات الحضارية، إذ يتقصّد اكتناه الأنساق الأشد حساسية فيما يتعلق بتوصيف الانهدام والاستلاب الحضاريين الذي تعاني منه الثقافة العربية ممثلة بنظمها، وشعوبها، كما مقولاتها الحضارية.
يطرح هذا الكتاب أسئلة تقع في مجال حيوي حيث يضطرب العقل العربي الذي خضع لمحاولات نقدية من لدن عدد من المفكرين العرب، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، طه حسين، ومالك بن نبي، ومحمد أركون، ومحمد عابد الجابري، وهشام شرابي، إدوارد سعيد، وجورج طرابيشي، وعلي الوردي، وبرهان غليون، وطيب تيزيني، وغيرهم، بيد أن ثمة منهجين للتعامل مع إشكالية النهضة والتنوير: الأول يتمثل بالنظر إلى النموذج الغربي بوصفه المثال الذي ينبغي تمثله، أو على العكس من ذلك، السعي إلى تحقيق نوع من النأي عن هذا النموذج، والنكوص نحو التصور الذاتي أو الدّاخلي للنهضة.
في المحور الأول للكتاب يطالعنا أبوشهاب بتصور يتعلق باستلاب/ انهدام النموذج الحضاري، وأوضح "نعني هنا عدم تحقق النهضة كما التّنوير نظراً لوجود خلل في نسق التكوين الذي تزامن مع نشوء ما يعرف بالنهضة العربية التي لم يتحقق منها سوى دالة الاسم بلا مدلول، ولعل هذا نتج بفعل مفارقة الاشتراطات الحقيقية لوجود المثقف، وفاعليته من حيث نقد النظم المتعالية في مجتمعات لم تتخلص إلى الآن من نسقها التراتبي من حيث الانجذاب اللاواعي لمركز السلطة، كما كافة الارتهانات القائمة للموروث، أو لأنظمة طائفية، أو قبلية، أو ربما إلى مجموعات نخبوية سعت إلى المحافظة على امتيازاتها ضمن علاقة أو تواطؤ مع السّلطة حيث أنتج كل منهما الآخر.

ما التصق بالعربية من تشوهات انبثقت من ممارسات أجزاء من الذّات التي سعت لجعل اللغة العربية جزءاً من خطابها الرافض للآخر، أو بتكوينه العنيف، والرجعي، أو الغارق في الآخر، وكلا النهجين عملا على تشويه اللغة، وحضورها في الوعي

من هنا، تأمل أبو شهاب مفهوم المثقف تبعاً لمواصفات أقرها بعض المنظرين، والهدف المرجو من ذلك، ورسم أطر معرفية للمبادئ التي ينبغي أن ينطلق منها المثقف في سبيل تحطيم النماذج المتعالية من الممارسات، ولكن قبل ذلك النماذج الفكرية التي تتسلل إلى الوعي المتسائل في بحثها عن الخلاص، وبخاصة من وسوم الرجعية، أو الظلامية، ولكن الأهم استعادة (الأنا) التي باتت هوساً يتنكب الذاكرة العربية التي تتكئ على متخيل  ماضوي  بعض مثقفي العالم العربي أو ما بات يعرف برواد عصر النهضة، حيث نختبر فاعليتهم النهضوية في ضوء مواصفات المثقف، والعوائق التي حالت دون أن تتحول النهضة إلى نهج حقيقي، لا مجرد تحديث على مستوى الأدوات والوسائل. وهذا ما يتسق مع مبدأ التّطوري الحتمي الذي يفرضه الزمن بكافة محمولاته الحضارية، في حين أن المنهج والعقل لم يتمكنا من التّخلص من ارتهاناتهما العميقة. 
في محور ثانٍ سعى أبوشهاب إلى تقديم تصوّر معرفي لمفهوم التنوير النّاتج عن دينامية حضارية حقيقية لا سيما في الغرب، مع التّعريج على بعض الأمثلة النقدية لهذا التنوير، وتعليل هذا الاختيار، يأتي من رغبة بتقديم العملية النقدية المستمرة للفعل النهضوي والتّنويري في العالم العربي، والاختلالات المصاحبة لها حيث يمكن أن يلقي الضوء على بعض الإشكاليات التي طاولت النهضة العربية، وتنظيرها المجهض في الأصل، كما على مستوى التطبيق.
وقال "في الطريق إلى النهضة، ومن ثم التنوير، كانت جدلية اتباع النموذج الغربي، تلقي بظلالها على هذا النهج، غير أن التنوير الغربي تعرض لاختبارات نقدية، ومن هنا فقد سعينا إلى تقديم قراءة تحليلية في بعض نماذج من مستويات النّقد الذاتي للتنوير الغربي بوصفه نموذجاً متبعاً، مع التأكيد على أن هذا النموذج على ما فيه من إيجابيات، ولكن ثمة قدراً كبيراً من الإخفاقات التي حفّزت نماذج التفكير النقدي، والتأمل في التّجربة، ومحاولة تقديم الإنسان، وإشكالياته على ما عدا ذلك من قبل عدد من المفكرين الغربيين، ومبعث ذلك التجاوز للعثرات الحضارية، ينهض على الرغبة بتحرير طاقة الأفكار بكافة الاتجاهات من مبدأ الدينامية الفاعلة التي تؤدي في النهاية إلى نقد التّجربة المستمر، ومحاولة الوصول إلى نموذج مثالي، ما يدفعنا للتّأكيد على نجاعة هذا النهج لا بوصفه دعوة للتقليد أو الاستنساخ، إنما هو دعوة لرفض القيود على النماذج الفكرية على الرغم من كافة الاختلافات بينها. 
وفي محور آخر، سعى أبوشهاب إلى "تطبيق قراءة نقدية في معنى القيم المعرفية في العالم العربي فيما يتصل بعملية البحث العلمي، وانعكاساته على التطور في الثقافة العربية، علاوة الرغبة في تعليل هذا الانهدام المعرفي العربي على مستوى إنتاج المعرفة على الرّغم من توفر العوامل المساعدة من موجودات مادية، غير أن كافة المخرجات لم ترق إلى ما يمكن أن نعدّه معرفة فاعلة، أو ذات دور في بناء النموذج المستقل، كونها لم تتمكن من الاستثمار في الموجود المادي، وقرنه مع الفاعلية العقلية، وهنا نتذكر مقولة كانط الذي يرى بأننا لسنا أغنياء بما نملك إنما بما نستطيع أن نفعله بعيدا عما نملك، وهنا نتساءل عن الثروة العربية التي لم تتمكن من إنجاز الكثير على المستوى المعرفي أو البحثي، إذ نستعين ببعض المرجعيات التي قدمت لنا أمثلة على واقع الإنتاج المعرفي والبحثي العربي، ما يجعلنا نستنتج بأن الأنا العربية وقعت في مجال التشوّه كونها لم تتلفّت إلى القيمة الحقيقية للمعرفة التي تمكنت من خلالها بعض الأمم، وبخاصة بعد الحرب العالمية الثانية من الخروج من أزماتها، فعملت على بناء نماذج حضارية واقتصادية وثقافية حيث كانت المؤسسات أو السلطة تستعين بمخرجات البحث العلمي في رسم سياساتها وتوجهاتها، كما في قراراتها، في حين أن البحث العربي يبدو قائماً في جزر معزولة، لا يمارس إلا دوراً ظاهرياً، فهو أقرب إلى مشروع من مشاريع التحديث، أو أحد لوزام الدولة في ظاهرياتها المؤسساتية، وهذا ما يجعلها أقرب إلى الوهم.  
في المحور الأخير من الكتاب قدم أبوشهاب "رؤية تتصل بواقع اللغة ضمن سياقات تاريخيّة حيث نعمد إلى تحليل بعض الظّواهر الخاصة باللغة العربية في إطار تاريخي ثقافي انطلاقاً من أثرها ووظيفتها، في بعض السياقات المعاصرة، وهنا نتكئ بشكل عميق على كتاب نيقولاس أوستلر الذي يسعى إلى تأريخ اللغات، وتموضعها في الإحداثيات الحضارية، بالتّجاور مع مقاربات تحليلية للغة العربية، وما يمكن أن ينتج من تحولات في توظيفها عبر أنساق ثقافية وصورتها في الوعي، ونعني حضورها في مخيلتنا القائمة بوصفها إشارة لكينونتنا أو لذاتنا الحضارية، فاللغة في انكسارها حضارياً، وتشوّهها سوف يقود بصورة أو بأخرى إلى تشوّه الأنا المتصلة بها، ما ينقلنا إلى تقديم بعض النماذج للغة العربية في ضوء السّلوك الحضاري، والمبدأ الذي ننطلق فيه هذا النظر إلى الذّات اللغوية، في تمكينها، أو تحييدها، أو من خلال مواجهتها مع التّحديات التي تنشأ بفعل النموذج الحتمي للتحول الذي يحكم عصرنا، وبخاصة في زمن هيمنة السّيولة الرقمية، وما التصق بالعربية من تشوهات انبثقت من ممارسات أجزاء من الذّات التي سعت لجعل اللغة العربية جزءاً من خطابها الرافض للآخر، أو بتكوينه العنيف، والرجعي، أو على العكس من ذلك الغارق في الآخر، وكلا النهجين عملا على تشويه اللغة، وحضورها في الوعي.