كورونا وأبستمولوجيا الأزمات

دراسة محمد عبدالله يونس والمعنونة في صيغة سؤال محفز ذي دلالة مفاده: كيف ترسم المفاهيم المتداولة ملامح "عالم ما بعد كورونا"؟ 
عالم ما بعد كورونا: انحسار مقولات "مصنع العالم" التي ارتبطت بالصين.
استدعاء مفاهيم العلاقات الدولية في عصر كورونا

يبدو أن الأزمات ستظل دائماً المحفز الرئيس والقوة الدافعة لتشكيل المفاهيم وصياغة النظريات الاجتماعية بشكل عام؛ والسياسية منها بشكل خاص، بما يجعلها بمثابة "نوافذ فرص" زمنية للبحث عن إجابات حول تحديات وظواهر مقلقة يعيشها الوجود الإنساني في لحظة ما أو فترة زمنية معينة. ولعل أزمة انتشار فيروس كورونا المستجد خير برهان على تلك الفرضية التي طالما أثبتت مجريات العصور صحتها حتى لحظتنا الراهنة.
فمع تفشي الوباء الذي يبدو ككابوس ثقيل تعيشه البشرية منذ بضعة أشهر، ظهرت أطروحات معرفية في إطار ما يمكن وصفه بـ"أبستمولوجيا الأزمات"، وهي المعرفة النظرية والتطبيقية التي تخرج من رحم الأزمات والملمّات واسعة النطاق والتأثير على الأفراد والمجتمعات والدول. صحيح أن وقع الأزمة وانشغال الناس بوقعها "المميت" ربما لم تفرز بعد الإطار المعرفي المتماسك حول تلك الظاهرة وتداعياتها، لكنها تتجه رويداً رويداً نحو مزيد من البحث عن مفاهيم ومصطلحات لوصف الواقع الجديد.
من هنا تبدو الأهمية الخاصة للدراسة التي أعدها الباحث محمد عبدالله يونس، المدرس المساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، ونشرها مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، بأبوظبي، ضمن سلسلة "دراسات خاصة"، والمعنونة في صيغة سؤال محفز ذي دلالة مفاده: كيف ترسم المفاهيم المتداولة ملامح "عالم ما بعد كورونا"؟ 
تتناول الدراسة تحليلاً لارتباط تطور المفاهيم والنظريات تاريخياً بوقوع الأزمات والأحداث المحورية ضمن "ابستمولوجيا الأزمات"، وسياقات تحفيز انتشار فيروس كورونا لاستدعاء المفاهيم العائدة وصك أخرى جديدة، وخريطة المفاهيم والمصطلحات الصاعدة في مجال العلاقات الدولية في ظل أزمة كورونا واتجاهات مواجهة انتشار الفيروس، وأخيراً الجدل المحتدم حول ملامح وأركان "عالم ما بعد كورونا".

المرونة والقدرة على الارتداد للحالة الطبيعية بعد انتهاء الأزمة من أهم محددات خرائط الفاعلين وهيكل النظام الدولي وشكل العالم في مرحلة ما بعد كورونا

استهل الباحث ورقته بإطلالة تاريخية عن كينونة الأزمات الإنسانية الكبرى التي مر بها التاريخ البشري وكيف صاغت تلك الأزمات النظريات الفكرية الكبرى؛ السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى العسكرية، تلك النظريات والأطروحات التي لا تزال تجد صدى في الأطر المعرفية الكلية للعلوم الإنسانية حتى وقتنا هذا. فوفقاً لرؤية توماس كون الجامعة حول "بنية الثورات العلمية"، فإن "التغير في العلم يحدث عندما تعجز النظريات السائدة عن تفسير ظواهر العالم"، بما يجعل من البحث عن تفسيرات علمية جامعة للظواهر المعاشة واجب الوقت للمختصين والباحثين والمعنيين بشكل عام، بما لا يعد انفصاماً عن الواقع بقدر ما يعد استباقاً لآفاقه المستقبلية، فقد علمنا التاريخ أن كل أزمة مهما تعاظمت فهي حتماً إلى انزواء وزوال، ويبقى في الأخير كيفية تجاوز تلك الأزمة والبناء عليها لاستمرار حركة الحياة هو الشغل الشاغل للعلماء والباحثين والمفكرين على مر العصور.
ومن ثم انعطفت الدراسة لتتناول دور الأزمات في صياغة النظريات الفكرية الجديدة، على كافة المستويات، ما وصفه الباحث بـ"استدعاء مفاهيم العلاقات الدولية في عصر كورونا"، باعتبارها الإطار الحاكم للسياسات والأساليب التي لجأت إليها الدول المجتمعات والأفراد للتعامل مع جائحة كورونا التي بدت غامضة عن الفهم إلى حد الإغراق في الإنكار لدى البعض لاعتبارات السياسة والاقتصاد والصورة الدولية. فمن سياسات الأوبئة إلى مجتمع المخاطر العالمي، فالثقة السياسية ثم ارتدادات العولمة، بالتوازي مع تناقضات سياسة الانعزالية وقومية كورونا واقتصادات كورونا، وصولاً إلى العلاقة بين الدولة والمجتمع ودور الدولة ورأسمالية الكورونا وتصاعد الأمننة ومجتمع المخاطر العالمي، كلها مفاهيم تم استدعاؤها بتفريعاتها اللامتناهية في التعامل الحكومي وحتى الشعبي والإعلامي مع جائحة فيروس كورونا لتشكل في مجملها محاولات وقائية للتكيف مع وقع الأزمة، بغض النظر عن كون تلك المفاهيم نافذة للبحث عن مفاهيم جديدة ونظريات مستجدة لوصف واقع ما بعد كورونا، حتى ولو كان هذا الواقع المرتقب يبدو غائماً إلى حد كبير.
جمعت الدراسة أيضاً في نسق واحد الإجراءات التي اضطلعت لها الدول حول العالم للتعامل مع أزمة فيروس كورونا. وشملت هذه الإجراءات: التباعد الاجتماعي وتسطيح المنحنى والحق في المحاولة والعزل الذاتي والحجر الذاتي ومناعة القطيع.
ورصد الباحث مشروطيات سياسات احتواء فيروس كورونا والتي يتمثل أبرزها في التكيف مع عدم اليقين وتقدم نظم الرعاية الصحية وسرعة تبني إجراءات المواجهة ووجود دولة قوية مركزية ومجتمع متماسك والقيم الثقافية والمجتمعية الداعمة لإجراءات الوقاية.

الثقافة في زمن كورونا
تصاعد الجدل حول نهاية العولمة

وأشارت الدراسة في محورها الأخير إلى أن جائحة كورونا تصنف ضمن الأحداث المفصلية ذات التأثيرات العالمية الجوهرية، التي سيكون لها ما بعدها، ومن ثم ألقت الدراسة الضوء على جدالات ما بعد كورونا، أو بمعنى أدق جدالات عالم ما بعد كورونا، الذي يكاد يتفق غالبية المتابعين أنه لن يكون كعالم ما قبل كورونا، بشكل دفع إلى استقراء ظلال تغيرات جذرية ستلحق ببنية النظريات السياسة والنظم الاجتماعية التي طالما ظلت محل جدال بحثي وسياسي بين الكثيرين على مدار عقود طويلة خلت.
ولعل أبرز تلك الاتجاهات التي ستشكل ملامح عالم ما بعد كورونا، إعادة هندسة النظام الدولي، وتحول القوة بين الولايات المتحدة والصين، وصدارة الدولة القومية، ومراجعة جدوى التكامل الإقليمي، وإعادة تعريف وظائف التحالفات الدولية، وتصاعد الجدل حول نهاية العولمة، وتحديد مصير الشعبوية، واتجاهات المحاسبة السياسية ومركزية الرعاية الصحية، وصعود مكانة العلماء والمتخصصين. 
وتتوقع الدراسة أن تنحسر مقولات "مصنع العالم" التي ارتبطت بالصين بسبب الانكشاف العالمي بعد وقف الصادرات الصينية بسبب انتشار الفيروس، وسيتم تأسيس مراكز صناعية متعددة حول العالم وستتغير سلاسل توريد السلع والخدمات عبر العالم مع تركيز الدول على بناء قدراتها الذاتية لحماية ذاتها من الانكشاف الناتج عن الاعتماد على الواردات بالإضافة للاتجاهات المضادة للعولمة والتيارات اليمينية والشعبوية الداعية لإغلاق الحدود والحد من تدفقات الهجرة والحمائية.
وتخلص الدراسة إلى أن ملامح عالم ما بعد كورونا لا تزال قيد التشكل بسبب تركيز الدول في المرحلة الراهنة على مواجهة الأزمة والحد من تداعياتها وخسائرها إلا أن المرونة والقدرة على الارتداد للحالة الطبيعية بعد انتهاء الأزمة من أهم محددات خرائط الفاعلين وهيكل النظام الدولي وشكل العالم في مرحلة ما بعد كورونا.