إسرائيل والعقيدة الأمنية الجديدة

غزة مقبلة على معادلة شبيهة بمعادلة الضفة تجمع بين السيطرة الأمنية الإسرائيلية والإدارة المدنية الفلسطينية.

شكلت العقيدة الأمنية الإسرائيلية خلال العقود الماضية مساراً بُنيت عليه أركان الكيان، وقد كانت تلك العقيدة مثار بحث وجدال، لاسيما أن ماهيتها ومحدداتها تعتمد على نقل المعركة إلى أرض الخصم، مع بناء علاقات استراتيجية مع دول الجوار الإسرائيلي، بما يُشكل طوقاً أمنياً يجنب اسرائيل تداعيات وجودها في بقعة جغرافية لطالما شهدت صراعات وحروب أثرت وتؤثر في طبيعة وجودها. لكن وبحكم الأمر الواقع فإن شعار إزالة اسرائيل من الوجود هو شعار غير واقعي ولا يقارب التطورات الشرق أوسطية بعموم عناوينها. فاتفاقيات السلام التي وُقعت مع اسرائيل، باتت اعترافاً شرعياً بوجودها وفق القانون الدولي، وبالتالي ثمة واقع إقليمي يقتضي التعامل معها وفق هندسة أميركية تعتمد على تأمين معادلة أمنية تطوق إسرائيل.

واقعاً ثمة معطيات جديدة تُحاك مشاهدها ضمن شرق اوسط غير مستقر، ليكون هجوم حماس بتوقيته ومفاعيله مفاجئاً بل وصادماً لجهة دقته واختراقاته الكثيرة للعقيدة الأمنية الإسرائيلية، وتالياً فقد كان الهجوم وما أعقبه من ردة فعل إسرائيلية غير متزنة، بوابة لسيناريوهات كثيرة وتوقعات جمة لجهة ما بعد هجوم حماس. ورغم ذلك فإن كل التقديرات لا تزال غير واضحة حيال التحديات التي تواجه حماس في ظل هجمة اسرائيلية أميركية غريبة تُطالب برأسها، تزامناً مع صمت محور طهران والاكتفاء بهجمات مدروسة بدقة بما لا تتجاوز الخط الأحمر الذي وُضع أميركياً.

بصرف النظر عن حجم الدعم الأميركي الغربي لإسرائيل، إلا أن الأخيرة تتصارع مع تداعيات هجوم حماس المفاجئ. وبكل تأكيد فإن ما بعد السابع من تشرين الأول/اكتوبر لن يكون كما قبله إسرائيلياً فقط، دون تغيرات تطال المحور أو عموم الشرق الأوسط الذي عاد إلى معادلة الضبط الأميركي، وضمن المشهد الإسرائيلي غير المتوازن ثمة مشهد جديد يرقى إلى أن يكون عقيدة "طرف" جديدة بمحددات اكثر صرامة حيال فلسطين وعموم المحور. هو مشهد قد تدفع تفاصيله وتطوراته المحور إلى التورط في عمق الصراع وتهديد اسرائيل مباشرةً، ومع الدعم الأميركي غير المقيد لإسرائيل فإن ذلك سيعمل على تفاقم التطورات مع إعادة تقييم الديناميات الإقليمية الحالية. ونتيجة لذلك فإنه من الصعب حالياً تشكيل شرق أوسط جديد يتم تأطير مفاهيمه في سياق التطبيع الاقليمي مع اسرائيل.

ترتكز العقيدة الأمنية الإسرائيلية في مضمونها على محددات أربع: الردع والإنذار المبكر والدفاع والحسم. إلا أن عملية طوفان الأقصى وفي ساعاتها الأولى أسقطت تلقائياً ثلاثة مرتكزات. فقد بدا واضحاً أن الردع الاسرائيلي قد تلاشى مؤقتا ولم يحصل الإنذار المبكر وبموجبه سقط الدفاع، ليبقى الحسم مرتكزاً أخيراً يُرمم ما سبق. ونتيجة لذلك فقد تعالت الدعوات لإعادة النظر في العقيدة الأمنية الإسرائيلية التي تم تصميمها في الأصل لمواجهة الدول وليس المنظمات، الأمر الذي بموجبه سيتم هندسة عقيدة امنية جديدة ترتكز على مفاهيم جديدة لمواجهة أي تحدٍّ سواء من قبل الدول أو المنظمات. ترجمة ذلك جاء عبر يعقوب نجال مستشار الأمن القومي السابق لبنيامين نتنياهو والرئيس السابق بالوكالة لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي، حين قال بعد نهاية الحرب يجب إجراء تغيير جوهري في العقيدة الأمنية الإسرائيلية، بالأخص في مواجهة منظمات إرهابية وليس هناك بعد الآن ردع وإنذار ودفاع وحسم، فالاستنتاج الواضح هو أنه يجب تغيير ركيزتي الردع والإنذار من الأساس وتقوية ركيزتي الدفاع في كل المستويات والحسم.

واهم من يظن أن إسرائيل ليس لديها تصورات لمرحلة ما بعد عملية طوفان الأقصى. فاسرائيل جراء اختراق تلك العملية لعقيدتها الأمنية، بات لديها خطوط عريضة تتماهي مع خطوط الإدارة الأميركية التي لخصها وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن خلال مشاركته في اجتماعات مجلس الحرب الإسرائيلي المكون من الخماسي بنيامين نتنياهو وغلانت وديرمر وغانتس وأيزنكوت. وتمثلت تلك الخطوط في ثلاث قواعد لنهاية الحرب. الأولى ألا تكون حماس، والثانية ألا يكون احتلال إسرائيلي لغزة، والثالثة ألا تُخلف الحرب حالة فوضى في القطاع. وقد كان الرئيس الأميركي جو بايدن نفسه قد أعلن دعمه للقضاء على حماس ومعارضته لاحتلال غزة.

الخطوط الأميركية السابقة مقبولة للمؤسسة الأمنية الإسرائيلية وهي تنسجم في الإطار العام مع أهداف الاستراتيجية الأميركية بالنسبة لقطاع غزة. وتنطلق المواقف الإسرائيلية لمرحلة ما بعد الحرب، من تحقيق الأهداف بما يضمن تحقيق عقيدة أمنية جديدة، تتجاوز في مضامينها ما مثلته عملية طوفان الأقصى من خروقات صدمت المؤسسة الأمنية والعسكرية في إسرائيل.

الساسة الإسرائيليون لديهم تصور بعد نهاية المعارك. لهذا التصور تأثير فاعل في السياسات العامة لإسرائيل وكذا لجهة ممارساتها الراهنة والمنعكسات التي تعمل على صياغة الأهداف المادية للحرب، حيث هناك إجماع إسرائيلي حول بعض ملامح مرحلة ما بعد الحرب إلى جانب بعض نقاط الخلاف. المتفق عليه بالمُجمل هو أن يكون قطاع غزة ما يشبه منطقة "ب" في الضفة الغربية، أي أن تكون المسؤولية الأمنية إسرائيلية وإدارة الشؤون المدنية غير إسرائيلية.

عملية "طوفان الأقصى" زعزعت الهيكلية الأساسية في المؤسسات السياسية والعسكرية والأمنية الإسرائيلية على نحو غير مسبوق، لاسيما أن حالة الإرباك التي أصابت صانع القرار الإسرائيلي بدت واضحة في التردد والتخبط لجهة اتخاذ القرارات الإستراتيجية. ترجمة هذا المُعطى جاء من خلال التردد في الاجتياح البري لقطاع غزة، وارتكاب المجازر بحق الفلسطينيين دون أي هدف سياسي أو إستراتيجي. كل ذلك سيكون له تداعيات تشمل التحالفات السياسية داخل إسرائيل، وثقة الفرد الإسرائيلي بقدرة جيشه، وربما حتى علاقات إسرائيل الدولية، الأمر الذي يدفع إسرائيل إلى المزيد من التوحش بما يُحقق لها أهدافها وإعادة صورتها إلى ما قبل السابع من تشرين الأول، وتأسيس عقيدة أمنية جديدة.

الأزمة التي تمر بها المؤسستان العسكرية والأمنية الإسرائيلية تُمثل نقطة تحول مهمة في تاريخ إسرائيل؛ ذلك أنها زعزعت الأسس والمفاهيم التي استندت إليها العقيدة العسكرية الإسرائيلية. ولا يقتصر ذلك على مفاهيم عسكرية بحتة، مثل استراتيجية الردع الذي طورتها إسرائيل على مدار عقود، بل يتعداها إلى هز أعمدة هذه العقيدة، بوصفها إحدى الركائز المركزية للحفاظ على مشروع الاستعمار الاستيطاني. فالعقيدة العسكرية في السياق الإسرائيلي لا تقتصر على كونها منظومة عملياتية تضع الاستراتيجيات والتكتيكات الحربية، بل تشكّل أحد أبرز مكونات العقلية والهوية والسيكولوجيا الإسرائيلية.

يقوم يعقوب نجال، والذي يُعد من أقرب المقربين لنتنياهو، وفي مقترحاته حول مستقبل قطاع غزة والعقيدة الأمنية الجديدة، يقوم بتوسيع مفهوم الدفاع ليشمل شريط الموت على الحدود وهيمنة أمنية على غزة. وما من شك بأن الاتجاه العام في إسرائيل هو عدم الركون إلى الردع والإنذار وتقوية الأنظمة والترتيبات الدفاعية وشن الحروب الاستباقية بادعاء الدفاع عن النفس. بل ثمة ما هو أعمق من ذلك، فإسرائيل ما قبل السابع من تشرين الأول لن تكون كما بعده، وهي بصدد تشكيل معادلة أمنية جديدة تُطوق خصومها، وللولايات المتحدة معادلات شرق أوسطية في عمق العقيدة الأمنية التي تسعى إسرائيل لتحقيقها.