التداخلات والتشابهات.. من أوكرانيا إلى غزة سرديات أميركية

تذكرة لكل نماذج التدخلات الخارجية الأميركية والسرديات السياسية التي اعتمدتها واشنطن من فيتنام إلى أفغانستان والعراق.

قد تكون التساؤلات التي تؤطر حربي أوكرانيا وغزة حيال النهايات المتوقعة والسيناريوهات المطروحة إنعكاساً لواقع دولي متشابك ومعقد. فلا حرب أوكرانيا حُسمت، ولا حرب غزة انتهت. لكن ثمة ما بين الحربين روابط وسرديات تُظهر أن الحربين في المشاهد النهائية ستؤدي إلى اعادة تعريف وصياغة النظام الدولي، أو إبقاءه ضمن عناوينه الحالية في ما يتعلق بحرب أوكرانيا وكذا العناوين الاقليمية ومفردات الصراع الفلسطيني الاسرائيلي في ما يتعلق بحرب غزة، لكن بين هذا وذاك فإن الحربين وما تحتويه من سرديات أميركية ستكون بلا ريب نقطة تحول في السياق الدولي وليس مجرد انعكاس لتأثيرات الحربين على الملفات الاقليمية والدولية.

حرب أوكرانيا كان واضحاً ومنذ بدايتها أنها ليست مجرد خلاف بين موسكو وكييف على حدود متنازع عليها، ولم تكن مجسدة بردة فعل موسكو حيال نوايا كييف عن الانضمام إلى حلف الناتو الأمر الذي تراه روسيا تهديداً لأمنها القومي. ورغم تلك السرديات التي ركزت عليها موسكو، إلا أن سياق الحرب في أوكرانيا أفصح صراحة عن نوايا روسيا حيال ضرورة إعادة مراجعة طبيعة النظام الدولي، وضبط الهيمنة الأميركية وتأطير توجهاتها مع ضرورات إحترام رغبات موسكو وسياساتها الدولية.

في المقابل ثمة سرديات سياسية أميركية تتجاوز حق أوكرانيا في الدفاع عن حدودها، وتتجاوز حقها في انتقاء خياراتها وتحالفاتها الخارجية، وإنما انتقلت واشنطن بصورة واضحة وصريحة إلى أن ما يحدث في أوكرانيا هي مواجهة بين العالم الحر وقيم الديمقراطية في مواجهة القومية والديكتاتورية. الحرب في أوكرانيا أكدت على عدم تراجع الهيمنة الأميركية ورفضها تغير موازين وترتيبات النظام الدولي الراهن، وعدم السماح بصعود أقطاب جُدد، وترسخ هذا بقبول القوى الأوروبية لتبعيتها وانطوائها تحت القيادة الأميركية في معركة استنزاف طويلة الأمد لمنع هذه التحولات.

الحرب في غزة هي حلقة في صراع تاريخي طويل. هي حلقة تجسد آخر حروب الاستقلال، ويبدو أن المقاربات المتعلقة بعناوين تلك الحرب، لا تتناسب والسرديات الغربية أو الأميركية حيالها. فالحرب في غزة يتم إسقاطها في أطر حق اسرائيل في الدفاع عن نفسها، وأيضاً مع ضرورات وضع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في معادلات إقليمية تُفضي تسويات على مقاس اسرائيل وتتجاهل حق الفلسطينيين في أرضهم وتاريخهم وحتى الدفاع عن أنفسهم في مواجهة آلة القتل الإسرائيلية.

مع بداية الحرب الروسية في أوكرانيا جيّشت واشنطن العالم ضد روسيا واستثمرت واشنطن في هذا السياق مفاهيم حقوق الشعب الاوكراني وحريته مع ضرورة احترام القانون الدولي الإنساني، مع التركيز أميركياً على جرائم موسكو في أوكرانيا. بينما كان واضحاً التحفظ الاميركي حيال حرب غزة وما يعانيه الفلسطينيون جراء جرائم إسرائيل والانتهاكات المستمرة، وهو ما طرحه حتى الخطاب الرسمي الروسي على لسان الرئيس فلاديمير بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف لجهة المقاربات الأميركية حيال حربي أوكرانيا وغزة.

مع بداية الحرب في غزة وضع البعض حالة الإنشغال الأميركي سياسياً وإعلامياً في هذه الحرب، في أطر الإنسحاب الهادئ والتدريجي من جبهة أوكرانيا، لاسيما مع بوادر الهزيمة الغربية والتي بدت واضحة إبان ما سُمي الهجوم الأوكراني المضاد، وبذلك فإن الحرب في غزة أعطت الولايات المتحدة فرصة للإنسحاب وللتغطية على فشل جهودها وانفاقها في أوكرانيا.

ترجمة ما سبق تُثبته وقائع كثيرة من أهمها عودة القوات الروسية للزحف مجدداً في مناطق جديدة، مما يعني في الأقل أن أية مفاوضات أو تسويات قد تحدث قريباً لن تشمل الانسحاب الروسي من مناطق تعدها استراتيجية، وأنه حتى إذا تنازلت عن جزء من الأراضي التي تحتلها فما ستتمسك به سيكون كافياً لإعلان انتصارها في هذه الحرب.

ما يجري في غزة قامت موسكو باستثماره من خلال كشفها زيف ادعاءات الغرب لجهة حقوق الإنسان وعدالة المؤسسات الدولية. كما حاولت موسكو تعرية السرديات الأميركية في ما يتعلق بحرب أوكرانيا ومقاربة خطابها في ما يتعلق بحرب غزة، وبين الحربين يبدو أن موسكو من أكثر المستفيدين من حرب غزة، نظراً للخدمات الكُبرى التي قدمتها تلك الحرب لوجهات النظر الروسية.

حرب غزة أماطت اللثام عن صورة واشنطن لجهة السرديات التي توظفها في إطار سياساتها الخارجية. والأهم أن حرب غزة أكدت بأن واشنطن لا تلتزم بالقيم والمبادئ الدولية التي تتشدق بها من وقت لآخر وتوظفها كمسوغ لاستحقاقها لمكانة الصدارة الدولية، إضافة لعناصر قوتها المادية الهائلة، وعليه فإن احتمالات الإخفاق التي تتزايد في أوكرانيا ستقدم دليلاً آخر على سوء حسابات وعدم تقدير مناسب للكلفة الضخمة التي تحملتها وحلفائها والاقتصاد العالمي من أجل استنزاف روسيا التي ستخرج منهكة ولكن غير مهزومة، وسيشكل كل إضافة إلى الصورة السلبية الأميركية التي تعجز عن تحقيق أهدافها ولا يمكن الاعتماد على التحالف معها.

الولايات المتحدة في حربي غزة وأوكرانيا هي طرف رئيس. في الأولى من خلال تحالفاتها العميقة مع إسرائيل، والثانية من خلال هيمنتها على القرار الغربي والذي تراه واشنطن جزءاً من إعادة صياغة النظام الدولي. لكن يصعب القول بأن عناوين حرب غزة تماثل عناوين الحرب في أوكرانيا من ارتباط مباشر بصياغة مستقبل النظام الدولي وإن كانت إعادة صياغة هذا النظام إذا اكتملت ستؤثر قطعاً في القضية الفلسطينية والقضايا الأخرى. وفي كل هذا تذكرة لكل نماذج التدخلات الخارجية الأميركية والسرديات السياسية التي اعتمدتها واشنطن من فيتنام إلى أفغانستان والعراق، ولتظل إسرائيل وحدها هي التي تحظى من واشنطن بدعم غير محدود وفي الوقت نفسه هي الشراكة الأكثر تشويهاً لصورتها الخارجية والأكثر كشفاً لمعاييرها المزدوجة.