الخطابان الإيراني والتركي.. حين تُحرر القدس إلكترونياً!

من وحدة الساحات إلى وحدة الشعارات دون الفعل: هكذا ترى طهران وأنقرة الأمر بعد "طوفان الأقصى".

لم يكن مُستغرباً في ظل ما تشهده الأراضي الفلسطينية المحتلة أن يبقى الخطاب الذي تتبناه الدول التي ترفع لواء تحرير فلسطين ضمن مفردات وعناوين لا تُحقق غايات وأهداف الفلسطينيين بل تُحقق لمُطلقيها استثماراً سياسياً يُمكن توظيفه في سياق المشاريع الإقليمية، ومع دخول عملية طوفان الأقصى أسبوعها الرابع ومع تعميق عناوين الإجرام الاسرائيلي إلا أن الواضح في هذا الإطار حالة الخطابين الإيراني والتركي تُجاه التطورات الفلسطينية، لاسيما أن الدولتين تُقدمان نفسيهما أنموذجاً طليعياً في تبني القضية الفلسطينية وخدمتها، لكن لكل منهما استثماراً سياسياً يخدم مصالحه في المنطقة.

في توصيف الخطابين الإيراني والتركي، يبدو أن إيران وصبرها الإستراتيجي قد دخل في سياق المصالح الإقليمية التي لا يمكن المساس بها ولو على حساب القضية الفلسطينية، ليكون بذلك الخطاب الإيراني مُتفرداً في نظم بيانات الإدانة والتهديد بتوسيع رقعة الحرب، لكن يبدو واضحاً أن هذا الخطاب بات عبئاً استراتيجياً ثقيلاً على طهران، ولا يمكن المجازفة بما تم تحقيقه إقليمياً ودولياً لاسيما المصالحة مع السعودية وكذا مسار الإتفاق النووي. أما الخطاب التركي يُجيد كعادته الاستدارة في التوقيت المناسب، لتقديم نفسه كفاعل إقليمي مؤثر، ولا ضير من دغدغة مشاعر الأمتين العربية والاسلامية، في خطاب برع أردوغان في استثماره وتوظيفه في مناسبات عدة، في مشهد يبدو وكأنه الوريث الشرعي للخطاب الإيراني في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية.

إيران وتركيا قوتان اقليميتان على تخوم العالم العربي، وهما تتنافسان على النفوذ في المشرق العربي وتتخذان من فلسطين وقضيتها عنواناً للتمدد والتدخل والاستثمار السياسي. لكن في ظل عملية طوفان الأقصى والتطورات المتسارعة في فلسطين، امتنعت الدولتان عن التدخل إلا بما يخدم مصلحتهما، وبما لا يؤثر في مرحلة لاحقة على ما يُمكن أن تُفرزه تطورات عملية طوفان الأقصى.

معركة طوفان الأقصى كشفت جلياً الخطاب الإيراني المرتبك والذي لم يرقَ لمستوى الحدث الفلسطيني بعناوينه العميقة، فما تشهده التطورات في فلسطين أماطت اللثام عن سياسة إيران وعموم المحور تُجاه فلسطين لتبدو وحدة الساحات في ظل المعركة الفلسطينية شعاراً تُعلق عليه سياسات التمدد الإقليمي، وبذلك فإن الخطاب الإيراني الذي رفع شعار دعم وتحرير فلسطين لم يكن إلا لتحقيق الجاذبية في مضمون الخطاب وللتدليل على أمرين: احدهما ما تسميه إيران "نُصرة المستضعفين ومقارعة الإستكبار العالمي"، والأخر معاداة الولايات المتحدة وإسرائيل بما يُرسخ الصورة الذهنية عن إيران لجهة أن إيران تتبنى إستراتيجية المقاومة التي تسوقها في المنطقة.

تركيا تراقب الخطاب الإيراني وما يرتبط به من سلوكيات سياسية، وهي تدرك حجم المأزق الإيراني في معركة طوفان الأقصى حيال إمكانية التدخل المباشر في المعركة أو السماح لفصائل المقاومة بالتدخل لكن ضمن شروط الرد والمدروس بدقة وبما لا يسمح بالانجرار لحرب إقليمية واسعة، وضمن هذا التوجه الإيراني فإن تركيا ستبحث عن إمكانية ملء الفراغ الذي أحدثه الخطاب الإيراني المُنكفئ. ورغم أن أنقرة حاولت في وقت سابق لعب هذا الدور بعد محاولة السفينة التركية "مرمرة" كسر حصار غزة وتعرضها لهجوم دموي إسرائيلي عام 2010، إلا أن المصالح التركية تقتضي اليوم بعدم استعداء إسرائيل ومحورها الأميركي الغربي الاطلسي.

الخطاب التركي تُجاه القضية الفلسطينية لخصه وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بقوله "إما الذهاب إلى سلام تاريخي وإما إلى حرب إقليمية شاملة". لكن اللافت أن الخطاب التركي قدم نفسه كضامن لأي اتّفاق سواء بمفردها أو بالتّعاون مع دول عربية. تقدير الموقف التركي انتهى إلى أن الحشود الاميركية والغربية التي جاءت إلى المتوسط هي أكبر من قطاع غزة، وتلك الإمكانيات العسكرية جاءت لهندسة واقع اقليمي جديد وإعادة ترتيب المنطقة ضمن إطار النظام العالمي والذي تتزعمه الولايات المتحدة دون منازع وهذا ما أثبتته عملية طوفان الأقصى. لكن لا ضير من رفع الصوت عالياً تُجاه فلسطين والإسثتمار بالقضية الفلسطينية وأحداث غزة وتحذير إسرائيل من مغبة الإستمرار في حربها ضد الفلسطينيين، فالرهان التركي في هذا الإطار يتمحور حول حاجة الولايات المتحدة والعواصم الاوروبية وحتى الناتو للدور التركي في مواجهة التهديدات الروسية، في هذه المرحلة على الأقل، إضافةً إلى إدراك تركيا أن الولايات المتحدة ستدخل في فترة الجمود الاقليمي استعداداً للانتخابات الرئاسية.

على أرض فلسطين تجد طهران نفسها في مواجهة شريك إسلامي يتحدث مثلها عن فلسطين، لكنه شريك يعمل على نزع راية تحرير القدس منها، لا سيما أن إيران لن تقدم في المعركة أكثر من خطابات وتصريحات الوزير أمير عبداللهيان. وهنا يجلس أردوغان على أرجوحة تتحرك به بين "الولايات المتحدة ومحورها" و"الأمة الإسلامية"، ليكون أردوغان في حالة من الاسترخاء الكامل بإعلانه الوقوف مع الفلسطينيين والبكاء عليهم وفي ذات التوقيت مراعاة مصالح إسرائيل، وبقبوله انضمام السويد إلى حلف الأطلسي فإنه يوجه رسالة صداقة إلى الولايات المتحدة والغرب اللذين يتبنيان صراحة الهجوم الإسرائيلي، الذي يزداد شراسة على غزة وسكانها ويحذران إيران من التورط وإلا فإنها ستكون مسؤولة عن تعميم "الإرهاب" في الشرق الأوسط وتتحمل النتائج.

إيران التي اعتادت توظيف ملفات وقضايا المنطقة للمساومة في علاقتها بالغرب ولاسيما واشنطن وفي حين شهدت العلاقات بين طهران وواشنطن تهدئة، فإن إيران لا تريد خسارة ما حققته من مكاسب، وبالتالي فمن غير المرجح أن تتدخل إيران لدعم "حماس" في مواجهتها مع إسرائيل لعدم إغضاب الولايات المتحدة في الوقت الراهن، لاسيما أنه ليس هناك توتر في العلاقات معها يستدعي تدخل إيران للضغط على الغرب. كما أن طهران وحفظاً لماء الوجه تحاول دفع بعض وكلائها لإطلاق بعض الهجمات ذات الإطار العسكري المنخفض على القواعد الأميركية في سوريا والعراق، إذ تعي إيران وإسرائيل وواشنطن قواعد الاشتباك بينهم التي بموجبها تستطيع أن تُحدد مقدار الهجمات العسكرية منخفضة الشدة أو التصعيد العسكري الهادف إلى خسائر فادحة.

إيران كدولة انكفأت عن التدخل المباشر في الصراع مع اسرائيل، وأبقت صواريخها المخصصة لتحرير القدس في المخازن، وفي المقابل فإن أردوغان يعمل على تصعيد خطابه السياسي تحضيراً لإعلان إسرائيل مجرمة حرب وحماس حركة تحرير لا منظمة إرهابية من دون أن يعني ذلك خلافاً مع إسرائيل، اذ قالها أردوغان قبل أيام بوضوح أمام البرلمان "أن لا مشكلة لتركيا مع دولة إسرائيل"، وبهذا فإن الخطاب التركي يوفر لأنقرة دوراً تسعى إليه هو دور "الضامن" لتسوية قد تحصل بعد الحرب بما يوفر لها حضوراً مباشراً في غزة وربما ملفات إقليمية أُخرى. وما بين خطاب الإدانة والإستنكار والتهديد التركي والإيراني، وبين الحفاظ على المصالح والمكتسبات، سيبقى تحرير القدس إلكترونياً!