الرهانات المعقدة في حرب غزة

الحرب تتحرك بعيدا عن مطالبات حماس وإسرائيل معا، نحو واقع جديد للمنطقة تمسك الولايات المتحدة بخيوطه تماما.

لا أفق سياسي ولا تسويات متوقعة لحرب غزة. فالحرب التي دخلت شهرها الخامس لا تزال تراوح ضمن جُملة أهدافها الرئيسية المتعلقة بطرفيها المباشرين حماس وإسرائيل الرافضين لخيار حل الدولتين، في مقابل طرفين غير مباشرين هما الولايات المتحدة وإيران اللذان يحاولان تمرير سياستهما من وعبر الحرب في غزة وعلى أجساد ضحاياها. فالولايات المتحدة وجدت في حرب غزة وما يدور في جغرافيتها، فرصة ذهبية لتسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وإنهاءه عبر حل الدولتين، مع تعزيز عناوين الأمن الإسرائيلي وتدعيمه بالمزيد من اتفاقيات التطبيع الإقليمية، في مقابل إيران التي وجدت في حرب غزة مساراً يمكن تعبيده بأجندتها الإقليمية، واستمرار تبرير تواجدها في المنطقة عبر بوابة تحرير فلسطين، وبصرف النظر عن شعار التحرير بمعناه الوهمي، إلا أن إيران ترى في الورقة الفلسطينية وشعارات التحرير، مسوغاً لدورها ونفوذها الإقليمي، الأمر الذي يُفسر مصطلحات الإسناد والدعم ووحدة الساحات، لدى الفصائل المرتبطة بإيران، والذين يرون في التسوية السياسية في فلسطين، اندثاراً لمعاني التحرير وانتصاراً لإسرائيل.

على طاولة التفاوض ثمة ورقة واحدة يتم تداولها بشأن الحرب في غزة. هي ورقة عنوانها الرئيس هدنة لأشهر واتفاق على تبادل الأسرى لدى طرفي النزاع المباشرين. أما المتدخلون غير المباشرين فهم بدورهم يعملون على تكريس تبادل الأسرى، كُلً وفق منظوره ومصالحه، فضلاً عن أدوار جانبية تقوم بها قطر ومصر لتذليل الخلافات وتحييدها. لكن ضمن ذلك ثمة خلاف يبدو أنه عصيّ على الحل؛ حماس تُصر على وقف إطلاق النار الشامل، وانسحاب الجيش الإسرائيلي من غزة بالكامل، لتحقيق صفقة تبادل الأسرى وإقرار الهدنة. أما نتنياهو يرفض تحقيق شروط حماس بالمطلق، ويرى في رغبات حماس شروط إيرانية، الأمر الذي يزيد من تعقيد مسار التفاوض.

واقع الحال يؤكد بأن كل الأطراف المباشرة وغير المباشرة في حاجة إلى إقرار تسوية سياسية طويلة في فلسطين، وتعزيز واقع التهدئة بشتى الوسائل. فحماس بحاجة إلى إعادة ترتيب أوراقها القتالية وعودة المهجرين إلى غزة، إلى جانب البدء بإعادة الإعمار، والكل في حاجة إلى صفقة التبادل، والأهم أن حماس بحاجة ماسة إلى ما يُمكن تسميته باستراحة محارب. في المقابل فإن إسرائيل أيضاً بحاجة إلى إعادة ضبط لمعادلاتها الأمنية والاستخباراتية، وإعادة تنظيم صفوف الجيش، والأهم لدى إسرائيل هو إعادة المستوطنين المهجرين إلى مستوطناتهم في غلاف غزة.

في ذات الإطار فإن الولايات المتحدة والغرب عموماً بالإضافة إلى بعض القوى الإقليمية، يعملون جدياً وبسرعة على إقرار تسوية بعنوان حل الدولتين. فالكل يُدرك خطورة عدم التوصل إلى تسوية سياسية في فلسطين، لاسيما أن التصعيد قد يقود إلى حرب إقليمية واسعة لا يريدها أحد، حتى وإن كانت نوايا نتنياهو جر الولايات المتحدة إلى تلك الحرب، وحتى لو صرحت إيران وفصائلها بأنها مستعدة لتلك الحرب، إلا أن الواقع يدحض ادعاءات نتنياهو وإيران، فالحرب الإقليمية الواسعة تعني في ما تعنيه من لهيب سيطال الجميع.

في الرهانات، فإن حماس والأسرى الذين تحتجزهم، فإنها تنظر إليهم كورقة ثمينة ومصدر قوة لا يمكن التفريط بها، إذ أنه ومن خلال هذه الورقة فإن حماس قد تحصل على تسوية سياسية تناسب المقاس الحمساوي، وهي تدرك أن ورقة الأسرى لديها حساسية خاصة وتحديداً في الداخل الإسرائيلي حيث أهالي الأسرى وضغوطهم المستمرة على نتنياهو، وهم يريدون ايقاف الحرب واستعادة أبناءهم بأي الأثمان.

نتيجة لذلك فإن نتنياهو بات أيضاً في دائرة ضيقة، ويسعى للخروج منها عبر استعادة الأسرى، خاصة أن هذا الملف يُكبل يداه ومستقبله السياسي، ويمنعه من التحرك في جبهات أُخرى لتصفية أعدائه، ورغم أنه يريد إتمام عملية تبادل الأسرى، إلا أنه يرفض بالقطع تقديم أثمان سياسية حيال هذا الملف، فهو يريد الاستمرار في الحرب وتوسيعها، ويسعى لإبقاء الجميع في حالة من التأهب، حفاظاً على كرسي رئاسة الوزراء، ولإبقاء ملف فساده ومحاكمته طي النسيان. وللتذكير فإن نتنياهو راهن في السنوات السابقة على بقاء حماس في غزة لتكريس الانقسام الفلسطيني، وإضعاف السلطة الفلسطينية، وكضمان ضد "حل الدولتين"، لكنه اليوم وبعد عملية طوفان الأقصى وجد نفسه مُكرهاً على حرب القضاء على حماس وقطف رؤوس قياديها، من دون أن يتخلى عن رفضه قيام دولة فلسطينية.

بين الرهانات المعقدة في حرب غزة، ثمة ما هو أعمق من ملف الأسرى. هي رهانات تؤطرها تساؤلات عميقة تتعلق بإمكانية حرق ورقة الأسرى لدى حماس لاسيما في حالة الاستمرار على شروط الصفقة، وفي المقابل فإن استمرار الحرب والهمجية الإسرائيلية وصورة نتنياهو، قد يكون ذلك مدعاة لتطبيق الجيش الإسرائيلي ما يسمى "بروتوكول هنيبعل"، أي قتل المختطفين مع الخاطفين.

بين هذا وذاك فإن كل المشاهد في حرب غزة معقدة، ورهانات الأطراف المباشرين وغير المباشرين كثيرة ولا يُمكن تحقيقها، ليبدو واضحاً أن الحرب في غزة هي حرب دون نتائج حاسمة، فلا اسرائيل تستطيع القضاء على حماس جسداً وايديولوجية، ولا حماس بإمكانها استعادة وضعها في غزة ما قبل السابع من تشرين الأول 2023، ولا "محور المقاومة" يريد حرباً انتحارية تُهدد إيران ومشروعها الإقليمي، وبذلك فإن الولايات المتحدة ستبقى ممسكة بكافة الخيوط، وتعمل على تحقيق معادلة حدود القوة واللعبة واقعاً، ليبقى ضمن كل ما سبق شعار تحرير فلسطين على الشاشات فقط.